بعد مدينة صفاقس ومعتمديتا واد مليز وغار دماء من ولاية جندوبة، التّي انقطع عنها الماء طيلة ايّام أواخر الأسبوع الفارط، جاءت حادثة انفجار قناة جلب المياه الرئيسية بجهة الزهروني لتعيد قضيّة العطش واضطرابات توزيع المياه الصالحة للشراب إلى واجهة الاهتمام الإعلاميّ ولتتصدّر تفاعلات المواطنين على مواقع التواصل الإجتماعيّ. إلاّ انّ قضيّة سوء التصرّف في الموارد المائيّة وإضطرابات توزيع المياه الصالحة للشراب، مثّلت طيلة السنوات الفارطة معاناة شبه موسميّة لعدد كبير من ولايات الجنوب والوسط وحتّى الشمال الغربيّ الغنيّ بالموارد المائيّة والسدود. ملّف ظلّ ثانويّا على قائمة اهتمامات الرأي العام والسلطة السياسيّة حتّى بلغ الضرر العاصمة، رغم دستوريّة هذا الحقّ كما جاء في الفصل 44 من دستور جانفي 2014. العطش، يطرح من جديد إشكاليّة قضيّة إدارة الدولة لهذه الثروة الطبيعيّة الأهمّ، ويضع أكثر من نقطة استفهام حول جديّة تعامل السلطات المعنيّة مع المشاكل المتراكمة والمتنوّعة المرتبطة بملفّ المياه في ظلّ تقارير تؤكّد الفقر المائيّ لتونس وتأجيل البتّ في مشروع مجلّة المياه.

إضطرابات التوزيع: العاصمة تنضاف إلى القائمة

لم يكن انقطاع الماء عن ثلاث ولايات تقريبا ومن ضمنها تونس الكبرى خلال الأسبوع الفارط، سوى فصل آخر من الأزمة المزمنة لتوزيع المياه الصالحة للشراب في كامل البلاد. فمع عودة الضخّ التدريجيّ عبر قناة الزهروني ما تزال جهات أخرى محرومة من المياه الصالحة للشراب. واقع تكشف عنه الاحتجاجات المتواصلة التّي تشهدها حتّى هذه الساعة العديد من الجهات وسط وجنوب البلاد على غرار جلمة وبير الحفي في سيدي بوزيد أين عمد المتساكنون يوم الإثنين 09 جويلية الجاري إلى قطع الطرق إحتجاجا على اضطرابات التوزيع المتواصلة منذ ثلاثة أشهر متواصلة، إضافة إلى الرديّف وباقي مدن الحوض المنجميّ. في هذا السياق، أحصى المرصد التونسي للمياه 260 حادثة انقطاع للمياه خلال شهري ماي وجوان 2018، لم تستثن جهة أو ولاية من شمال البلاد إلى جنوبها رافقتها تحرّكات إحتجاجيّة بلغ عددها خلال شهري ماي وجوان من هذه السنة 104 احتجاجا نصفها في ولايتي قفصة والقيروان.

حادثة قناة جلب المياه في منطقة الزهروني (غرب العاصمة) على مستوى مفترق بن دحّة

وقد تصدّرت ولايتا قفصة والقيروان للسنة الثالثة على التوالي أعلى نسب قطع المياه الصالحة للشراب عن المواطنين، حيث تمّ تسجيل 34 حالة في ولاية قفصة تليها القيروان ب28 حادثة إنقطاع. أما المراتب الأربع الباقية، فكانت تباعا من نصيب سيدي، مدنين، المهدية وقابس. وتكشف الإحصائيات المسجّلة أنّ أكثر من 15% من حوادث انقطاع المياه الصالحة للشراب، كانت في الولايات الأغنى بالمياه السطحية على غرار باجة وجندوبة وبنزرت والكاف. حيث سجّلت الولايات المذكورة 39 حادثة مماثلة وهي التي توفّر 74% من الإيرادات السنوية من المياه السطحية المقدّرة ب2.7 مليار متر مكعّب.

مواطنون بصدد التزود بالمياه في منطقة المروج اثر إنقطاع المياه إنطلاقاً من 4 جويلية. صورة لايوب ضيف الله

الفقر المائي ليس السبب الوحيد…

تتمحور أغلب التبريرات التّي تلجأ إليها السلط المعنيّة للتنصّل من مسؤوليّة الدولة في أزمة العطش الراهنة، إلى مسألة الفقر المائيّ لتونس. مقاربة ارتكز عليها وزراء الفلاحة المتتالون على غرار وزير الفلاحة السابق سعد الصديق والحالي سمير بالطيّب، الذّين أكّدا انّ تونس تعيش حاليا تحت خط الفقر المائي نظرا لتراجع التساقطات بنسبة 28% خلال العقدين الأخيرين. هذه التصريحات تغاضت عن التحذيرات المبكّرة من خطر الجفاف، والتّي نبّه إليها البنك الدولي منذ سنة 2009، في تقرير استشرف دخول البلاد في أزمة فقر مائيّ خلال السنوات الخمس اللاحقة. وتعزو هذه الدراسة الأزمة الحاليّة إلى اعتماد البلاد لتوفير ثلاثة أرباع حاجياتها من الماء على المياه السطحيّة أي مياه الأنهار والأمطار، والتّي لا تتركّز إلاّ في مناطق محدودة في شمال البلاد وغربها. استراتيجيّة أثبتت فشلها مع تذبذب الكميّات السنويّة للأمطار وإستنزاف احتياطيّ المياه الجوفيّة غير المتجدّدة في الجنوب التونسيّ. أماّ العامل الثاني المسبّب لمشكلة شحّ المياه بحسب التقرير المذكور، فهو استهلاك ما يزيد عن 82% من احتياطي المياه العذبة في الزراعة، في حين لا يتجاوز نصيب الأفراد للمياه الصالحة للشراب نسبة 18%.

هذه الإنذارات التّي أطلقتها المنظّمة الدوليّة منذ قرابة عقد من الزمن، يترجمها اليوم ارتفاع حوادث انقطاع المياه الصالحة للشراب من 122 في جوان 2016 إلى 260 حالة في جوان 2018 وإرتفاع حالات التبليغ عن اضطرابات التوزيع من 395 بين شهري ماي وجوان 2017 إلى 404 خلال نفس الفترة من السنة الحاليّة. هذا الوضع المتدهور لمنظومة التصرّف في الثروة المائية وتنامي الاحتجاجات المرتبطة بها ينبأ أكثر من أي وقت مضى بانتفاضة عطش.