بعيدا عن مسرح العمليّات، أين تتكثّف عمليّات التمشيط في منطقة عين سلطان، تشهد الساحة السياسيّة بدورها حركة دؤوبة كلٌّ وفق حساباته الخاصّة. إذ مثّلت العمليّة الإرهابيّة الأخيرة في 08 جويليّة الجاري، وفداحة الخسائر البشريّة، فرصة لإحماء صراعات السلطة التّي بدأت تشهد خمولا ملموسا تزامنا مع انصراف اهتمام الرأي العام نحو مباريات كأس العالم ونجاح يوسف الشاهد النسبي في تجاوز موجة المطالبة بتغييره والتّي انتهت بتعليق النقاشات حول وثيقة قرطاج 2. بدء بالتدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي، مرورا بالبيانات الحزبيّة، وانتهاء بمختلف المنصّات الإعلاميّة، عملت مختلف الأطراف السياسيّة على استثمار الإرهاب كورقة قديمة-جديدة لكسب النقاط وإدارة الصراعات فيما بينها في مسار تنافسيّ بدأ مبكّرا على حجز المواقع لما بعد انتخابات 2019.
خارطة المواقف من الإرهاب مرآة للمشهد السياسي
انقسمت الساحة السياسيّة قبيل عمليّة عين سلطان حول التغيير الحكوميّ إلى طيفيّن رئيسيّين؛ رافضون بشكل حاسم بقاء الشاهد في منصبه، وداعون إلى تغيير جزئيّ مع إمكانيّة بقاء هذا الأخير في منصبه. مشهد انعكس على بيانات التنديد بالعمليّة الإرهابيّة التّي تضمّنت بدورها رسائل في هذا الإتجاه. إذ حاول حزب نداء تونس عبر بيانه القفز على الصراع مع يوسف الشاهد؛ عبر الدعوة إلى النأي بالمؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة عن “التجاذبات السياسية والحسابات الفئوية الضيقة” في مواجهة الإرهاب. موقف يتناقض مع ممارسات الحزب خلال الأسابيع الفارطة التّي زجت بالمؤسّسة الامنيّة في معركة ليّ الأذرع مع يوسف الشاهد عبر إقحام قضيّة إقالة وزير الداخليّة السابق والتّي استنكرها الحزب على لسان عدد من قياداته ونوابه على غرار رضا شرف الدين التّي إعتبرها خطوة خاطئة، لتصل إلى حدود دعوة القيادي والمكلف بالشؤون السياسية في حزب نداء تونس برهان بسيّس الوزير المقال إلى الانضمام إلى الحزب. حركة النهضة من جهتها، والتّي كانت الأكثر عرضة للهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي، خيّم على بيانها ضلال الخوف من الربط بينها وبين الحركات الاسلاميّة المتطرّفة. هاجس ترجمته سطور البيان وتصريحات عدد من قياديّيها كمحمد بن سالم الذّي شدّد على “التنديد بالإرهاب وفاعليه ومن يقف وراءه او يساعده”، إضافة إلى التذكير بضرورة التمسّك بمنظومة التوافق وتجنّب خطابات التحريض والتفرقة ومحاولة إستغلال الإرهاب لخدمة أجندات سياسيّة معيّنة.
أمّا الإتحاد العام التونسي للشغل، فقد أصدر بيانا مثقلا بالرسائل إلى أكثر من جهة. حيث وجّه نقدا واضحا للأحزاب السياسيّة التّي أقحمت المؤسّسة الأمنية في صراعاتها عبر استغلال ورقة إقالة وزير الداخليّة الأسبق لطفي براهم، معتبرا أنّ “حالة الإرباك والتشكيك والشّائعات ضدّ الأجهزة الأمنية” خلقت “حالة من الارتخاء وتشتيت الجهود والقوى استغلّتها العصابات الإرهابية”. كما ذكّرت منظّمة الشغيلة في إشارة واضحة إلى حركة النهضة بضرورة العودة إلى قضيّة شبكات التمويل والدعم والتجنيد والتسفير والأحزاب أو الأشخاص الداعمين لها ومحاسبتهم إضافة إلى التصدّي إلى ما أسمته “الأطراف التي تروِّج إلى عودة الإرهابيين المسفّرين إلى ليبيا وسوريا والعراق وكلّ بؤر التوتّر، بدعوى التوبة”. وفي ختام بيانه؛ جدّد الاتحاد العام التونسي للشغل تمسّكه بتغيير رئيس الحكومة الذّي أخفق في مواجهة المشاكل التّي تواجهها البلاد.
أما خارج سدة الحكم، فقد بادر حزب مشروع تونس إلى إصدار بيان طالب من خلاله تحميل “المسؤوليّة الكاملة للأطراف المتسبّبة في حركة النُّقل والإعفاءات التي تمّت أخيرا واستهدفت عناصر قوة الحرس الوطني الإستخباراتيّة والعمليّاتيّة لمكافحة الإرهاب وتتبّع العناصر الإجراميّة” ليدعو لاحقا إلى محاسبة المتسبّبين “في زعزعة الاستقرار داخل منظومة مكافحة الإرهاب بالحرس الوطني” حسب تعبيره. موقف يتماهى مع ردّة فعل أمين عام الحزب محسن مرزوق، الذّي اتّهم مباشرة حكومة يوسف الشاهد بعد أقل من ساعة من توقيت حدوث العمليّة. بيان يتطابق مع نظيره الذّي أصدرته الجبهة الشعبيّة والتّي حمّلت “الإئتلاف الحاكم وحكومته” بحسب تعبيرها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد على جميع المستويات، موضّحة أنّ الصراع على السلطة داخل أجنحة الحكم انعكس سلبا على المؤسسة الأمنيّة وهيّأ أرضيّة مناسبة لنشاط الجماعات الإرهابيّة.
قناة نسمة في قلب المزايدات
كانت قناة نسمة الوحيدة تقريبا التّي تلقّفت الحادثة بالتحاليل المباشرة والاستضافات المستعجلة فيما بدا واضحا أنّها فرصة جديدة لاستكمال معارك تصفية الحسابات مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد. التعاطي الإعلاميّ لقناة نسمة مع الحادثة الإرهابيّة والذّي ركّز في أغلب مداخلات ضيوفها المنتقين بعناية على ارتباط إقالة وزير الداخليّة السابق لطفي براهم وحركة النقل في الاسلاك الامنيّة التّي فنّدها الوزير الجديد بالإنابة بإحداث حالة فراغ أمني والتأثير على أداء المؤسّسة الأمنيّة. سرديّة انخرطت فيها معظم الأحزاب المصطفة على ذات الموقف السياسيّ من الفريق الحكوميّ الحاليّ وإن اختلفت الغايات والأسباب. على غرار الجبهة الشعبيّة التّي أحسن نبيل القروي استدراجها إلى التماهي مع موقفه من الشاهد واستغلال الموقف المبدئيّ للجبهة من الحكومة لتوظيفه في حشرها في الزاوية وإكساب هجومه حزاما أوسع من المبرّرات والأسماء.
ردّ وزارة الداخليّة لم يتأخّر، ليخرج وزير الداخليّة بالإنابة غازي الجريبي مؤكّدا انّ التأويلات التّي ربطت بين التسميات الأخيرة في وزارته والعمليّة الإرهابيّة عارية من الصحّة، وأنّها تندرج في إطار التوظيف السياسيّ. ردّ كرّره الناطق الرسمي بإسم نقابة الحرس الوطني مهدي بوقرّة، الذّي أدان بدوره المغالطات التّي جاءت في قناة نسمة بخصوص حالة الفراغ الأمني وطبيعة الأسماء المشبوهة التّي استضافتها للتعليق على المعطيات الأمنيّة والتّي لم تمتّ يوما بصلة لصفة “الخبير الأمني” بحسب تعبيره.
لم تكن العمليّة الإرهابيّة في عين سلطان والدم المسفوك لأعوان الحرس الوطنيّ سوى ورقة إضافيّة في معارك التموقع وكسر العظام بين مختلف الأطياف السياسيّة وخصوصا بين أجنحة السلطة. صراعات ما تزال تحتدم مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي التشريعي والرئاسيّ نهاية سنة 2019. هذه الحرب التّي بدأت ملامحها الرئيسيّة تتشكّل بعد تقاطع طموحات رجالات الرئيس لخلافته، بين إبنه الراغب في إحتكار إرث والده السياسيّ والحزبيّ وطامح جديد استطاع منصبه كرئيس للحكومة أن يكوّن من حوله حزاما من السياسيّين والإعلاميّين الداعمين لمشروع خطوة أخرى من القصبة إلى قرطاج. وسط هذا الصراع، قفز نبيل القروي ليصطّف إلى جانب حليفه القديم حافظ قايد السبسي بعد أن استشعر إشارات قرب موعد انتقال ما سُميّ “بالحرب على الفساد” إلى باحته الخاصّة. لتنخرط مختلف الأطراف السياسيّة في لعبة استثمار ما أمكن من أزمات واحتجاجات ومآسي انسانيّة وحوادث إرهابيّة وتسريبات على غرار قضيّة تمويل صندوق الصراع والاستقرار والأمن البريطاني لحملة رئاسة الحكومة لتمرير الإصلاحات الاقتصادية وما تلاها من قائمات مشبوهة لتشويه ممنهج للصحافيّين، فقط لتسجيل النقاط والإقتراب أكثر فأكثر من لُجّة السلطة.
iThere are no comments
Add yours