لم تمض أكثر من 24 ساعة على إعلان تعليق النقاشات حول اتفاق قرطاج 2 في 28 ماي الفارط، بعد تمسّك كلّ طرف بموقفه من إقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفريقه، حتّى عكس هذا الأخير الهجوم بخطاب متلفز، وجّه خلاله الاتهامات إلى حافظ قايد السبسي، نجل الرئيس والمدير التنفيذيّ لحزب نداء تونس، بتدمير الحزب ومحاولة مدّ نفوذه إلى أجهزة الدولة وتحميله مسؤولية خسارة الصدارة في الانتخابات البلدية. نَقل الصراع بين الرجلين إلى هذا المستوى وفي العلن بعد شهور من القطيعة والحرب الباردة، ينذر بأنّ كليهما قد حسم موقفه من التعايش مع الآخر بعد مسار قصير من التوافق في رحلة التسلّق إلى السلطة.

الخروج من ظلّ الرئيس

لم يكن اسما حافظ قائد السبسي ويوسف الشاهد يعنيان شيئا للرأي العام، أو للفاعلين السياسيّين مع تأسيس حزب نداء تونس في جوان 2012، أو عند احتدام معركة إسقاط حزب حركة النهضة عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويلية 2013. ففي زحمة محترفي السياسة ورجال الأعمال، اكتفى الطارئان على المشهد بالمراقبة في الصفوف الخلفيّة ومحاولة البحث عن موطئ قدم في سفينة نوح السياسيّة مثلما صوّر الباجي قائد السبسي للرأي العام حزبه.

مكتفيا بصفة نجل الرئيس، ومتدثّرا بظلّه، عَايش حافظ قائد السبسي رحلة وصول أبيه إلى رئاسة الدولة. فالرجل الذّي أطّل على المشهد السياسيّ حديثا، لم يكن يملك من التجربة أو القدرات السياسيّة ما يمكنّه من مزاحمة محترفي السياسة الذّين اصطفوا وتحالفوا مع الباجي قائد السبسي قبل الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة. فاكتفى بالإمساك “بتلابيب أبيه” ليرسّخ موقعه الحزبيّ في انتظار معركة تقاسم الميراث السياسيّ وحرب المواقع المرتقبة بعد دخول الشيخ المؤسّس إلى قصر قرطاج.

أمّا يوسف الشاهد، فمن تجربة قصيرة صلب الحزب الجمهوري الذّي كان أحد مؤسّسيه صحبة عبد العزيز بلخوجة وسليم العزابي، إلى القفز من مركب بدا للجميع أنّه لن يصمد أمام “سفينة النداء”، ليلتحق وسعيد العايدي سنة 2013 بحركة نداء تونس. هناك، اكتفى الشّاب الجديد بعضويّة المكتب التنفيذيّ والمشاركة في تنظيم الحملة الدعائيّة للرئيس المرتقب، في انتظار مرحلة نداء تونس ما بعد الباجي قائد السبسي.

رحلة القفز على الصفوف وتبادل الخدمات

مثّل دخول الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج الإنطلاقة الحقيقيّة للمسيرة السياسيّة للرجلين. ففي الوقت الذي اختار فيه حافظ قائد السبسي التركيز على معركة السيطرة على إرث أبيه الحزبيّ، انطلق يوسف الشاهد في مسار مُخالف صلب دوائر المؤسسات الرسميّة للدولة لينال بعد أشهر من تعيين الحبيب الصيد رئيسا لأوّل حكومة بعد الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، منصب كاتب دولة لدى وزير الفلاحة مُكلّفا بالصيد البحري في 06 فيفري 2015. لكنّ هذا الأخير لم يكن بعد قد أنهى دوره في الحزب، بل لعب في الأشهر اللاحقة دورا أساسيّا في إنقاذ رأس نجل الرئيس وضمان سيطرته المطلقة على نداء تونس. هذا الحزب الذّي بدأ ككتلة غير متجانسة فكريا وسياسيّا، لم يستطع الصمود طويلا أمام طموحات الأجنحة التّي تكوّنه ليدخل في حلقة متواصلة من الانقسامات وتفكّك الأجهزة منذ سنة 2015. أزمة زعزعت موقع الحزب في مجلس نوّاب الشعب وأمام الرأي العام، لتتفاقم في الأشهر اللاحقة إلى حدّ تهديد الحزب بالإنقسام وتفتيت غنيمة نجل الرئيس. وضع استدعى تدخّل رئيس الجمهوريّة في 29 نوفمبر 2015، ليقدّم قائمة اسميّة للجنة مهمّتها «تقريب وجهات النظر» عُرفت فيما بعد باسم لجنة 13 ترأسها يوسف الشاهد بتسمية من الباجي قائد السبسي نفسه. مهمّة نجح خلالها الشاهد في عزل خصوم نجل الرئيس والإعداد لمؤتمر سوسة في 09 و10 جانفي 2016 والتّي حسمت الصراع نهائيّا داخل الحزب لصالح حافظ قائد السبسي. هذا المعروف لن يمرّ دون مكافأة، ليتقدّم يوسف الشاهد خطوة أخرى في مسيرته السياسيّة وينال وزارة الشؤون المحليّة في 25 ماي 2016.

الخدمات المتبادلة بين الرجلين، مكّنت كليهما من تجاوز جميع الخصوم وتسريع رحلة الصعود إلى قمّة المشهد السياسيّ، فبينما استوى حافظ قائد السبسي على عرش نداء تونس دون منازع، وجد يوسف الشاهد الطريق معبّدة ليدخل القصبة رئيسا للحكومة في 03 أوت 2016 بعد أن صار يحظى بثقة مطلقة من نجل الرئيس.

الساحة تضيق بالطامحيْن

لم يطل الوقت ليبدأ الوفاق بين الرجلين في التبدّد شيئا فشيئا. فحافظ قائد السبسي الذّي أتمّ سيطرته على الحزب، لم ينتظر طويلا ليمدّ أنظاره إلى أجهزة الدولة. هذه الطموحات في بسط نفوذ الحزب ونفوذه الشخصي على المؤسّسات الرسميّة اصطدمت بممانعة يوسف الشاهد ورغبته في مراكمة رصيد شعبيّ يستمدّه من منصبه الجديد على رأس الجهاز التنفيذيّ. حالة التجاذب بين الرجلين انكشفت بشكل واضح إبّان ما سُميّ بالحرب الحكوميّة على الفساد، التّي طالت عددا من مموّلي الحزب ووجوهه المعروفة على غرار شفيق جرّاية. حملة قُوبلت بالفتور من نداء تونس، الذّي رأى فيها إشارات واضحة لانفلات إبن الحزب وتوسّع طموحاته نحو مواقع سياسيّة أكبر.

من جهة أخرى، لعب دعم الرئيس ليوسف الشاهد في أكثر من أزمة على غرار الكامور أو الاحتجاجات الشتويّة في جانفي 2017 و2018، مصدر قلق لنجله الذّي ظلّ يرى نفسه الأحقّ دوما بإرث أبيه ودعمه المطلق. قلق استشعره يوسف الشاهد الذّي حاول تحصين نفسه بالتقارب تارة مع الإتحاد العام التونسي للشغل في مرحلة أولى وطورا مع حركة النهضة عبر تعزيز رصيدها الوزاري في فريقه الحكوميّ أو تشكيل حزامه البرلماني الذّي ظهر إلى العلن في 28 نوفمبر 2017 مع إعلان تأسيس “الجبهة البرلمانيّة الوسطية التقدميّة”.

هذه المرّة، وبعد إشارات عدّة من حزب نداء تونس للمطالبة بتحوير حكوميّ والتشديد على فشل الحكومة الراهنة في معالجة الملفّات العالقة، يبدو أنّ نجل الرئيس ضاق ذرعا بالشاهد وهو يعلم تمام العلم، أنّ طموحه السياسيّ صار يهدّد مطامعه الشخصيّة. أمّا الشاهد وهو ينقل المعركة إلى أعلى مستويات التصعيد، فقد فهم بشكل قاطع أنّ المستهدف ليس منصبه فحسب، بل ومستقبله السياسيّ بأسره. فمن يخرج من الحكم بهذه الطريقة، يظلّ لزمن ليس بالقصير مركونا على الرّف.