يتذكر وسام كل التفاصيل. كان قد ارتدى سترتين وسروالين. لا ليكون لديه إمكانية تغيير ملابسه عند وصوله إيطاليا، أبداً. بل لأنه كان يعاني من نزلة صدرية ويشعر بالبرد في ذاك اليوم، 10 فيفري 2011، عندما صعد على متن “الريس علي” قارب الصيد التونسي الصغير الذي كان سيحمله الى إيطاليا.

نجا وسام من حادثة الغرق وما أكثرها في البحر الأبيض المتوسط. يحكي لنا كيف تنتاب المهاجر الرغبة في الرحيل وكيف يستعد للسفر وكيف يحدوه أمل عنيد بالوصول الى الشواطئ الأوروبية. “العبور أو الموت. ما من خيار آخر. لم يعد هناك أمل في تونس.” يصف لنا وسام الوضع نفسه الذي يعيشه كل الشباب الذين يغادرون إفريقيا بسبب نزاع دائر في بلادهم أو حكم مستبد أو ظروف اقتصادية حرجة أو بكل بساطة لأنهم أيضاً يرغبون باكتشاف العالم.

ويتوقف وسام عن رواية قصته فجأة. كانت هذه الرحلة محاولته الرابعة في الوصول الى أوروبا. “العبور أو الموت”. الموت غرقاً مقبول. أما الموت على يد إنسان آخر فلا. إذ أن القارب الذي كان وسام على متنه غرق بسبب اعتراضه من قبل مركب بحري تابع للقوات المسلحة التونسية.

اصطدام في عرض البحر

قارب “الريس علي” الذي كان يقل 119 راكباً على أقل تعديل1 انشق الى شطرين في 11 فيفري 2011 وغرق على بعد 30 ميل (55 كيلومتر) من الشواطئ التونسية، بسبب مركب حربي تونسي يدعى “الحرية 302 » . حرية مرقّمة. يا لغرابة هذه التسمية لمركب يحول دون حرية الناس بالسفر.

بعد هذه الحادثة قرر وسام ألا يعيد الكرّة ويحاول العبور. كان قد صعد على متن القارب مع أثنين من أقاربه فارس وعمره 21 سنة ووليد وعمره 19 سنة، وثمانية شباب آخرين من الجيران في الحي. ومن أصل مجموعة الأحد عشر من هذا الحي لم يعد من الرحلة سالماً سوى خمسة أشخاص. اثنان توفيا خلال الحادثة ومنهم الشاب وليد وأربعة منهم باتوا من المفقودين. كارثة حقاً بالنسبة لهذا الحي في جربا. يقول وسام عن نفسه إنه “ابن البحر”، فلقد ترعرع في جربا. ولقد “امتهن السباحة”. يروي لنا كيف وجد نفسه في قاع البحر عندما حصل الاصطدام وعندما فتح عينيه ونظر الى سطح المياه لم يبصر سوى أجسام في كل مكان. ولقد استطاع التخلص من طبقات الثياب التي تعيق حركته كما استطاع أن يستند الى بدن السفينة الحربية ليدفع بنفسه بعيداً عنها حتى لا تسحبه دوامة المياه أو تطحنه المراوح، كما حصل لبعض الركاب. ثم يروي كيف ظل يسبح لفترة من الوقت، فاستعاد جثة قريبه وصعد أخيراً على متن السفينة العسكرية. “عشرون دقيقة في الماء، لم تعد يدي قادرتين على الإمساك بأي شيء، وكدت أعجز عن التقاط حبل النجاة للخروج من الماء والصعود الى السفينة”.

كان عدد الركاب على متن “الريس علي” حوالي 120 شخاصاً، أعاد منهم الجيش 98 شخصاً وخمس جثث كاملة. الآخرون، على الأقل ستة عشر شخصاً اعتبروا من المفقودين. ويعتقد وسام أن العدد أكبر من ذلك في الحقيقة، “كل الذين كانوا في القسم الأسفل من السفينة لم يتسن لهم الخروج عندما حصل الاصطدام. ويضيف قائلاً:” “أنا شخصياً لم أفهم شيئاً تصورت أن السفينة الحربية ستتوقف عند قاربنا .. لا أنها ستستمر في اندفاعها حتى تشق القارب.

ابن فاروق بالهيبة هو أحد المفقودين. منذ 11 فيفري ووالده فاروق يبحث عن جواب: أين جثة وَلَده؟ شأنه شأن خمس عشرة عائلة أخرى، يحاول معرفة ما حصل لرفاة طفله. عبد الله البالغ من العمر17 عاماً كان قد خاطب والده وهما جالسان على الشاطئ قبالة منزلهما:“أرجوك، دعني أرحل من هنا، لا شغل لي هنا”. وهكذا، في 10 فيفري استقل عبد الله بالهيبة قارب “الريس علي”. ومنذ ذلك الوقت لم يعد.

في 11 فيفري عصراً كان “الريس علي” يمخر عباب البحر منذ يوم ويقترب من الشواطئ الإيطالية حين صدمته سفينة حربية تونسية. “الحرية 302” اقتربت من قارب المهاجرين وأمرته بالتوقف، حسب كل الشهادات. وحصل فور ذلك ارتطام المركبين، في حين كان”الريس علي“متوقفاً تماماً. لم يصمد قارب المهاجرين ذو ال 14 متراً أمام قوة السفينة العسكرية التي يبلغ طولها 48 متراً. الحديد ضد الخشب. كان لا بد”للريس علي“أن ينفطر الى نصفين تحت صدمة”الحرية 302 » .

صور المفقودين في حادثة غرق الريس علي

روايتان مختلفتان

صدرت حينها روايتان متناقضتان عن الحادث. على من تقع المسؤولية؟ أمرت وزارة الدفاع بفتح تحقيق عاجل كانت نتيجته في نيسان / أبريل 2011 تقرير أولي موجه للمحكمة الإدارية. يفيد التقرير بأن خمسة أعضاء من طاقم «الحرية 302 » أدلوا بنفس الشهادة: كان المركبان في خطين متوازيين ولكن “الريس علي” لم يتوقف بل انعطف الى اليمين بشكل مفاجئ فاصطدم بسفينة “الحرية 302 ». وألقيت عندها مسؤولية الحادث كاملة على”الريس علي”. من ناحيتهم أكد المهاجرون أن قاربهم كان متوقفاً عندما نطحته السفينة الحربية المسرعة إليه بخط عمودي. الرواية تغيرت نسبياً بعد التحقيق القضائي. حيث قررت خمس من عائلات المفقودين إقامة دعوى أمام محكمة الجنايات. ولكن ذلك لم يؤد الى أي نتيجة. ست عشرة عائلة أخرى اختارت على العكس القانون المدني لتتيح الفرصة أمام التعويض. ولقد رفعت القضية أولاً أمام المحكمة الإدارية. إلا أن المحكمة الإدارية أعلنت عدم اختصاصها وأحيلت القضية أمام المحكمة المدنية. وعينت هذه المحكمة ثلاثة خبراء مستقلين سلموا تقريرهم عام 2015. وهذا التقرير هو الذي أثبت أن السفينة الحربية “الحرية 302” تتحمل المسؤولية الى حد بعيد، مما سمح عام 2016 و2017 باتخاذ قرارات بدفع تعويضات. تراوحت التعويضات بين 5.000 و 10.000 دينار (أي بين 1569 و 2920 يورو) لكل من والدي القتيل أو المفقود. عزمت بعض الأسر عندها على الاستئناف حيث اعتبرت التعويضات زهيدة للغاية مقارنة بخسارتها.

تقرير الخبراء

ما تؤكده هذه التحقيقات هو أن سفينة “الحرية 302” هي التي صدمت قارب المهاجرين وليس العكس. ولكن ما هي بالضبط الظروف الفعلية للاصطدام؟ هل ظل القارب يسير أم أنه انصاع لأوامر التوقف؟ هل هو الذي اعترض سبيل “الحرية 302”؟ هل حصل خطأ في قيادة السفينة أم أنها شنت هجوماً متعمداً على قارب المهاجرين؟  خلال لقاء حصل عام 2011 بين مسؤولين عسكريين وعائلات المتضررين من الحادثة، بعد أيام قليلة من حادثة صفاقس، علل أعضاء في الجيش الاصطدام بخطأ محتمل في الملاحة وأكدوا أن الجيش في هذه الحال “لن يغض الطرف عن الخطأ”. ومع ذلك، فإن التقرير الذي طلبته وزارة الدفاع لم يذكر هذا الاحتمال بخطأ في الملاحة. وعند وقوع الحادثة نفسها، قال أحد العسكريين للمهاجرين إن القصة لا بد “أن تموت هنا”. وإن المهاجرين لن يلاحقوا بتهمة الهجرة غير الشرعية، ما عليهم إلا أن يعودوا الى منازلهم وسوف يطوي النسيان كل ما جرى.

تقرير الخبراء المستقلين هو الذي ألقى الضوء على ظروف الارتطام بشكل مختلف تماماً. وضع الخبراء الثلاث تصور للحادثة بعد أن اتضح بشكل ثابت أن المركبين لم يكونا على مسارين متوازيين. وبالتالي لم يكن من المعقول أن ينعطف “الريس علي” فجأة متسبباً بالحادث. وثبت إقدام “الحرية 302” مسرعة على قارب المهاجرين. وأشارت نتيجة التقرير الى احتمال ارتكاب السفينة البحرية خطأً في الملاحة نتيجة سرعتها الفائقة وعدم تقديرها المسافات بشكل دقيق. كما قدمت فرضية أن الملاحين لم يكونوا متمكنين من فن الملاحة.

لماذا قدم إذاً الأعضاء الخمسة في طاقم السفينة العسكرية فرضية أولى لم تحظ بتأييد الخبراء؟ لقد استوضحنا وزارة الدفاع حول الموضوع وجاء الرد عبر المسؤول الإعلامي برفض إجراء أي مقابلة. وبالتالي كان من المستحيل أن نطلع على وجهة نظر وزارة الدفاع ومعرفة كيفية الحصول على الشهادات وما إذا كانت أي تدابير عقابية اتخذت بحق المتورطين بالحادث.

من ناحية أخرى تحدثت شهادات عدة عن السلوك العدواني لأعضاء طاقم السفينة الحربية خلال الحادث. إذ صدر عنهم عنف لفظي وجسدي: أساؤوا معاملة الناجين من الغرق، سواءً أكان ذلك في النهي عن الصعود الى زورق النجاة والسفينة البحرية أم الضرب بأعقاب البنادق أم التعنيف على الإبحار للهجرة. كما لم يبد عليهم أي إحساس بهول الكارثة أو أي انفعال أو تعاطف مع الركاب.

حماية الحدود الأوروبية: ولكن بأي ثمن؟

بعد مضي ست سنوات على الحادث الأول شهدت تونس حادثاً جديداً من النوع نفسه، كانت حصيلته أكثر فداحةً من الأول. إذ غرق قارب آخر في 8 أكتوبر 2017، تورطت فيه سفينة عسكرية أيضاً.

كان قارب المهاجرين يسير على بعد 54 ميلاً (100 كيلومتراً) من قرقنة حين حاولت سفينة تابعة للجيش التونسي اعتراضه، فلاذ بالهرب. وتبع ذلك عملية مطاردة بأدوات الوميض الضوئي وخراطيم المياه إلى أن انقلب القارب وغرق 45 من الركاب، وذلك فور ارتطام السفينة به. لم ينج من الغرق سوى 38 فقط. ماذا عن احترام قانون الملاحة؟ أعلنت المحكمة وكذلك الخبراء إن المسؤولية مشتركة: فقارب المهاجرين لم يتوقف وسفينة الجيش اقتربت أكثر من اللازم. هذه المرة كان سير العدالة أسرع بكثير. جرت المحاكمة أمام الغرفة الجنائية للمحكمة العسكرية الابتدائية الدائمة في صفاقس بتهمة “القتل عن غير قصد وإلحاق أضرار بدنية بالغير بسبب قصور أو عدم احتياط أو إهمال أو عدم تنبه وعدم مراعاة القوانين”. واعتبرت المسؤولية مشتركة بالتساوي بين قبطاني المركبين. قبطان مركب المهاجرين ل“انتهاكه القواعد الضرورية لتفادي اصطدام بحري وقواعد الملاحة في المياه الإقليمية وعدم مراعاة القوانين ومخالفة أوامر السلطات البحرية”. وقبطان السفينة العسكرية لانتهاكه التعليمات. هاتان الحادثتان تطرحان تساؤلات حول دور الجيش التونسي الذي يبدو مستعداً لمنع المهاجرين من السفر بأي ثمن وإبقائهم عنوة في الأراضي والمياه التونسية. خلال حادثة الغرق الأولى حلقت مروحيتان إيطاليتان فوق قارب المهاجرين قبل اعتراضه بقليل من قبل الجيش التونسي. ثمة اتفاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي تتضمن شقاً أمنياً. ويمكن أن نتصور مدى التنسيق الحاصل بين القوات المسلحة للبلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط في هذا المجال لحماية حدود أوروبا الخارجية.

وإن لم يكن الهدف هو حماية مصالح الآخرين، فكيف لنا أن نفهم أن تمنع تونس شبابها المُحْبَط من مغادرة البلاد التي لا توفر له حالياً أية حلول فعلية؟

انجز هذا الملف كجزء من نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه “الجمهورية“ و”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، وماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.