صورة لأحمد زروقي

بعد فترة قصيرة من نشر الخبر، طالبت أربع كتل برلمانية بمساءلة الغنّوشي بسبب ”إقحامه الدولة التونسية في نزاعات داخلية للدول وفي صراع المحاور الإقليمية“ واعتبرت الكتل في بيانها أن مواقف الغنوشي تتناقض مع المواقف الرسمية للدولة التونسية. وهذه الكتل هي قلب تونس (27 نائبا) والإصلاح الوطني ( 16 نائبا) وتحيا تونس (14 نائبا) والمستقبل (9 نواب)، وانتقدت ما أسمته تكرّر تدخلات الغنوشي في السياسة الخارجية للدولة التونسية على غرار التهنئة التي وجهها إلى رئيس حكومة الوفاق فايز السراج بعد سيطرة قواته على قاعدة الوطية في معركة عسكرية بين الأطراف المتحاربة في ليبيا. وبذلك تلحق هذه الكتل بكتلة الدستوري الحر (16 نائبا) التي قام نوابها بالاعتصام لمطالبة المجلس تخصيص جلسة مسائلة لراشد الغنوشي.

ومن جهتها عبّرت الكتلة الديمقراطية ( 39نائبا)، والتي تضم أهم حليفين في الإئتلاف الحكومي وهما حركة الشعب والتيار الديمقراطي، عن غضبها من رئيس البرلمان الذي ”يوحي خطأ الموقف الذي أعلنه بأن تونس تساهم في تأجيج النزاع المسلح الذي يمزق الشعب (الليبي) الشقيق“.

تهديد الأمن القومي

وكانت سبعة أحزاب معارضة قد أدانت بشدة في بيان لها ”الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس البرلمان زعيم حركة النهضة الإخوانية، راشد الغنوشي برئيس ما تسمى حكومة الوفاق في طرابلس فايز السراج“. وصدر البيان عن أحزاب التيار الشعبي وحزب العمال وحركة تونس إلى الأمام، والحزب الاشتراكي، والحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي، والقطب وحركة البعث. مكالمة الغنوشي اعتبرتها الأحزاب السبعة بمثابة ”التجاوز الخطير لمؤسسات الدولة التونسية وتوريطا لها في النزاع الليبي إلى جانب جماعة الإخوان وحلفائها“. وقالت الأحزاب إن الغنوشي يشكل ”تهديدا للأمن القومي التونسي حيث تؤكد كل اتصالاته ومواقفه أنه يتصرف باعتباره عضوا في التنظيم العالمي للإخوان تهمه مصلحة الجماعة قبل مصالح تونس وشعبها“.

فرئيس الجمهورية هو المسؤول الأول دستوريا عن السياسة الخارجية للدولة، وهو إمّا أن يواصل التزام الصمت ويثبّت خضوعه لسياسة الأمر الواقع باصطفاف تونس وراء محور تركيا وقطر في مقابل محور الإمارات والسعودية ومصر، فالصراع بين قرطاج وباردو لم يعد خافيا على أحد، وموقف الغنّوشي من الصراع في ليبيا والانحياز إلى طرف بعينه سيتحمّله رئيس الجمهورية، حيث تتنامى باستمرار لدى التونسيين فكرة أن رئيس مجلس النواب ذهب بعيدا في تهميش الرّئيس وعزله. وفي كلمته إلى الشعب التونسي بمناسبة عيد الفطر، وجّه الرئيس سعيّد رسائل إلى من أسماهم ”من في قلوبهم مرض“ مشدّدة أن للدولة مؤسساتها وقوانينها وهي ليست مجالا للصفقات وأن ”الدولة التونسية لها رئيس واحد في الداخل وفي الخارج“، وذهب سعيّد إلى أنه سينطلق  في ”محاصرة الجوائح المفتعلة التي تصيب الأفكار والعقول وتستعمل أخطر الكمامات التي توضع في الشرعيات المزعومة“.

المساءلة، وبعد

قرر مكتب مجلس نواب الشعب تعيين جلسة عامة يوم 3 جوان المقبل لمساءلة رئيس المجلس راشد الغنوشي على خلفية الأزمة الأخيرة. ومن المنتظر أن تكون الجلسة القادمة ساخنة حيث تأتي في أجواء سياسية متوتّرة، وقد تكون منطلقا لصراع سياسي بين حركة النهضة وأكثر من طرف، داخل الائتلاف الحكومي وخارجه. وبالتوازي مع مساءلة راشد الغنوشي ستمثل كذلك الجلسة العامة إطارا لعرض لائحة الحزب الدستوري الحرّ للتصويت كما قرّر مكتب البرلمان بعد النظر في تعديلات طالب رؤساء الكتل بإدخالها على مشروع لائحة الحزب الدستوري الحرّ التي تهدفُ إلى ”إعلان رفض البرلمان للتدخّل الخارجي في ليبيا ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستيّة داخل التراب التونسي قصد تسهيل تنفيذ هذا التدخّل“ لكنها ضمنيّا موجهة ضد الغنوشي وحركة النهضة.

ولكن قضية الاتصال بالسرّاج ليست الأزمة الوحيدة التي تواجه راشد الغنوشي، فبعد سلسلة الاستقالات العديدة من حركة النهضة، خاصة من رفاق الطريق زمن الجمر ومن شخصيات ذات وزن في النهضة، بدأت تتعالى الأصوات داخل الحركة لوضع حد للسلطات المطلقة للغنوشي، صاحب القرار الحسم فيها والمتحكّم بشريان ماليتها. وتداولت صفحات مقرّبة من حركة النهضة مبادرة لعدد من القيادات تحت عنوان ”مجموعة الوحدة والتجديد“ قدمت خارطة طريق من سبع نقاط بشأن دور رئيس الحركة راشد الغنوشي. وهي في صلة بموعد المؤتمر الذي تعطل عقده في موعده بسبب عدم تحمّس الغنوشي لالتئامه قبل ضمان تعديلات تتيح له الاستمرار باعتباره صاحب السلطة المطلقة في الحركة. على الرّغم أنه لم يتسنّ التأكد من مدى صدقية هذه المبادرة إلا أن قيادات داخل الحركة يعلنون صراحة أنّ وقت التغيير حان.

قد يكون راشد الغنّوشي محظوظا للإفلات من ثلاثة أحكام مؤبدة وحكم بالاعدام. ففي 27 سبتمبر1987 حُكم عليه بالسّجن المؤبّد بتهمة الإرهاب، ولم يرق الحكم للرئيس بورقيبة آنذاك، فطالب بحكم الإعدام. لكن قبل تنفيذ الحكم، وبعد أقل من شهرين، انقلب بن علي على بورقيبة في 7 نوفمبر 1987. وبعد حوالي ستة أشهر، أصدر بن علي عفوا عن الغنوشي في14  ماي 1988. وقد يكون الغنوشي محظوظا أكثر حين قامت ثورة شعبية أطاحت بنظام الاستبداد وفسحت له المجال  للعب الأدوار الأولى في تونس الديمقراطية بعد سنوات الهروب والمنفى، ولكنه سيحتاج إلى أكثر من الحظ للخروج بسلام من الصراع الليبي الذي أقحم نفسه فيه بمجرّد مكالمة هاتفية.