يستعد قيس سعيد لإطلاق حوار وطني من خلال سلسلة لقاءاته الأخيرة مع قوى مدنية منها الاتحاد العام التونسي للشغل وعمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان واتحاد الأعراف، ونشرت الرئاسة بلاغات إثر هذه اللقاءات تتحدث عن مساعي الرئيس سعيد إلى تنظيم حوار وطني “على ضوء نتائج الاستشارة الالكترونية“. أي أن الحوار الوطني المرتقب يجب أن يُفضي إلى اتفاق على تعديل النظام السياسي نحو نظام رئاسي واعتماد مبدأ سحب الوكالة والانتخاب على الافراد وغيرها من الأفكار التي دعا إليها قيس سعيد حتى قبل انتخابه رئيسا، وربما يُفهم تحفظ عديد الأطراف على هذا الحوار نظرا لأن نتائجه معلومة سلفا.

المنظمات الوطنية: توسيع المشاركة المدنية والحزبية

الاتحاد العام التونسي للشغل كان أول الرافضين للصيغة التي طرحها قيس سعيد للحوار الوطني، بل إن أمينه العام نور الدين الطبوبي رفض استغلال اللقاءات التي تجمع المنظمة بالرئيس لإيهام الناس بموافقة الاتحاد على الحوار بالقول إن “عقد لقاءات بروتوكولية عامة لا يتنزل في إطار الحوار الوطني المنشود لأن أيّ حوار وطني يجب أن يقوم على مقاربات واتفاقات حول إدارة الحوار ومن سيشارك فيه ومن سيتولى الصياغة وما هي تواريخ بدايته ونهايته ومحاوره وأولوياته إلا أن هذا لم يحصل بعد”.

وقد طُرح سؤال محوري في الساحة السياسية: هل سيكون الحوار على قاعدة الاستشارة الالكترونية؟ هل يريد الرئيس من الحوار فقط إضفاء الشرعية على الاستشارة أم أنه يريد الخروج فعلا من الأزمة السياسية عبر حوار وطني؟ ولكن هل يكون الحوار مع الحلفاء أم مع المخالفين؟ وهل فقدت السياسة معناها باعتبارها آلية للتسويات السياسية وإيجاد التوافقات والتعايش بين المختلفين؟ ما فائدة حوار يشارك فيه الرئيس ومساندوه وبعض المنظمات الوطنية دون مشاركة المعارضة والأحزاب؟

تشترك عديد المنظمات الوطنية والقوى السياسية في الموقف الذي يرفض تنظيم حوار وطني وفق مخرجات الاستشارة الوطنية فقط، وحتى أكثر المساندين لقيس سعيد في الآونة الأخيرة قد دعوا إلى تضمين محاور أخرى غير مخرجات الاستشارة وانفتاحا أكبر على القوى المدنية والسياسية.

وفي الحقيقة كل هذه أمور شكلية يمكن أن تجد طريقها إلى الحل عبر تنازلات متبادلة سواء من الرئاسة أو من القوى السياسية والمدنية، لكن معضلة مشاركة “الجميع” في الحوار الوطني ستعقد الأوضاع أكثر، خاصة وأن حزب النهضة وهو مكون رئيسي في جبهة معارضي قيس سعيد لن يكون له وجود وفق تصور الرئيس الذي لن يقبل بحوار مع “من تورط في جرائم وتجاوزات منظومة الحكم قبل 25 جويلية”.

لا يخفي الرئيس قيس سعيّد موقفه الداعي إلى حوار وطني حول مستقبل البلاد بشروط محددة، أهم شروط الرئيس ألا يكون الحوار “مع من نهب مقدرات الشعب ونكل به، أو حاول الانقلاب على الدولة والمس من استمراريتها ووحدتها”. ولا نحتاج جهدا كبيرا كي نفهم أن سعيد يقصد أساسا حزب النهضة الذي كان موجودا في الحكم بطريقة أو بأخرى طيلة العشرية الماضية، وبعض الأحزاب التي تحالفت مع النهضة أو كان لها ارتباط بالفساد مثل حزب قلب تونس وغيره من الأحزاب التي قد تكون معنية بالشروط الاقصائية لقيس سعيد. لكن ما يمكن فهمه هو أن الرئيس يعتبر النهضة طرفا مسؤولا عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية طيلة العشرية الماضية لا يحق لها أن تكون طرفا يساهم في صياغة ملامح الفترة المقبلة، هذا التوجه يجد مساندة من بعض المنظمات والأحزاب المساندة للرئيس لكن في الآن نفسه يجد معارضة شديدة من الداخل والخارج.

رفض داخلي وخارجي للحوار المشروط

ترفض أحزاب سياسية، على غرار النهضة والتيار الديمقراطي والجمهوري والتكتل، أي حوار مشروط ومحدد المحاور مسبقا على غرار الحوار الذي يعتزم الرئيس تنظيمه، وتدعو هذه الأحزاب إلى “حوار وطني شامل تشارك فيه جميع القوى السياسية ولا إقصاء فيه إلا لمن أقصى نفسه”. هذا التباين من شأنه أن يطيل الأزمة ويعطل الحوار خاصة وأن الرئيس قيس سعيد يصرح في لقاءاته بأنه “لا يمكن للنهضة وحلفائها من الفاسدين أن يكونوا طرفا في حوار لصياغة مستقبل البلاد”.

صحيح أن قيس سعيد اقترح خطة تقوم على ثلاثية الاستشارة والاستفتاء وانتخابات ديسمبر 2022، لكن قبل المرور إلى المرحلة الثانية وجد سعيد نفسه مضطرا بفعل دعوات الداخل والخارج لتنظيم حوار وطني. حوار وطني أعلنه قيس سعيد بشروط مسبقة وأرضية جاهزة لكن الأطراف المدنية والسياسية رفضته ودعت إلى إلغاء كل الشروط المسبقة، وهذا هو المأزق الذي يسعى سعيد لإيجاد حل له، خاصة وأن الخارج أيضا يدعو إلى حوار شامل دون إقصاء، الخارج الذي تعتمد عليه حكومة قيس سعيد للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة.

من جهتها تتمسك القوى الغربية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بضرورة “أن تكتسي أي عملية إصلاح سياسي بالشفافية وأن تشمل الجميع وأن تجري بالتنسيق مع شتى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومكونات المجتمع المدني” أي حوار وطني شامل حسب بيان نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية. بيان برايس جاء بعد قرار قيس سعيد حل البرلمان للإعراب عن انشغال الولايات المتحدة العميق بشأن القرار الأحادي الجانب الذي اتخذه الرئيس التونسي بحل البرلمان وللدعوة إلى العودة السريعة إلى الحكم الدستوري وبرلمان منتخب وحكم ديمقراطي من شأنه أن يؤمن دعما مستمرا واسع النطاق للإصلاحات ومساعدة الاقتصاد التونسي على الانتعاش.

صحيح أن النهضة تعتمد على شبكة علاقات عامة ولوبيات داخل مراكز صنع القرار وبرلمانات الدول الكبرى وأيضا مع الدول الحليفة لها على غرار تركيا التي طالبت وفق بيان لرئيسها بعودة الديمقراطية إلى تونس، لكن في نفس الوقت لتونس مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية مع هذه الدول تجعل من التعامل معها والحفاظ على سيادة القرار الوطني ضربا من الخيال، خاصة وأن حكومة نجلاء بودن تعلق كل آمالها على قرض صندوق النقد الدولي، ولصندوق النقد الدولي حكومات نافذة كالولايات المتحدة تضع الشروط وتمنح الموافقة لتقديم القروض والمساعدات.

وغالبا ما تربط الولايات المتحدة (ومعها الدول السبع) أي مساعدات اقتصادية لتونس بالعودة إلى النظام الدستوري وبرلمان منتخب، ورغم محاولات قيس سعيد، في اتصالاته مع ممثلي دول أو تكتلات غربية، طمأنة الغرب بشأن الوضع الداخلي وأسباب إعلانه التدابير الاستثنائية، إلا أن الغرب ينظر بعين الريبة لكل ما يقوم به سعيد. ولعل اقتراح إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خفض المساعدات العسكرية والأمنية لتونس إلى حدود النصف تقريبا يؤكد أن الولايات المتحدة تربط بشكل مباشر بين المساعدات الأمريكية وعودة النظام الديمقراطي في تونس، وهو ما يضع قيس سعيد أمام تناقضات صعبة الحسم.

بين تمسك سعيد بنظرته للحوار وايمانه بضرورة ألا يشارك من أفسد الحياة السياسية في أي حل للفترة المقبلة، وضرورة تشريك الجميع للحصول على دعم دولي للاقتصاد التونسي المتردي، والدولة في أشد الحاجة لذلك تجنبا لاضطرابات اجتماعية قد تهدد استقرار الدولة والمجتمع مثلما عبرت عن ذلك مجموعة الأزمات الدولية التي دعت إلى “حوار شامل وتشاركي قبل الاستفتاء لتقريب وجهات النظر بين الرئيس والجهات الفاعلة على الأرض والمساعدة في منع حدوث توترات محلية”.