المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
الرئيس قيس سعيد في زيارة إلى منطقة المنيهلة. الأحد 11 ديسمبر 2022.

يُعتبر قيس سعيّد من المنتمين لجيل قديم في السياسة، بالتحديد لستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، تحديدا للمدرسة السياديّة العربية التي تشكّلت باعتبارها ردّة فعل على سنوات الاستعمار. تمتلك هذه المدرسة تعريفاتها الخاصة لمفاهيم كثيرة أ همّها السيادة والحريّة والعدالة، وترتكز على محورين رئيسيّين، محور سياسي قائم بالأساس على فكرة السيادة، أو فهمه الخاص لها: استقلالية القرار الوطني والتصدّي للنفوذ الخارجي والهيمنة الاستعمارية، ومحور ثان اجتماعي قائم على فكرة إعادة توزيع الثروة وتدخّل الدولة في الحياة اليومية الاقتصادية لمواطنيها.

 

منظومة تستفيد من أخطاء الماضي

 

يبني قيس سعيد رؤيته الكاملة ومشروعيته على الثغرات التي نتجت عن مسار ما بعد 14 جانفي، أي مسار الانتقال الديمقراطي، منذ هيئة عياض بن عاشور إلى يوم 25 جويلية2021 ، ويعارضه على أكثر من مستوى، مستوى ذاتي حسب ما تفصح عنه بعض الأحاديث في الكواليس حول صراعات طويلة بين رجال القانون، ومستوى اجتماعي وسياسي قد لا يكون الوحيد الذي يرى فيه خللاً.

لقد صار الجميع مقتنعا أن هناك مشكلا كبيرا في ترتيب الأولويات، وهو ما ساهم في تشكّل جمهور واسع مساند للانقلاب الدستوري الذي حدث يوم 25 جويلية. حيث عاشت تونس منعرجا ديمقراطيا انطلاقا من يوم 14 جانفي 2011 أنهى عقودًا من حكم الرجل الواحد والحزب الواحد، وساهم في تصحير الحياة السياسية والثقافية في البلاد وتطويع الذكاء المحلي بالقوّة الصلبة. ثمّ انتهى هذا النموذج بتغيير سياسي شعبي في 2011 أطاح بنظام الحكم القائم وأجهز على عقود من الاستبداد ليؤسس لنظام جديد أجمعت حوله أغلب القوى المدنية التي عارضت النظام السابق في هيئة عياض بن عاشور وما تلاها، وأخذ هذا النظام الجديد مُسمّى “الانتقال الديمقراطي”، والذي قامت فلسفته على تغيير شكل نظام الحكم إلى نظام ديمقراطي معدّل، حيث يبدو أن هذا الانتقال كان عبارة على تمرين سياسي وشعبي مُستحدث في كامل المنطقة، ما انعكس على شخصية مواطنيها ومنظوماتهم الفكرية ومحركاتهم الذهنية وتفاعلهم مع الآخر وانفتاحهم على الغير ومناهجهم التربوية وصولا الى عائلاتهم وعاداتهم وتقاليدهم.

واعتقد هنا، أنّ هذه الفلسفة وراء ترتيب الأولويات بطريقة تجعل السؤال السياسي الديمقراطي يحظى بالأولويّة على حساب الإشكالية الاجتماعية التي كانت أحد أبرز أسباب خروج الناس إلى الشارع ضد نظام بن علي، والتي لم تقدم لها الأحزاب الحاكمة إثر هذه المحاولة الديمقراطية الأخيرة إجابات كافية ولا العناية اللازمة بل قامت بتهميشها والتعامل معها بطرق ترقيعيّة في أفضل الأحوال، ما انعكس على خروجنا بمحصّلة اقتصادية سلبية شكّلت الأرضية الشعبية للانقلاب الدستوري الذي قاده رئيس الجمهورية في 25 جويلية لينهي أيام الانتقال الديمقراطي.

يبدو أن التونسيين قد فضّلوا، في تلك الفترة، التفريط في المكتسبات الاستثنائية التي حلّت بعد 2011 وتمثّلت في حرية التنظم في أحزاب وجمعيات، والترشح للانتخابات والمشاركة في فعاليات المجتمع المدني والتفاعل مع إعلام حرّ والنقاش المفتوح بلا قيود ولا رقابة في المقاهي ومجالسهم العائلية على حساب ما اعتبروا أنه قد يساهم في إيقاف النزيف الاجتماعي وتردّي الخدمات العامة كما كان العهد عليه أيام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

وفي هذاالإطار جاء قيس سعيّد، الرجل الغامض الذي يبدو أنّ التونسيين لم يختاروه لشخصه ولا لبرامجه وتصوراته، وحتى وإن سمعوها وتفاعلوا معها فإنهم لا يفهمونها. لكنهم اعتبروا هذا الرجل، وما بدا لهم كونه الصورة الرمزية لذلك الأستاذ المستقيم والذي يتكلّم بشكل جيّد باللغة العربية الفصحى، عقوبة لنخبة سياسية كاملة باختلافاتها، أنهكت عقولهم بالثرثرة وساهمت في تجويعهم على ما يبدو فتفاعلوا معها بطريقتهم الخاصّة.

كما يبدو أيضا، أن تجربة الانتقال الديمقراطي قد ساهمت في جرّ تونس إلى معارك إقليمية ودولية كثيرة، وحشرها في صراعات أكبر منها، بل أصبحت مركزا لها في أحيان أخرى وهذا ما جعل الرئيس الحالي لا يجد صعوبة بادئ الأمر في توحيد هياكل الدولة وقواها خلفه على الأقل في تلك اللحظة، نظرًا للاستنزاف الذي حصل للهياكل الأمنية أثناء فترة الحكم اللامركزي الذي لم يؤثر بشكل ملحوظ في سلوك القوات الحاملة للسلاح والتي يبدو انها اعتبرت الانتقال الديمقراطي تنازلاً لا مكسبًا باعتبارها تعوّدت على أن تحتكر أدوار النفوذ طوال العقود الطويلة السابقة.

على المستوى السياسي، يعتقد قيس سعيد أنّ زمن الديمقراطية التمثيلية بصيغتها الحالية قد انتهى، وأن الوقت قد حان لإعادة التفكير في بدائل سياسية جديدة لممارسة الحكم. ويعتقد أنّ الإجابة على هذا السؤال لا تكون بصفة فردية، بمعنى انه لا يعرف بالتحديد كيف يمكن أن يكون المستقبل “الانساني” ولا المحلي وكيف يمكن ممارسة الحكم بطريقة أفضل، لذلك يعتبر نظام الحكم القاعدي الذي يقترحه إجابة جماعية ومساحة لمناقشة الأفكار حول هذه الأزمة الحالية المتعلقة بأي نظام سياسي يجب ان نعتمد.

 

أفكار سعيّد المتناقضة

 

للوهلة الأولى، وكمادة فلسفية يبدو أن هناك بعض الأفكار التي تستحق النقاش في هذا الطرح، غير أن الأدوات التي يستعملها الرئيس الحالي تجعله على الضفّة الأخرى من أفكاره نفسها، باعتبار أنّ هذه التجربة الخاصة منذ 25 جويلية إلى اليوم على مستوى طريقة ممارسة السلطة، داخل هياكل الدولة التي يحتكر كل ما فيها تقريبا، تتعامل بطريقة متناقضة تماما مع الأفق شديد الإنسانية الذي ينوي الرئيس سعيّد فتح الطريق له. فهو من ناحية يبحث عن إجابات جماعية عن أسئلته، ومن ناحية أخرى يحتكر كل أدوات التغيير. يصرّح بكونه يطرح المضيّ خطوة جديدة نحو الديمقراطية والحرية ولكنه لا يجد غير الأدوات الأمنية في التعامل مع المختلفين عنه.

كما أنّه تعوّد على نشر المغالطات، آخرها موضوع تعاطيه مع ملف رفع الدعم. هذا الملف يبدو شديد الحساسية باعتباره سيساهم في مراكمة الأزمات، ومع ذلك يؤكّد الرئيس أنّ الحكومة لا نية لها في تبنّي هذا الخيار.

كما يعرّج في إطار أخر أن لا سبيل لخوصصة المنشآت والمؤسسات العمومية، في تناقض كامل مع ما قالته السيدة كريستينا جورجيفا مديرة صندوق النقد الدولي في تصريحاتها إثر إبرام الاتفاقية الأخيرة مع ممثلين عن الحكومة التونسية في شهر اكتوبر، حيث صرّحت بأن الجانب التونسي هو من أبدى رغبته في خوصصة بعض المنشآت العمومية .

خارجيا، يبدو أن تونس قد خسرت أصدقاء كُثرا وعزلت نفسها. فبعد أن صادق مجلس الأمن الدولي بالإجماع على مقترحها منذ سنتين بإيقاف النزاعات المساحات المسلحة أثناء الوباء، وبعد الدعم الدولي الكبير الذي حظيت به هذه التجربة الديمقراطية الناشئة خلال العشرية الماضية، وحتى أشهرا بعد الانقلاب الدستوري، تبدو في الوضعية الحالية شبه معزولة نظرا لما عقب مسار جويلية من تقلبات على مستوى السلوك العام والتصريحات.

 

 خلل في ترتيب الأولويات

 

إنّ الشعب التونسي قادر على أن يكون شعبًا مُبدعًا متطوّرا ومتقدمًا، وهذه الدولة يمكن أن تصير أقلّ تخلّفًا وغباءً لتلتحق بركب الدول المُتقدمة الأخرى، وان هذه الدول التي يُشار لها حينما نتحدث عن التقدم هي نفسها، في أوقات سابقة في تاريخها قد مرّت بتجارب صعبة بل قاسية، هي التي ساهمت بشكل رئيسي في جعلها على هذا المستوى من التقدّم. وعليه فإن الرجوع الى الوراء أو المضي خطوات صغيرة الى الامام ليس مُشكلا في سنوات قليلة كهذه، وما علينا إلاّ أن نتعامل معه كإشكالية قد يمكننا تجاوزها من تعلم قواعد معرفية جديدة والتمرّن على التعاطي مع أزمات مشابهة ومراكمة خبرة تجعل ممارستنا أكثر نضجًا.

إن السؤال السياسي سؤال شديد الأهميّة، ولكلّ منا طريقته الخاصة في الإجابة عنه، وهنا تكمن الحاجة إلى الديمقراطية باعتبارها المساحة التي ستمكن من إدارة الاختلاف مع الاخر والتعبير عمّا يراه من أفكار. وهنا تكمن الحاجة إلى مضامين الديمقراطية، وما تكفله من حريّة الفكر والإبداع والاختلاف. لقد عجزنا عن بناء جيل تونسي جديد شاب وديمقراطي وهذا هو رصيد الديمقراطية الحقيقي وجيشها السلمي والفعّال أمام كلّ فكرة قد تحاول اجتثاثها.

لا تقلّ قيمة المسألة الاجتماعية عن الإشكال السياسي. فكيف يمكن القيام بهذا التطوير ومنح العقل الشعبي فرصة للتطور والانفتاح والنقد وفي نفس الوقت عدم تمكينه من أبسط ضروريات الحياة. إن الإنسان حينما يجوع يلقي الكتاب من يده ليذهب للبحث عن قطعة خبز، هذه المسألة غريزية ولا تحتاج الى عباقرة لفهمها، تحتاج فقط الى القليل من المنطق، ففي هذا المثال تصبح المسألة الاجتماعية حماية للديمقراطية نفسها وضمانًا لاستمراريّتها. لقد جوّعت هذه العشرية الناس، وفقرّت الطبقة الوسطى والطبقات الأكثر فقرا.

بعد 2011، أنفقنا وقتا طويلا في نقاش مسائل بديهيّة من المفترض ان يتم الاتفاق حولها فور هروب بن علي بين القوى السياسية. فنحن بذلنا جهدا في غياب اتفاقات بديهية في تلك اللحظة. لقد كان التغيير الذي وقع في 2011 بلا قيادة سياسية وبلا أفكار بديلة، غير بعض الشعارات العامة والتي تم تجاهلها بدورها، وبالتالي كان من المفترض إيجاد قيادة واسعة أو وثيقة تأسيسية فيها مشتركات بين من سيشارك في التغيير القادم، تتضمن ما يمكن أن يجمع الأطراف السياسية في تلك اللحظة، حتى قبل الحديث عن النظام السياسي نفسه، كمسألة الهويّة مثلا. فقد أوشكت البلاد على أن تدخل في حرب أهلية لتنتهي أخيرا بترك الفصل الأول بالدستور على ما هو عليه.

هل يحتاج الأمر إلى اتفاق يتضمّن أنّنا بحاجة إلى تثبيت “المكتسبات” المدنية التي تمت مراكمتها منذ الاستقلال الى ذلك الحين، خاصة أنّه تم الاتفاق حولها حتى قبل الثورة نفسها، أم أننا بحاجة إلى تجييش اعلامي ومظاهرات واعتداءات؟ لنقل إنّ الأمر يبدو منطقيّا، وهنا تجدر الإشارة إلى الدّور السلبي الذي لعبته حركة النهضة في إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي. في تلك الفترة، كانت تونس بحاجة إلى تأسيس عقد اجتماعي وإلى الخوض في مسائل جوهرية عوضا عن نقاش البديهيات.

 

ما الحلّ؟

 

تبدو تونس خالية من كل المبادرات المدنية والسياسية القادرة على احتواء حوار واسع، أو على الأقل يمكن ان تساهم في الارتقاء بالصراع السياسي الموجود ولو قليلًا.

هل كان ممكنا اصلاح الانتقال الديمقراطي من داخله؟ نعم بالإمكان، شريطة أن يتحمّل قادة الأحزاب السياسية في منظومة الانتقال الديمقراطي وعلى رأسهم حركة النهضة مسؤوليتهم في تدهور الأوضاع بذاك الشكل شديد السلبية، مع أن هذا الأمر لم يعد ممكنا.

فقيس سعيّد، الرئيس الذي يبدو أنه لا يعرف ما يريد إلى الآن، ويعيش على وهن معارضيه وربّما إجرامهم في حق التونسيين، أجهز على كل الأدوات السياسية القادرة على إصلاح حال البلاد من داخل منظومة الحكم، واقترح نظامًا احتكر خلاله كل الصلاحيات تقريبا، دون استغلالها لإعادة توجيه الديمقراطية كما صرّح بذلك، ودون ان يقترح على “الإنسانية” بدائل مُبهرة الى الآن.

ان تونس، الدولة المدنية المتقدّمة بشعبها المتعلّم والمنفتح، قادرة على أن تكون لا مثالاً إقليميا فقط، بل منارة عالميّة وفضاءً للحوار الإنساني حول القضايا المتعلقة بمصيرنا كبشر. وهي تعيش هذه الأيام حالة تمزّق، بين قيادة الانتقال الديمقراطي، التي لم تجرؤ إلى الآن على نقد مردودها وأدائها السياسي خلال العشرية الفارطة، وبين رئيس يصرّ على الهروب إلى الأمام. وهنا يحول الحوار بيننا وبين العودة إلى القوانين العرفية، وهذا ما يبدو جليّا في الأفق، مصحوبا بأزمة اجتماعية خانقة.

إن الغاية الحقيقيّة من الحوار ليست انتصار أحدٍ على الآخر، بل هي إثبات جدارتنا في أن نتعايش بشكل مشترك، في هذه البلاد التي نتحمل مسؤولية مصيرها، والتي لا نملك غيرها. حوارٌ يجب أن ينطلق من الإخلالات التي شابت التجربة الأخيرة، من 14 جانفي وصولا إلى اليوم، وعلى الأقل عدم خسارة هذه الخبرة التي راكمناها في التعاطي مع الازمات.

إنّ هذه الأزمات تثبت أنّ استقرار تونس لا يكون إلاّ باتفاق جماعي، يكرّس الحدّ الأدنى الديمقراطي والاجتماعي، ثم تأتي السياسة ويأتي الاختلاف، الذي يكون الغاية منه، خلق تمايز بين بعضنا البعض، وجعل الحياة على هذه الأرض ممكنة.