في الأثناء، يجلس الناس فرادى وجماعات قرب الآثار وسط المدينة في دعة وسكينة، يستمتعون بأشعّة الشمس الصباحيّة. لا شيء يوحي بأنّ عمليّة التصويت قد بدأت، سوى السير الحثيث لممثّل منظّمة “عتيد” الّذي يضع شارة الاعتماد على صدره متنقّلاً بين المكاتب ليرصد الإقبال على الاقتراع. يقول بحرقة إنّ نسبة الإقبال على التصويت ضعيفة جدّا. هناك في أعلى المنحدر، انتصبت سيارات الشرطة ودبابات الجيش لتأمين مكاتب الاقتراع، ووقف أمامها الأعوان وهم يلقون التحيّة على المارّة كأنّهم يستحثّونهم على الدّخول.

 

خيبة من الانتخابات ومن الطبقة السياسية

 

يحظى الفاهم العرباوي، كاتب عام الاتّحاد المحلي للشغل بتالة، باحترام الجميع، فما إن يمرّ قرب مقهى أو بجوار مجموعة من المارّة حتّى يتحلّق حوله الجميع ليتجاذبوا أطراف الحديث. مشهد يوحي بأنّ الأهالي يستأنسون برأي الممثل المحلي للاتحاد للإدلاء بأصواتهم. “أنا لن أنتخب، ولكن لا أمنع غيري من الاقتراع. موضوع الانتخابات حسمته نهائيّا”. الفاهم كغيره من المتساكنين خاب أمله ولم يعد يرجو شيئا، وهو يكتفي بابتسامة مريرة حين يتحدّث توفيق وفيصل و ربيع حول طاولة الغداء بذلك المطعم الشعبي عن فشل التجارب السياسية في النهوض بالجهة، ويحاول تخفيف وطأة الحديث بدعوة الوافدين لتقاسم الطعام: “هيا بسم الله يا راجل”.

“هذه البلاد تحتاج دكتاتورًا جديدًا”، لا بدّ من “بن علي جديد”، “لا أمل ولا رجاء في صلاح الحال، ما دامت النخب الحاكمة على ما هي عليه”، “أنا أرفض أن أقدّم نفسي في انتخابات وأنا لا أضمن النهوض بجهتي”، يحدّثنا المارّة وهم ماضون لقضاء شؤونهم، فيما يتساءل أحدهم وهو يُشعل سيجارة ماسكًا بيده الأخرى فنجان قهوة “هل اليوم انتخابات؟” ثمّ يضحك من نفسه.

يبلغ عدد سكان مدينة تالة وفق المعهد الوطني للإحصاء 37.128 ساكنًا، معدّل أعمارهم 31.4 سنة، وترتفع فيها نسبة الأمية إلى 30.5% وتبلغ نسبة النشيطين فيها 35%.
قدّمت تالة خمسة شهداء يوم 8 جانفي 2011، لتنفخ النار أكثر لدى الشعب الغاضب آنذاك، معلنة انطلاق سلسلة من الاحتجاجات وصلت إلى العاصمة، حيث غادر بن علي. ولكنّ الثورة وشهداءها في تالة يكادان يغيبان عن حديث الأهالي، لولا توفيق الّذي قدم على عجل لينال نصيبه من الطّعام. يقول توفيق بحرقة وألم كبيرَين “كنت أكفكف دماء المصابين هنا، وأحاول عبثًا حماية الآخرين. أنا وهؤلاء ساهمنا في الدّفاع عن البلاد، ولكن الثورة سُرقت والبلاد استُبيحت من الأجانب. لم تعد لنا سيادة وطنيّة. النّهضة وأتباعها سرقوا الثورة، وأنا أكره النّهضة”.

يطأطئ الحاضرون رؤوسهم وكأنّ توفيق أصاب عين الحقيقة الّتي يتحاشى الجميع الخوض فيها: الثورة، والسيادة الوطنية.
ونحن نجوب الشارع الرئيسي، اعترضنا الفاهم وهو يتأبّط ساعد المترشّح عمار العيدودي وقال، محاولاً كسر حاجز الجليد بيننا وبينه: “هذه صحافية، وهذا سي عمّار، حدّثها عن برنامجك الانتخابي”. ابتسم الجميع من سلوك سي الفاهم الّذي يتبيّن بمرور الوقت أنّه يحظى بسلطة معنويّة تختصر المسافات بين الأشخاص وتجعل الحديث أكثر سلاسةً بينهم. “تالة تعاني الفقر المائي، والحال أنّها محاطة بثلاثة عيون. لا بدّ أن تنال نصيبها من التنمية، وأنا سأعمل على جعلها ولاية حتّى تُدرَج ضمن المخطّطات التنموية. رخام تالة لا تستفيد منه الجهة، وهو ملفّ فساد كبير لا بدّ من العمل عليه حتّى تعود هذه الثروة بالفائدة على الأهالي. على تخوم جبال تالة ينبت إكليل الجبل الّذي تُستخلص منه الزيوت الطبيعية الّذي يجب أن يستفيد الأهالي منه هو الآخر”.

فشل عمّار العيدودي في الحصول على الأغلبية المطلقة لأصوات الناخبين يوم الاقتراع، وسيتنافس مع نظيره شكري عمري في دور ثانٍ للتشريعيّات، تبدأ حملته في 20 جانفي 2023، وفق ما أكّده محمّد التليلي المنصري، الناطق الرسمي باسم الهيئة.

 

برامج انتخابية لم يحن قطافها

 

على خلاف عمّار، لم يكن مترشّح دائرة القصرين الجنوبية-حاسي الفريد قد حسم أمر برنامجه بعد. في القصرين المدينة، جلس كلّ من عدنان الناصري وعبد العزيز الشعباني في أحد المقاهي. الحركة عاديّة جدّا ولا أثر لحبر الاقتراع على أصابع روّاد المقهى، ما عدا المترشّحَين.

عبد العزيز الشعباني هو مترشّح بين ستّة آخرين عن دائرة القصرين الجنوبية-حاسي الفريد. تبدو عليه علامات القلق والتوتّر قبل ساعة من غلق مكتب الاقتراع، ولكنّه يحاول تخفيف حدّة الضغط عبر استفزاز خصمه الّذي كان يتندّر بعلامات القلق البادية عليه. كان عبد العزيز عضوًا في حركة النهضة التي ترشّح عن قائمتها في الانتخابات البلدية سنة 2018، ولكنّه استقال من الحركة ومن عضوية المجلس البلدي. “من باب الأمانة استقلت من عضويّة المجلس البلدي مباشرة إثر استقالتي من الحركة التي ترشّحت كممثّل عنها. والآن لا أخفيكم أنّ استقالتي من النهضة كانت إحدى محرّكات حملتي الانتخابيّة الّتي أتمنّى أن أنجح فيها”. وعن أدائه في المجلس البلدي يخبرنا المترشّح أنّ العمل كان دون المأمول، “ولذلك استقلت”. “إن فشلت في ذلك الوقت فهل ستنجح الآن وستحقّق وعودك؟” تسأله نواة، فيجيب “الآن الأمر تغيّر وسأسعى إلى تغيير الوضع نحو الأفضل. عندما أصبحت مديرا للمدرسة الابتدائيّة في حاسي الفريد تراجعت نسبة الانقطاع المدرسي. لا أستحضر النّسب المائوية ولكنّ عدد المنقطعين تراجع من 60 إلى 40 (أرقام تقريبيّة)، وهو مؤشر جيّد”.

رغم القلق يبدو عبد العزيز واثقًا من فوزه، وقد حرص على تعبئة الأصوات قائلا: “حتّى الحجارة عليها أن تشارك في عمليّة التصويت”، مثيرا بذلك ضحك الحاضرين. يسأله خصمه عدنان الناصري عن برنامجه فيجيب “عندما أصل إلى البرلمان ستتبلور البرامج. أنا الآن متوتّر. ولكنّ البرنامج الأبرز هو تفعيل مشروع التنمية المندمجة. “كيف ستهتمّ بالتنمية المندمجة في منطقة تفتقر إلى الماء”؟ يحاول ربيع إحراج المترشّح الذي يبدي حرصه على إيلاء هذا الأمر عناية خاصّة، ثمّ ينصرف بعد أن أنهى أكله.
يهدف برنامج التنمية المندمجة إلى خلق حركيّة اقتصاديّة ومواطن شغل في الجهة، من خلال بعث مشاريع فلاحية وإحداث مؤسسات صغرى ومتوسطة وتطوير البنية التحتيّة. مشروع قدرت كلفته بـ5826 مليون دينار، تشمل 18317 ساكنًا.

لم يسعف الحظّ المترشّح عدنان الناصري في نيل مقعد بالبرلمان، ولكنّ عبد العزيز الشعباني مرّ إلى الدور الثاني ليتنافس مع المترشّح محمّد الأنور حقّي.

يعوّل المرشّحون على رصيدهم الرّمزي والمعنوي لدى النّاخبين، حتّى تصبح الدائرة الانتخابيّة منقسمة إلى عشائر وقبائل، يحاول كلّ مترشّح تعبئة خزّانه الانتخابي من العشيرة التي ينتمي إليها، وحينما تُعلَن النتائج، تتّضح الصورة لديهم ويُمكنهم حينها بناء برنامج متكامل.
في مركز الاقتراع بحي البساتين من دائرة القصرين الشمالية، دخل رجلان مسنّان وسأل أحدهما عن المكتب الّذي سيقترع فيه. وبعد جدال قصير بينهما، أقسم أحدهما بأن لا يدلي بصوته قائلا: “البلاد جاثمة على ركبتيها الآن، ومع هذا الاقتراع سوف تزحف إلى الحضيض”، فيما يردّد الآخر أنّه من العبث أن يحجم الناخبون عن التصويت قائلا “سأمنح صوتي لأضمن مستقبل ابني الّذي يتّكئ الآن على الجدار بلا مورد رزق”.

تاريخ 17 ديسمبر الّذي قرره قيس سعيّد عيدا وطنيا للثورة، فقد هذه السنة بُعده الرّمزي حين تمّ اختزاله في الانتخابات، واستنفذ فيه سعيّد رصيده السياسي بنتائج اقتراع لا تكاد تصل إلى 9% من جملة الناخبين المسجّلين. رقم يسخر من مقولات الشعب الّذي يريد، شعب بدا تائها غير معني بانتخابات أولى مجالس سعيد الموعودة، معلنا تعطلا، وإن كان منتظرا، في مسار المصعد الذي يقود تونس إلى العلو الشاهق، حيث ينتظره الرئيس.