تقول فاطمة لنواة : ”أنزل إلى سوق حي الخضراء البلدي يوميا وأقوم بجولة قصيرة بين الباعة في السوق وأشتري ما أحتاجه وأحيانا أعود بكيس فارغ لأن الأسعار مرتفعة جدا. كنت أخطط اليوم لشراء بعض الغلال لكنني تراجعت لأنني لا أجد الموز، فالباعة لا يريدون بيعه بسعر خمسة دنانير. أنفق يوميا بمعدل خمسين دينارا بين الخضر وبعض لحم الدجاج وأحيانا أضطر إلى شراء هيكل دجاج للحصول على مذاقه فقط. أما لحم الخروف فقد استغنيت عنه بسبب ارتفاع سعره“.

قبل دخول شهر رمضان، طمأنت الحكومة التونسيين بإجراءين للتحكم في الأسعار، أولهما وضع رقم أخضر للتبليغ عن المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار، والثاني هو تحديد سعر موحد للكيلوغرام من الموز لا يتجاوز خمسة دنانير والتفاح ب4.5 دينار، في الوقت الذي تواجه فيه تونس أزمة تضخم غير مسبوقة.

نسبة تضخم تاريخية

يواجه التونسيون معادلة صعبة في شهر رمضان بين شراء ما يحتاجونه لإعداد أطباق الإفطار، وبين موازناتهم الضعيفة مقارنة بأسعار اللحوم والغلال والخضر. يقول صاحب محل لبيع لحوم الدواجن لنواة: ”حي الخضراء تقطنه أغلبية من الطبقة المتوسطة، ويبدو تأثير ارتفاع الأسعارعلى تلك الطبقة من خلال كميات الدجاج التي يشترونها في الأيام العادية وفي شهر رمضان. فالبعض يكتفي بشراءهيكل الدجاج ويوميا يقف أمامي حرفاء لشراء أقل من مائتي غرام وبعضهم يخيّر شراء قطع دجاج لا يفوق ثمنها دينارين“.

في ظرف ثماني سنوات، تضاعفت نسبة مؤشرات أسعار الاستهلاك العائلي، وهي مقياس أسعار السلع والخدمات، حيث ارتفع سعر الأجبان ومشتقات الحليب بنسبة 16.1 %بين فيفري 2022 وفيفري 2023 وفق المعهد الوطني للإحصاء. وتشهد أسعار الدواجن ارتفاعا شهريا بنسبة تصل إلى 5 %وارتفعت نسبة التغير الشهري لأسعار الخضر ولحوم الضأن بنسبة تفوق 4%.

الاختلال بين العرض والطلب أدى إلى وصول نسبة التضخم إلى10.4%، وهي نسبة لم تسجّلها تونس في تاريخها منذ الاستقلال. يقول الباحث المختص في الاقتصاد معز السوسي في تصريح لنواة إن 70 %من نسبة التضخم ترجع أساسا إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية التي لها علاقة بالقطاع الفلاحي.

حلول ترقيعية دون جدوى

من أجل الضغط على الأسعار خاصة خلال شهر رمضان، خصصت الدولة 19 نقطة بيع من المنتج إلى المستهلك التابعة لديوان الأراضي الدولية بوزارة الفلاحة، منها نقاط قارة وأخرى موسمية خلال شهر رمضان. كان من المفترض أن تكون أسعار السلع في نقاط البيع من المنتج إلى المستهلك أقل من الأسواق الأخرى، غير أنها لم تستطع جذب المستهلك بسبب الفارق الضئيل في الأسعار بينها، حيث حدد ثمن كيلوغرام من الدجاج بـ 8,2 دينار  في سوق من المنتج إلى المستهلك، أي بفارق 55 مليما عن أسعار الأسواق الأخرى.

تقول فاطمة، إن أقرب نقطة بيع من المنتج للمستهلك لمنزلها توجد بشارع آلان سافاري، وهو ما يستدعي التنقل عبر سيارة أجرة، وتضيف ”إذا خيرت شراء ما أحتاجه من لحوم وخضر من سوق من المنتج إلى المستهلك، فلن أستطيع أن أوفّر شيئا، إذا احتسبنا ثمن سيارة التاكسي ذهابا وإيابا. أفضّل شراء ما أحتاجه بكميات قليلة من السوق البلدي في حي الخضراء على الوقوف في صفّ طويل من أجل توفير مائتي مليم“.

تتجول فاطمة في السوق البلدي بكيس فارغ بحثا عن الموز الذي أعلنت وزارة التجارة عن تخفيض سعره، لكنها تفشل في العثور على مرادها لدى أي بائع غلال. يقول أحد الباعة بالسوق في تصريح لنواة ”من أراد شراء الموز بالسعر الذي حددته الدولة فليذهب في الصباح الباكر إلى المغازات الكبرى، سيجد ضالته هناك، أما أنا فأبيع غلالا أخرى لأن السعر الذي حُدد غير مقبول“، تقاطعه فاطمة متسائلة عن سعر البرتقال، قبل أن تتراجع عن شراء ست حبات لأن ثمنها وصل إلى 6 دنانير، لتنسحب من السوق وهي تجر كيسها القماشي الفارغ قائلة ”ليكن الله في عوننا. لن أشتري شيئا اليوم سأكتفي بما بقي من أطباق يوم أمس“.

رقم أخضر مشغول ومراقبة عليلة

منذ عام، أصدر الرئيس قيس سعيد المرسوم عدد 14 لسنة 2022 المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة. وشدد ذلك المرسوم العقوبات ضد المحتكرين والمضاربين، ليصل عدد الموقوفين المتهمين بالاحتكار بين 11 مارس و7 أكتوبر إلى 2542 حسب وثيقة تحصلت عليها منظمة أنا يقظ من وزارة العدل، أطلق سراح 2318 منهم. وقبل دخول شهر رمضان، وضعت وزارة التجارة رقما أخضرا لتلقي بلاغات عن تجاوزات في علاقة بالأسعار. تكفي تجربة قصيرة لتبين أن الحل الذي وضعته الوزارة لإسنادها في المراقبة غير مُجد، حتى خاضت نواة تجربة الاتصال بذلك الرقم لكن واجهت صعوبة في التواصل مع خلية تلقي الشكاوي لأن الخط كان مشغولا بصفة دائمة.

تتابع وزارة التجارة المخالفات بعد تلقيها الشكاوي على الرقم الأخضر، وترتبط مدة تحركها بنوع الشكوى المقدمة حيث يمكن أن تصل تلك المدة إلى ثلاثة أيام، ليحدد المدير الجهوي للتجارة طبيعة عملية المراقبة، استعجالية كانت أو عادية.

كما تحدّد الوزارة فترة التحرك نحو المعاينة، وتعتمد في ذلك على ثلاثة مراقبين من وزارتي التجارة والصحة صحبة أعوان من الشرطة البلدية بالتنسيق مع الإدارة الجهوية للتجارة، قبل إقرار العقوبة التي تتراوح بين غلق المحل وبين العقوبات السجينة والمالية وهي مهمة يتكفل بها القضاء. يبدو ذلك الحل غير مجد بالمرة، فحسب أرقام سابقة تحصلت عليها نواة من وزارة التجارة، يبلغ العدد الجملي للمراقبين التابعين للوزارة 300 مراقبا إذا تم استثناء الأعوان التابعين لوزارة الصحة والشرطة البلدية، مكلفون بمراقبة دورية لقرابة 800 سوق من ضمنها 275 سوقا بلدية يومية، دون احتساب نقاط بيع الخضر والغلال والمواد الغذائية غير المنظمة، والتي لا تستطيع وزارة التجارة تحديد عددها، وبالتالي يصعب مراقبة الأسعار فيها. كما تُسند إلى المراقبين مهمة الرقابة الدورية لـ33 ألف تاجر خضر وغلال وأسماك ولحوم إضافة إلى 83 ألف تاجر مواد غذائية، وهي معادلة غير منطقية، تستحيل معها المراقبة الدورية للأسعار.

تعتمد الحكومة في الضغط على التضخم بالترفيع في نسبة الفائدة المديرية التي وصلت إلى   %8في فيفري 2023، بعد أن كانت 5 %سنة 2017. وتهدف سياسة البنك المركزي إلى التقليل من الإقبال على القروض الاستهلاكية. يقول سامي السوسي، الباحث في الاقتصاد، في تصريح لنواة ”فرض البنك المركزي على البنوك ذلك الإجراء حيث حدد نسبة تمويل لا تتجاوز120 %من إجمالي تمويلاته“.

حلقة التضخّم المفرغة

منذ سنة، تسارع نسق ارتفاع نسبة التضخم، واعتمدت الدولة أساسا على البنك المركزي في تحديد سياسة لمنع انخفاض قيمة الدينار من جهة وللتحكم في نسبة التضخم. يقول السوسي ”توخى البنك المركزي سياسة وحيدة وهي الرفع في نسبة الفائدة المديرية، غير أن الوضع تعكر لأن الدولة اعتمدت سياسة نقدية فحسب لمواجهة ارتفاع الأسعار الذي تسبب في نسبة التضخم المرتفعة. في المقابل، لجأت الدولة إلى مواجهة التضخم بسنّ مراسيم وقوانين وهو أمر غريب وسابقة لم تشهدها أية دولة في العالم. فهل يعقل أن تفكر دولة في تخفيض سعر الموز والتفاح وهي منتجات يمكن الاستغناء عن استيرادها، لتواجه غلاء الأسعار؟ كان الأجدى التوجه نحو إجراءات فعالة وتحديد أسباب هذا التضخم وهي اختلال التوازن بين العرض في السوق والطلب“.

يصف سامي السوسي توجه الدولة للتحكم في نسبة التضخم بالخطأ المنهجي، مضيفا أنه من الخطأ اللجوء إلى محاربة المحتكرين فحسب للتحكم في الأسعاروفي نسبة التضخم، وأن التصدي للتضخم هو عملية شاقة وأسبابه الداخلية في تونس واضحة وهي تعطل نسق الإنتاج خاصة الإنتاج الفلاحي، بالإضافة إلى ما يسمى بالتضخم المستورد وهو مرتبط بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية. وبالتالي فإن السياسات الاقتصادية في تونس لمواجهة ارتفاع الأسعار هي سياسيات “سطحية وشعبوية“ حسب قوله ويحدد السوسي تلك الأسباب بالقول: ”يجب معالجة مشكل التضخم بالرجوع إلى الأسباب الحقيقية وهي ندرة العرض المرتبط أساسا بتعطل الإنتاج. فمسألة التضخم وارتفاع الأسعار هي آخر الحلقات المرتبطة بسلسلة الإنتاج، فلو أسندت الدولة منظومة تربية الماشية ودعمت الفلاحين لما وصل سعر الكيلوغرام من لحم الخروف إلى 42 دينارا. فهل يعقل أن تساوي عشرة كيلوغرامات من لحم الخروف الأجر الأدنى للمواطن؟ تعيش الفلاحة في تونس أزمة لم يسبق لها مثيل لكن الدولة لم تفكر في حلول حتى وصلت إلى وضع انفلات في الأسعار. الحل لا يكمن في جرة قلم ولا توضع السياسة الاقتصادية لمعالجة الأزمة بسن المراسيم فحسب“.

مع حلول المواسم التي ترتفع فيها نسب الاستهلاك، يجد المواطنون أنفسهم عاجزين عن تلبية حاجياتهم إزاء ارتفاع أسعار المنتوجات أو غياب بعضها عن الأسواق، متحمّلين في ذلك خيارات هيكليّة للدولة. السلطة الحاكمة اكتفت بسنّ مراسيم شكليّة لا يمكن أن تأتي ببدائل جديّة، وواجهت أزمات نقص الإنتاج وغياب الموادّ بخطابات بالتهديد والتوعّد. فقضية التضخّم وارتفاع الأسعار معركة متعدّدة الجبهات، وهي مسألة هيكليّة لا تُعالج بدعوة الوزراء إلى قصر قرطاج وإلقاء الخطب على مسامعهم والتوجّه إلى ”الشعب“ من خلالهم.