”سجّلنا أرقامًا قياسيّة في الإحالات بتهمة التآمر على أمن الدولة، تفوّقنا فيها بذلك على الجزائر وأفغانستان“، يقول المحامي أحمد صواب لنواة، مضيفًا: ”في ظرف سنة ونصف، سجّلنا سبعة ملفّات تآمر على أمن الدّولة، وهي أكثر من الملفّات التي تمّ تسجيلها خلال فترة الاستعمار“.

التآمر على أمن الدولة هو اختزال لجملة من الأحكام التي ضمّنتها المجلة الجزائية في جزء ”الاعتداءات على النظام العام“ من الكتاب الثاني المعنون ”في جرائم مختلفة والعقوبات المستوجبة لها“، الممتدّ على أكثر من عشرين فصلا، من الفصل 60 ومختلف تفريعاته إلى الفصل 81. العقوبات المنصوص عليها تتراوح بين العقوبات السجنية والخطايا الماليّة والإعدام، في أقصى الحالات، وتتعلّق بأحكام تُجرّم الخيانة وتحطيم معنويات الجيش والاعتداء على أمن الدّولة الخارجي والداخلي وتبديل هيئة الدّولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض.

جلسة عامّة افتراضية، تعادل ”تآمرًا على أمن الدّولة“

عقد نواب البرلمان المنحلّ في 30 مارس 2022 جلسة عامّة افتراضية عبر تطبيقة زووم حضر خلالها 121 نائبًا، صادقوا على مقترح القانون عدد 01 لسنة 2022 القاضي بإنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية التي فرضها قيس سعيّد في 25 جويلية 2021، في مقدمتها أوامر تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب والتمديد في التدابير الاستثنائية وإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء. وقد تمّ التصويت بإجماع الحاضرين (116 نائبًا) على إلغاء العمل بالتدابير الاستثنائية.

خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي المنعقد في اليوم ذاته، أعلن قيس سعيّد حلّ البرلمان بناءً على الفصل 72 من دستور 2014، بصفته ”رئيس الدولة، ورمز وحدتها، وضامنًا لاستقلالها واستمراريتها“، متغافلاً عن شرط ”احترام الدستور“ الوارد في الفصل ذاته.

في 31 مارس تعهّدت الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب، بإذن من وزيرة العدل ليلى جفال، بالتحقيق ضد النواب المشاركين في هذه الجلسة العامّة بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة على معنى الفصل 72 من المجلة الجزائية، جريمة تصل عقوبة مرتكبها إلى الإعدام.

وحدة البحث في جرائم الإرهاب، استمعت إلى 7 نواب خلال الأسبوع الموالي للجلسة العامة الافتراضية، من بينهم رئيس البرلمان المنحل راشد الغنوشي وطارق الفتيتي النائب الثاني لرئيس المجلس الّذي أشرف على الجلسة الافتراضية.

قضيّة أنستالينغو: جوسسة؟

رغم تطمينات قيس سعيد بعدم المساس بالحريات صار استحضار هذه التهمة أمرًا متواترًا، خاصّة مع بروز قضيّة أنستالينغو على السطح، وهي قضيّة متشعّبة، تجمع بين غسيل الأموال وتبديل هيئة الدّولة، تصل الأحكام فيها إلى الإعدام وفق فصول المجلّة الجزائيّة.

أنستالينغو، وفق السجل الوطني للمؤسسات، شركة ذات مسؤولية محدودة منتصبة بمنطقة القلعة الكبرى بسوسة، رأس مالها 10 آلاف دينار مختصة في الأنشطة الإعلامية، يُسيّرها أشرف بن عمر. وهي في وضعية جبائية غير مسوّاة منذ ما يزيد عن السنتين. يقول محامي الموقوفين في القضية مختار الجماعي إنّ هذه الشركة مختصّة في ترجمة المحتوى ”ولها اتفاقيات تجارية مع وكالات الأنباء العالمية وتتعامل مع شبكات الجزيرة ونيويورك تايمز وتصنع المحتوى تحت الطلب“ مثل مساهمتها في الحملة الانتخابية لأحد المترشحين تحت إشراف هيئة الانتخابات، وهي ”صانعة رأي تحت الطلب في نطاق نشاطها التجاري“، وتخضع في نشاطها للقانون 72 المنظم للشركات المصدّرة كليًّا.

داهمت فرقة مختصّة مقرّ الشركة بالقلعة الكبرى في 10 سبتمبر 2021 واحتجزت 6 أشخاص من العاملين فيها لشبهة الاعتداء على أمن الدولة وتبييض الأموال والإساءة إلى الغير عبر الشبكات العمومية للاتصالات. مع تقدّم الأبحاث والتساخير والتحقيقات منذ جوان 2022، شملت الأبحاث 33 متّهمًا في القضيّة من بينهم الناطق الرسمي الأسبق باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي ورئيس تحرير موقع ”شاهد“ لطفي الحيدوري والقيادي في النهضة عادل الدعداع والعضو السابق بحزب نداء تونس وقلب تونس سفيان طوبال، الّذين يواجهون تهمًا بغسيل الأموال على معنى قانون الإرهاب وتبديل هيئة الدولة وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية وبقية تلك التهم المنصوص عليها بالفصول 67 و68 و72 من المجلة الجزائية. وقد تمّ إبقاء الحيدوري في حالة سراح فيما تمّ تحجير السفر على طوبال.

تمّ استدعاء راشد الغنوشي في 10 نوفمبر 2022 للاستماع إليه كمشتبه به لدى قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بسوسة 2، وصدرت بشأنه بطاقة إيداع بالسجن يوم 09 ماي  2023وهو موقوف بسجن المرناقية، على إثر تصريحات إعلامية كُيّفت على أنّها تحريض على اشعال الفتنة بين التونسيين.

وليد البلطي وقائمة الـ25

في 28 نوفمبر 2022 صدرت عن المحكمة الابتدائية بتونس قائمة تضمّنت خمسة وعشرين اسما وُجّهت إليهم تهمة تكوين وفاق بهدف الاعتداء على الأشخاص والأملاك والتآمر على أمن الدّولة الداخلي وارتكاب أمر موحش ضد رئيس الدولة، ظهر فيها اسم وليد البلطي على رأس القائمة، باعتباره أجرى اتصالات سعى من خلالها إلى ”تغيير الحكومة الحاليّة وإبعاد قيس سعيّد من واجهة الحكم“، إلى جانب شخصيات أخرى مثل فاضل عبد الكافي الّذين زُجَّ بهم في القضية لمجرّد تلقّيهم مراسلات من وليد البلطي.

توصّل بورتريه تحقيقي نشره موقع ”الكتيبة“ إلى تفكيك شبكة علاقات وليد البلطي ورصد مختلف اتصالاته. ويقول كاتب المقال إنّ سبب توجيه تهمة التخابر لوليد البلطي يعود إلى تواصله مع رئيسه في العمل في شركة ميلينيوم كونساي Millenium Conseil  المدعو جون بيار مانجيابان Jean Pierre Mangiapan العقيد في الجيش الاحتياطي الفرنسي، من أجل ربط الصلة بينه وبين أنيس المقعدي الذي كان مسؤولا عن الاستعلامات بقصر قرطاج، واستقباله في مدينة نيس بفرنسا، وهو ما تمّ تكييفه على أساس تبادل معلومات لمحاولة التأثير في القرار السياسي. علاقة البلطي بالمقعدي تتمثّل في تبادل معلومات وإسداء خدمات لعلّ آخرها سعي البلطي، مؤسس شركة كازيوال بت للرهان الرياضي، الحصول على نسخة من تقرير لجنة التحاليل المالية التابعة للبنك المركزي حول شركات الرهان الرياضي بالاستعانة بالمقعدي.

كان مجرّد استقبال رسالة عبر واتساب من وليد بلطي قرينة إدانة تمّ على إثرها جرّ كلّ من ورد اسمه في قائمة الرسائل من هاتف البلطي، من بينهم شخصيات داعمة لقيس سعيد مثل مية الكسوري، وشخصيات سياسيّة مثل رئيس حزب آفاق تونس فاضل عبد الكافي، مديرة الديوان الرئاسي السابقة نادية عكاشة، التي توصّلت الأبحاث إلى أنّ وليد البلطي يقف وراء تسريباتها الصوتية في أفريل 2022، التي كشفت خلافها مع قيس سعيّد.

تصفية المعارضة السياسية بأسلحة قانونية

في 10 فيفري 2023، توجّهت وزيرة العدل بمراسلة إلى النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس، مباشرة إثر لقائها بقيس سعيد، للتعهد بإجراء أبحاث أمنية ضدّ عدد من الأشخاص متّهمين بالتآمر على أمن الدولة. بدأت سلسلة الإيقافات بـكمال اللطيف المعروف بـ”رجل الظل“ والسياسي خيام التركي والقيادي السابق بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي في 11 فيفري، ثمّ إيقاف المحامي الأزهر العكرمي ومدير إذاعة موزاييك أف أم نور الدين بوطار في 13 فيفري، يليهما إيقاف عضو جبهة الخلاص المعارضة لمسار 25 جويلية شيماء عيسى وأمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي في 22 فيفري، ليلتحق بهما كلّ من عضو جبهة الخلاص جوهر بن مبارك والأمين العامّ السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي في 24 فيفري 2023.

وفق شهادة أحد المخبرين نقلا عن أحد أقاربه، فإنّ كمال اللطيف التقى في 2022 ببرنار هنري ليفي Bernard Henry Lévi، أمر نفاه كمال اللطيف خلال استنطاقه. أمّا خيام التركي، فقد تمّ إصدار بطاقة إيداع بالسجن ضدّه على خلفيّة استقباله شخصيّتَين ديبلوماسيّتَين أمريكيّتَين في منزله وتناول الغداء معهما، ولقائه مع المحامي الأزهر العكرمي وحديثهما عن ارتفاع الأسعار. وقد تمّ إيقاف العكرمي إثر تصريحات أدلى بها لإذاعة أي أف أم يوم 13 فيفري انتقد فيها ”الإيقافات العشوائية التي طالت المعارضين لتغطية فشل الرئيس في الانتخابات“ وفق ما ذكره محاميه رضا بالحاجّ، الّذي أوقف بدوره. عصام الشابي أوقف هو الآخر بتهمة التآمر على أمن الدولة إثر ندوة نظّمتها جبهة الخلاص في 18 فيفري الجاري دعا فيها إلى تنظيم وطني للمعارضة الديمقراطية.

في 25 فيفري، أصدرت النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بطاقة إيداع بالسجن في حق كمال لطيف والقيادي السابق بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي والناشط السياسي خيام التركي، إضافة إلى رضا بلحاج وشيماء عيسى وجوهر بن مبارك من جبهة الخلاص، وغازي الشواشي الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي وعصام الشابي، أمين عام الحزب الجمهوري، بتهمة التآمر على أمن الدولة والتخطيط لتنفيذ انقلاب على الرئيس قيس سعيّد.

أمّا نور الدين بوطار، فقد تمّ إيقافه واستنطاقه حول تمويل إذاعة موزاييك وخطّها التحريري وكيفيّة اختيار الضيوف والمعلّقين، في إشارة إلى برنامج ”ميدي شو“ الّذي يقدّمه إلياس الغربي ويقدّم فيه هيثم المكّي فقرة يوميّة قارّة ترصد أهمّ الأخبار في الصفحات الأولى من الصّحف، مع تعليق سياسي ساخر.

”لا مركزية“ الإيقافات

في 2 ديسمبر 2022، أصدرت المحكمة الابتدائية بالقصرين بطاقة جلب ضدّ معاذ الغنوشي، بتهمة تكوين وفاق بهدف تغيير هيئة الدولة والاعتداء على الأمن الداخلي وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض، في الوقت الّذي تمّ فيه إيقاف أربعة أشخاص بمنطقة حيّ الزهور من ولاية القصرين في أكتوبر 2022 لاشتباههم في توزيع أموال على المحتجين لتأجيج الأوضاع الاجتماعية وترحيل الاحتجاجات من العاصمة إلى الوسط الغربي، ووُجّهت إليهم تهمة تشكيل مجموعة قصد ”الاعتداء على أمن الدولة الداخلي، المقصود منه تبديل هيئة الدولة، وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض، وإثارة الهرج والسلب بالتراب التونسي“، وقد تمّ إدراج اسم معاذ الغنوشي ضمن المفتّش عنهم في هذه القضيّة.

وفي 10 مارس الجاري، أعلنت حركة النهضة في بلاغ لها عن إيقاف عدد من أعضاء مكتبها الجهوي بباجة، من بينهم الكاتب العام محمّد الصالح بوعلاقي للاشتباه في إدارتهم لصفحات متّهمة بتأجيج الرأي العامّ و”تبييض أشخاص متّهمين بالتآمر على أمن الدولة الداخلي“ وفق بلاغ وزارة الداخلية.

في 13 مارس 2023، أوقفت دورية تابعة للحرس الوطني بولاية بن عروس المسؤول عن المكتب الإعلامي لحركة النهضة عبد الفتاح التاغوتي بتهمة التآمر على أمن الدولة. وقد قرّر قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب في 27 مارس الجاري تحجير السفر عنه.

فصول المجلّة الجزائيّة قادرة على سجن تونس بمن عليها، بنصوص متخلفة تجاوز عمر بعضها القرن، كانت توظّف سياسيًّا ضدّ المعارضين منذ عهد بورقيبة، حوكم بمقتضاها المعارضون والحقوقيون على اختلاف مشاربهم وتمّ تطعيمها بأطر قانونية أخرى، مثل مجلّة الاتصالات ومجلّة المرافعات والعقوبات العسكرية، وقانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال المنقّح في 2019، والمرسوم عدد 54 حتّى يصبح المتّهم في مفترق دوراني، تسلكه قوانين أخرى وتتقاطع معه لتثقل تهمته. في عهد قيس سعيّد، وخاصّة فيما يتعلّق بالتحقيقات الأخيرة التي شملت مناضلين ومعارضين منذ عهدي بورقيبة وبن علي، تبدو النية واضحة لاستهداف الخصوم السياسيين وترهيب القضاة من مغبة تبرئتهم، بما يتضمنه من نسف خطير لقرينة البراءة وتعسف على نصوص قانونية، تتعسف بدورها على التونسيين خدمة لمن يمسك السلطة.

*الرسم الكاريكاتوري يعود للفنان -Z-