بلغ عدد وحدات إنتاج المياه المعدنيّة المعلّبة 29 وحدة إلى حدود سنة 2021، موزّعة على 12 ولاية، وفق معطيات الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه، الخاضع لإشراف وزارة الصحة. ”هناك نوع من الإسهال في عدد وحدات تعليب المياه، وعلى الدّولة وهذه الشركات أن تعرّف بمختلف أصناف المياه المعلّبة وأن تضع التحاليل الجيوفيزيائية بشكل مقروء وأن يكون مصادقًا عليها لتفادي التساهل في حفر الآبار للمياه“، يقول حسين الرحيلي الخبير في الموارد المائية، في تصريح لنواة.
شركات تعليب المياه: الرابح الأكبر
تمنح الدّولة لزمات لاستغلال الملك العمومي للمياه، ذات الاستعمال غير الفلاحي، بمعلوم سنوي يضبطه قرار مشترك بين كلّ من وزير الاقتصاد والمالية ووزير الفلاحة صادر في 03 نوفمبر 2014. هذا المعلوم يُقدَّر بخمسين مليما للمتر المكعب الواحد المرخص فيه مع مبلغ أدنى قدره مائة وخمسة وعشرون دينارا وذلك بالنسبة للمياه ذات الاستعمال غير الفلاحي، مثل استخراج المياه الجوفية وتعليبها، ما يعني أنّ كلفة استخراج المياه في المتر المكعّب الواحد لا تتجاوز 600 دينار، وهو رقم لا يُقارَن بحجم الأرباح التي تجنيها الشركات، فهي تنتج أكثر من 364 ألف قارورة في الساعة، لتتطوّر مبيعاتها من المياه المعلّبة من 676 مليون قارورة سنة 2010 إلى 1805 في 2022، أي من 879 مليون لتر إلى 3275 مليون لتر خلال الفترة ذاتها.
وحسب ديوان المياه المعدنية، فإنّ رقم معاملات شركات تعليب المياه يصل إلى 637 مليون دينار، فيما يُقدَّر إجمالي استهلاك المياه المعدنية بـ 2.70 مليار لتر. وارتفع متوسط استهلاك الفرد الواحد إلى 225 لترا سنة 2020، بعد أن كان معدّل الاستهلاك لا يتجاوز 44 لترا عام 2007 و12 لترا عام 1995.
وتنقسم المياه المعلّبة إلى ثلاثة أنواع: مياه معدنية ومياه عيون ومياه موائد. ”هي مياه جوفية في مجملها مرتبطة بعيون لها خصوصيات معينة، والفرق بينها أنّ الخصائص الفيزيائية للمياه المعدنية ثابتة لا تتغير وهو ما يمنحها علامة المياه المعدنية. أمّا الأنواع الأخرى فتتغير بتغير التساقطات ونقص تدفّق المياه مما ينعكس على نوعيّتها وجودتها، وديوان المياه المعدنية يعرف هذه المسائل ويمنح التراخيص وفقًا للخصائص الفيزيائية للمياه“، يوضّح الرحيلي لنواة. ويعرّف كراس الشروط المتعلق بالشروط العامّة لتنظيم الاستغلال والإنتاج بقطاع المياه المعلّبة، مياه التعليب على أنّها ”كل المياه النابعة أو غير النابعة والتي يمكن تعليبها في حاويات مائية طبقا للمواصفات التونسية […] والشروط الجاري بها العمل ولا يمكن وبأية حال من الأحوال أن تصدر هذه المياه عن شبكة لتوزيع مياه الشرب“.
وعن إمكانية تأثير مسالك المياه الجوفية على الشبكات العمومية لمياه الشرب، يؤكّد الخبير في الموارد المائيّة أنّ ”المياه المعلّبة في تونس لا تتجاوز 5.5 مليون متر مكعب وهي كمية ضعيفة جدا مقارنة بالإمكانات المتاحة بالنسبة إلى المياه الجوفية التي تتجاوز 2.2 مليار متر مكعب، وهي بذلك (المياه المعلّبة) لا تتجاوز 0.02 من كمية المياه المستعملة على المستوى الوطني“.
تتركّز مصانع تعليب المياه بولايات القيروان وزغوان وسليانة، بمعدّل ستة مصانع في القيروان، وخمسة في زغوان، وأربعة مصانع في سليانة، وهي مناطق تعاني انقطاعات متكرّرة في مياه الشرب وفق أرقام المرصد التونسي للمياه.
حراك بيئي في برقو ضد وحدة تعليب مياه
تعدّ سليانة أربع وحدات وهي على التوالي ”ملينا“ التي أُحدثت في 2007، و ”مي“ المُحدثة في 2011، و ”برقو“ التي تمّ تركيزها سنة 2015 و”روايال“ الناشطة منذ سنة 2016، فيما تستعدّ المنطقة لاستقبال وحدة خامسة وسط احتجاج أهالي المنطقة، الّذين اعترضوا على إقامة مصنع لتعليب مياه بمنطقة البحيرين، نظرًا للطابع غير القانوني للرّخصة الّتي تحصّل عليها المستثمر، وفق ما ذكره عبد الوهاب البرقاوي، رئيس مجمع التنمية الفلاحية الصّدقة 1و2و3 لنواة. ”مندوبية الفلاحة رفضت طلب المستثمر في مرحلة أولى نظرا للشح المائي في المنطقة، ولكنّ المستثمر تقدّم بالوثائق نفسها مرة أخرى وتحصّل على الرخصة. كيف يمكن لشخص أن يستغلّ مساحة 600 متر لإقامة أشغال ونحن، أهالي برقو، ممنوعون من الحصول على رخص لحفر آبار“؟ يستنكر رئيس المجمع في تصريح لنواة، على هامش وقفة احتجاجية نظّمها أهالي منطقة البحيرين يوم 21 جويلية الجاري.
هذا التساؤل طرحه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيان نشره في 13 جويلية الجاري: ” ونتساءل هنا إلى جانب الأهالي عن معايير إسداء رخص التنقيب ومدى نزاهتها عندما يتم قبولها لأغراض صناعية تتطلب كميات كبيرة من المياه وتُرفض للاستغلال الفلاحي المضيق؟“. كما ذكّر المنتدى بأطوار النزاع بين المستثمر والأهالي، الّذي بدأ بشكل سلمي ثمّ تطوّر إلى مرحلة التشكي لدى المحكمة الإدارية بهدف سحب الرخصة. ”اتّبعنا مسارًا إداريّا لإيقاف الأشغال وإلغاء الرخصة. وإزاء طول المسارات القضائية، وهذا أمر ندركه جيّدا، يواصل المستثمر عمليات الحفر والحال أنّنا طالبنا بوقف الأشغال إلى حين النظر في أصل القضية“، يقول عبد الوهاب البرقاوي لنواة، مبديًا تخوّفه من تواصل الأشغال في ظلّ عدم صدور قرار عن المحكمة الإدارية حول وقف عمليات الحفر من عدمها. ”الاحتجاجات القائمة في برقو معقولة في ظل العطش القائم“، يقول حسين الرحيلي الخبير في الموارد المائية، مضيفا أنّ المستثمر ينقّب على المياه ليبيعها لاحقًا، فيما تفتقر المنطقة إلى المياه الصالحة للشرب.
من جانبه، ينفي صاحب الرخصة محمّد الأخضر العرفاوي ما نُسب إليه من شبهات بخصوص تدليس وثائق واستغلال نفوذ، مؤكّدًا أنّه استوفى كلّ الشروط المطلوبة من إدارة الغابات وديوان قيس الأراضي ورسم الخرائط ووزارة الفلاحة. ”هل يُعقل أن أنطلق في الأشغال على مرأى ومسمع الجميع دون أن يكون المسار الّذي اتّبعته قانونيّا؟ تمّ تسخير لجنة وطنيّة للاطلاع على موقع الأشغال، وقطعة الأرض التي أقمت عليها الأشغال تقع في منطقة جبلية شأنها شأن بقية الوحدات مثل برقو وصافية التي تستخرج المياه من ثمانية آبار“، يقول محمد الأخضر العرفاوي لنواة، بعد أن مدّنا بوثائق تثبت شراءه لقطعتَي الأرض المخصّصتَيْن لإنجاز عمليّة الحفر وإحداث وحدة التعليب، ومحضر إرجاع الحدود الذي يقول إنه التزم به، والمُسلّم من ديوان قيس الأراضي والمسح العقاري، إلى جانب شهادة ملكية لقطعتَيْ الأرض 116-127 من المنطقة H، المصنّفة كأرض صيانة وفق خارطة حماية الأراضي الفلاحية لولاية سليانة.
أرض الصيانة، وفق القانون المتعلّق بحماية الأراضي الفلاحية عدد 87 لسنة 1983، هي صنف من أصناف الأراضي الفلاحية، تتكوّن من ”الأراضي التي يتعين حماية صلوحيتها الفلاحية نظرا لما لها من أثر على الانتاج الفلاحي القومي“، وتشمل بالخصوص ”الواحات والأراضي المسقية من منشآت منجزة من طرف الأشخاص أو الذوات المعنوية الخاصة وغابات الزياتين والمساحات الكبرى المغروسة في إطار مشاريع قومية أو جهوية والمناطق التي تغلب فيها غراسة الأشجار المثمرة“. ويخضع تغيير صبغتها أو تحديدها أو استغلالها إلى أمر يقترحه وزير الفلاحة بعد استشارة اللجنة الفنية الاستشارية للأراضي الفلاحية.
قضية إحداث وحدة مياه معلّبة بمنطقة البحيرين من معتمدية برقو، تجاوزت المسألة العقارية لتطرح نقاطًا تتعلّق باستغلال المياه الجوفيّة والاستخدام المفرط للبلاستيك لتعليب المياه، ومفارقة الشح المائي الّذي يطبع مختلف الجهات التي تتركّز بها المصانع، فضلاً عن انعكاسات ذلك على تعاطي الأنشطة الفلاحية ونقص الإنتاج وارتفاع الأسعار في مرحلة لاحقة. كلّ هذه الإشكاليات تعيد إلى السطح مسألة توفّر الماء وضرورة تجديد شبكات نقل المياه الصالحة للشرب لتفادي التسربات الّتي تهدر المياه وتعمّق أزمة التزوّد بمياه الشرب التي يتحمّل المستهلك تكلفتها المادّية.
iThere are no comments
Add yours