في هذا المقال لن نتطرق إلى نقطة تحلية المياه وذلك لغموضها والاقتضاب في ذكرها فعن أي مياه تتحدث الرئاسة؟ المياه المستعملة أم مياه الآبار المالحة أم مياه البحر؟ وإن كانت الأخيرة هي المقصودة فذلك شأن مقال آخر يتناول المسألة من عدة جوانب. أما فيما يتعلق بمشاريع الأوامر التي ستعرض على مجلس الوزراء القادم فالأمر سيان حول تخصيص مقال للموضوع كما أن الحديث مازال سابقا للأوان.
تبقى مسألتان مهمتان تناولهما اللقاء ألا وهما الأعلاف والبذور. تكمن قيمة المسألتين في كونهما تفتحان مبحثا هاما حول السياسات الفلاحية التونسية وآثارها على منتجي/ات الغذاء ومستهلكيه/اته. يأتي اللقاء بين رئيس الجمهورية ووزير الفلاحة في سياق أضحت فيه أزمة توفير المواد الغذائية في البلاد التونسية واضحة وعميقة. تراوح تفسير أسباب الأزمة بين تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على سلاسل إمداد الحبوب ومسؤولية ”مسالك التجويع“ – حسب تعبير قيس سعيّد – بينما رأت أصوات أخرى تخلخلا في هيكل الاقتصاد السياسي الذي تبنّته ولا زالت الحكومات المتعاقبة على الدولة التونسية.
“يطول ليلها وتعلف”
انفجرت أزمة الأعلاف بداية سنة 2021 في قرية أولاد جاب الله من معتمدية ملولش بولاية المهدية حين انتفض مربّو الأبقار الحلوب في المنطقة جراء الارتفاع المفاجئ والكبير لأسعار المواد العلفية دون أي مراجعة لأسعار الحليب. تدخلت السلطات الرسمية، إثر فشل الحل الأمني العنيف، وأمرت بتخفيض أسعار العلف مما هدّأ الاحتقان الشعبي الذي افتك هذا المطلب، ولكن أصل المشكل لم يُحلّ. لسائل أن يسأل في البدء عن ماهية هذه الأعلاف وعن أسباب الحاجة إليها أصلا.
في أعقاب ثمانينات القرن الماضي وفي خضم تطبيق برامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي، عزّزت الدولة التونسية استيراد الأعراق الحيوانية وأهمها من الأبقار عرق ”هولشتاين“ ذو الجلد الأبيض والأسود. تسرُّ كميات الحليب التي تنتجها هذه الأبقار دِلاء حالبيها وصهاريج بائعيها، ولكن لا يأتي ذلك دون ثمن. فالأضرع لا تُملأ ماء – وإن كانت هذه الأبقار في الحقيقة بالوعة للمياه أيضا – حيث أنّ تكوّن الحليب يحتاج غذاء غنيّا من البروتينات بكميات كبيرة. ولا تبلغ أبقار الهولشتاين ذروة إنتاجها إن لم تتناول مع التبن علفا مركّبا يتكون أساسا من الذرة والصوجا. ولكن هل تنتج الأراضي الفلاحية التونسية هذه المواد؟ لا. يتمّ استيرادها من الأسواق العالمية بالعملة الصعبة وبأسعار متذبذبة.
تتكفّل الدول عادة بامتصاص رجّات ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية من خلال توجيه مقادير من ميزانيتها لدعم الإنتاج من خلال تخفيض كلفته ويسهل التعامل مع ذلك حين تتحمل الدولة عبء استيراد المواد التي لا يتم إنتاجها محليا. بالنسبة للذرة والصوجا، تخلى ديوان الحبوب منذ سنة 1992 عن توريدها طبقا لقرار وزير الاقتصاد الوطني الصادر بالرائد الرسمي في 29 ماي 1992 فتم بذلك منح هذا الامتياز لشركات خواص.
أثبت التحليل العلمي والتجربة الواقعية منذ ما يزيد عن القرن بأن حريّة السوق والتنافس بين الشركات تنتج بالضرورة احتكارات تصبح كذلك – أي احتكارات – إما بالتخصص في إنتاج ما وافتكاك الأسواق عبر المراكمة أو أنها تدخل اختصاصات جديدة اعتمادا على ما راكمته من اختصاصات سابقة. هكذا انقضّت رؤوس أموال تونسية بعينها على قطاع توريد الأعلاف.
بالعودة إلى فحوى اللقاء الأخير بين قيس سعيّد ووزير الفلاحة، يطرح الرئيس خيارين: ”إما أن يتم توريد هذه المادة في إطار الشفافية المطلقة بعيدا عن أي احتكار أو مضاربة وإما أن تتولى الدولة بالقانون احتكار التوريد“. لئن كانت فكرة احتكار الدولة لتوريد الأعلاف تقدمية، فإن زاوية النظر إلى المشكل العام مازالت قاصرة. فكأن المسألة تقنية بحتة يتم علاجها ببعض جرعات من الشفافية حتى نُشفى من الاحتكار والمضاربة. ليست الأزمة أزمة شفافية، بل أزمة تبعية. لقد أثبتت المحطات التاريخية القريبة الممتدة منذ 2008 مرورا بـ 2020 و2021 بأن ”اللي يحبّلك على قوتك يحبّلك على موتك“ كما صرّح محمد المشري، أحد أبرز محتجي أولاد جاب الله.
البذور بين التحسين والتهجين والأصالة
مثلت قضية البذور معركة أساسية في نضال الفلّاحة التونسيين ضد التبعية لشركات تحسين البذور وتهجينها. في البداية، من المهم أن يتم التذكير بماهية البذور المحسنة والهجينة.
تعتمد عملية التحسين على اختيار خصائص جينية معينة والإكثار منها وذلك من خلال تزاوج كائنات تحملها. نضرب مثالا تبسيطيا: إذا أردنا أن نحصل على حبات طماطم كبيرة الحجم وقانية الحمرة، نقوم بتزويج صنف يتميز بكبر الحجم مع صنف شديد الاحمرار فنحصل على أجيال من الطماطم التي ترث الخاصيتين الجينيتين.
ليست عملية التحسين بغريبة على الطبيعة ولا على الفلّاحة منذ أن أصبح الإنسان متحكما في إنتاج غذائه. كانت هذه العملية رائجة بين الفلّاحين يمارسونها بحرية ويتم تناقل المحاصيل والمعارف بطريقة تشاركية. ثم تغلّب المخبر على الحقل فتم إنتاج بذور مُحسَّنة في إنتاجيتها ومُتطلّبة في حاجياتها من أسمدة وأدوية جراء اغترابها عن العوامل المناخية والايكولوجية.
أما بالنسبة لتهجين البذور، فإن طغيان المخبر على الحقل توسع حتى طغت القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية من خلال التسليع لتحقيق الأرباح. فمثلما يتم اعتماد ”التقادم المخطط – Planned obsolescence“ مع الهواتف الجوالة مثلا – أي برمجة إتلافها بعد مدة معينة رغم أن حياتها الافتراضية أطول من أجل شراء غيرها – تخضع البذور أيضا إلى هذا القانون من خلال التدخل في خصائصها الجينية كي تصبح بذور الجيل اللاحق غير قادرة على التكاثر. هكذا يقع الفلاحون في فخ التبعية لشركات إنتاج البذور حيث أنهم يضطرون لشرائها كل موسم فلاحي هذا علاوة عما تحتاجه تلك البذور من أدوية وأسمدة وعناية مستمرة.
طفت مسألة البذور الأصيلة إلى السطح كقضية يدافع عنها الفلّاحة من أجل الخروج من التبعية إثر 2011 وقد تمظهرت التحركات في تنظيم حفلات البذور التي يلتقي فيها فلّاحة من مختلف أنحاء البلاد من أجل تبادل البذور والمعارف. ساندت العديد من الجمعيات التونسية هذا التمشي وانخرطت في جهود تنظيم هذه اللقاءات والترويج لقضية البذور الأصيلة والعمل على تغيير الإطار التشريعي الذي يُكبّل مسار ترويج البذور الأصيلة.
أصدرت الدولة التونسية في نهاية القرن العشرين قانون عدد 42 لسنة 1999 مؤرخ في 10 ماي يتعلق بالبذور والشتلات والمستنبطات النباتية والذي يراه العديد من المحللين منحازا للبذور المُحسّنة والمُهجّنة ذات الطابع التجاري البحت وعائقا بل قامعا لترويج البذور الفلّاحية الأصيلة علاوة على أنه يُترجم توجهات الدولة في الانخراط في التبعية للشركات العالمية المنتجة للبذور وعدم اكتراثها بالمنتجين.
يُعتبر ذكر مسألة البذور الأصيلة في لقاء بين رأس السلطة التنفيذية وسلطة الإشراف العليا على القطاع الفلاحي أمرا محمودا، ولكنّ الذِكْر فقط يبقى اختصاص من لا يملك زمام الأمور كما أن التغيير إن لم يكن على قاعدة سياسات عامة ومساندة شعبية وعلاقات ديبلوماسية فإنه لا يصمد.
السيادة الغذائية: تقانة أم سياسة؟
عوّدنا قيس سعيّد منذ تقلّده لمنصب رئاسة الجمهورية – بل وقبل ذلك أيضا – بالدعوة إلى تبني مبادئ وطنية وتقدمية ولعل آخرها كانت خلال لقاءاته مع وزيرة المالية ورئيس مجلس النواب والنقاش حول مشروع قانون المالية للسنة القادمة ومشروع قانون المالية التعديلي للسنة الجارية حيث وصّى بالعمل على تحقيق ”العدالة الاجتماعية“ والاعتماد على ”الامكانيات والاختيارات الوطنية“ من أجل تحقيق ”الاستقلال الوطني“ وذلك من خلال ”انخراط الجميع في حرب التحرير“. لكن التاريخ لا يتحرك بالخطابات فقط إذا غابت الإجراءات السياسية الفعلية.
على المستوى التشريعي، كبداية، لم لا تتم مراجعة قرار وزير الاقتصاد الوطني الذي يعفي ديوان الحبوب من استيراد الذرة والصوجا من أجل قطع دابر احتكار الأعلاف والمضاربة في بيعها من قبل شركات خاصة؟ ثم ما المانع في مراجعة قانون البذور والشتلات والمستنبطات النباتية من اجل فسح المجال لبذورنا الأصيلة عوض الغرق المستمر في التبعية لشركات البذور؟ أ الشركات الخاصة أقوى من الدولة أم إنها من الدولة؟
تفرض المعركة الإيديولوجية نفسها أيضا عند الشروع في ترسيخ سياسات تتلاءم مع الخطاب الرسمي. من الحري في البدء أن تتم إعادة النظر في المنطلقات الفكرية التي تدير نمط الإنتاج الفلاحي التونسي. نمط انتاجي يتميز باعتماده على الزراعات التجارية التصديرية من قبيل زيت الزيتون والتمور بينما يتم تهميش زراعات تلبي الحاجيات الأساسية للمواطنين وعلى رأسها الحبوب والأعلاف. يدفع هذا التمشي هوسٌ مرضي بتعديل الميزان التجاري الغذائي مردُّه الاقتناع الغيبي بمفهوم الأمن الغذائي. يُحتّم هذا المفهوم الاعتماد على الأسواق العالمية وحركة البضائع فيها من أجل توفير الغذاء، ولكنه يقف مشدوها إذا أُغلقت الموانئ جراء جائحة أو تعطلت الإمدادات إثر نزاع عسكري أو، في حالات ليست بالقليلة، حين يتم فرض حصار اقتصادي على دولة ما.
عند مواجهة مفهوم الأمن الغذائي بتبني مبدأ السيادة الغذائية، ينطلق التفكير والعمل على رد اعتبار القيمة الاستعمالية للغذاء على حساب قيمته التبادلية – أي دوره في إعادة إنتاج المجتمع عبر تغذيته بدل تراكم الأرباح عبر امتصاص الموارد وقوة العمل – فيتم تحديد أولويات الإنتاج عبر التخطيط المركزي الشامل الذي ينبع من المعطيات الميدانية المحلية التي توفرها الإمكانيات البشرية والطبيعية من موارد ومناخ…. ولكي تكون عملية تحديد هذه الأولويات ناجعة ومستدامة، فإن من الحكمة أن تكون وطنية وشعبية وديمقراطية. فأما بالنسبة لبعدها الوطني فيعني الاستجابة لمتطلبات الاقتصاد الوطني الذي يدفع إلى الحفاظ على القيمة داخل حدود الوطن ويحميها من التحول القسري إلى الخارج وأما في علاقة بالبعد الشعبي فإن مشروع السيادة الغذائية لا يتحقق من دون المشاركة الفعلية للطبقات الشعبية أي تلك الطبقات المسؤولة مباشرة على الإنتاج وإعادة الإنتاج. وأخيرا، ليس في قدرة مجموعة صغيرة من الأشخاص أن تحدد أولويات الإنتاج لذا كلما كانت العملية أكثر ديمقراطية كلما كانت أنجع.
لا تعني المشاركة الشعبية ولا المداولات الديمقراطية شيئا إن لم يتملّك الفاعلون وسائل إنتاجهم (التملّك لا يعني الملكية الخاصة) من حيث سببين: أولا، يُضعف اغتراب المنتجين عن وسائل إنتاجهم إحساسهم بالانتماء إلى عملية الإنتاج برمتها مما يُفقدهم الاهتمام بالإدلاء بآراء لا تؤخذ بعين الاعتبار. ثانيا، يتعرض المنتجون الخاضعون لمُلّاك وسائل الإنتاج إلى الابتزاز حين لا تتوافق آراؤهم واقتراحاتهم مع أرباب أعمالهم.
وعليه فإن الإصلاح الزراعي الرامي إلى إعادة توزيع الأراضي على الفلّاحة وغيرهم ممن يعتزمون ممارسة الفلاحة بأيديهم يؤسس عمادا من أعمدة السيادة الغذائية. يمثل توزيع الأراضي حلا لمُعضلة البطالة كما أنه يحد من ظاهرة النزوح الريفي. هنا تبرز أهمية استرداد الدولة لدورها في دعم المنتجين من جهة وفي الاستثمار في التنمية الريفية من جهة أخرى كي يصبح الريف جاذبا للسكان.
تأتي مسألة فكّ الارتباط تباعا كي تشمل سياسات الدولة في علاقتها بالخارج ويتحقق البعد الوطني في مشروع السيادة الغذائية. ترزح البلاد التونسية تحت تقسيم عالمي للعمل يُخضِع خياراتها الداخلية إلى إكراهات الأسواق العالمية مما يجعلها مُورّدة للطبق الرئيسي ومُصدّرة للمُقبّلات. لم يتم ذلك في غفلة من الدولة أو سهوا منها، بل تترجم هذه التبعية من خلال توقيع اتفاقيات التبادل الحر وتطبيق برامج الإصلاحات الهيكلية. يمر فك الارتباط إذن عبر الخروج من هذه المستنقعات والانخراط في تعاملات تجارية ندّيّة ومتكافئة مع دول تحتاج ما ننتج وتنتج ما نحتاج.
ختاما، يبقى القطاع الفلاحي مكونا من مكونات الاقتصاد ومن غير الممكن التعامل معه بمنأى عن سياسات تصنيعية سيادية تسعى إلى تلبية الحاجيات الأساسية وترنو إلى تعويض استيراد المنتجات الصناعية الخفيفة منها خاصة وتبني علاقة تكامل بين القطاعيْن الصناعي والفلاحي عبر التبادل المتكافئ والتوازن بين المدينة والريف.
ليس الألم – في غالبه – سوى تعبيرا عن علّة ولئن كان تسكينه عاجلا فإن القضاء على أسبابه أنجع.
هذا الحصان وهذه السدرة.
iThere are no comments
Add yours