نفى المتحدث باسم المحكمة الابتدائية بتونس، في تصريح لوكالة تونس افريقيا للأنباء، فتح النيابة العمومية لدى المحكمة بحثا تحقيقيا جديدا موضوعه التآمر على أمن الدولة ضد بعض الأشخاص من بينهم طرف أجنبي. وذلك ردا على المحامي والسياسي سمير ديلو الذي صرح بأن ”الأيام القادمة ستكشف عن قضية جديدة في التآمر على أمن الدولة تضم عددا من المتهمين من بينهم رئيس الوزراء بالكيان المحتل بنيامين ناتنياهو ومن تونس كل نور الدين البحيري وأحمد نجيب الشابي بالإضافة الى حراك مواطنون ضد الانقلاب“.
هذا النفي قد لا يخفي الإشكاليات التي رافقت مسار قضايا التآمر على أمن الدولة، ولا ينفي وجود بقية القضايا التي وصفها الرأي العام بالعبثية، فالشخصيات الأجنبية موجودة في اغلبها لعل آخرها القضية الشهيرة التي أدرجت اسم وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر كمتآمر مع يوسف الشاهد والمهدي بن غربية لإفشال الانتخابات المحلية الأخيرة. قد نتحدث بإطناب عن الاخلالات والتعسف وانتهاك حق الدفاع وغياب قرينة البراءة، لكن لم يعد لذلك معنى امام هذا العبث الذي يدفع بعض الأجهزة الرسمية الى التعهد بـ”قضايا“ أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها مضحكة. وهل هناك ما يثير السخرية أكثر من تضمين اسم هنري كيسنجر و”اتهامه“ بالتآمر والحال أنه قد فارق الحياة منذ العام الماضي عن عمر يناهز ال 100 عام وبعد مسيرة سياسية حافلة جعلته أحد أبرز الدبلوماسيين في القرن الماضي! وهل هناك تفسيرات ”منطقية“ لهذا العبث القضائي باستثناء أنها قضايا كيدية تهدف إلى افراغ الساحة السياسية من أي منافسين محتملين للرئيس قيس سعيد في استحقاق انتخابي رئاسي قادم؟
اتهام المعارضة بالتآمر إثر امتناع غالبية الناخبين عن التصويت
انطلق مسار البحث في قضايا التآمر منذ فيفري 2023 حيث تعهدت النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس بإجراء أبحاث ضد شخصيات سياسية وإعلامية ومحامين ورجال أعمال (أبرزهم كمال اللطيف وعصام الشابي وغازي الشواشي وخيام التركي ورضا بلحاج والأزهر العكرمي)، هذا التعهد جاء وفقا لمراسلة تلقتها النيابة العمومية من قبل وزيرة العدل، وذلك مباشرة عقب لقاء جمع الوزيرة برئيس الجمهورية حيث تباحثا ضرورة أن يلعب القضاء دوره التاريخي في تطهير البلاد من الخونة والمتآمرين على أمن الدولة.
السلطة أثارت ما يُعرف بقضايا التآمر بعد أيام قليلة من الدور الثاني للانتخابات التشريعية والتي شهدت عزوفا كبيرا عن المشاركة ومقاطعة من القوى المعارضة لقيس سعيد، حيث بلغت نسبة المقترعين 11 بالمائة من عموم الناخبين في أضعف نسبة مشاركة منذ الثورة. هذه النسب وضعت شعبية النظام على المحك، وعوض أن يبحث في الأسباب الحقيقية لعزوف الناخبين عن المشاركة في الاستحقاق التشريعي خير الذهاب إلى الخيار الاسهل وهو تحميل ”العشرية“ مسئولية فشل الانتخابات، بعد شهور من الحديث عن مؤامرات استهدفت الاستشارة الالكترونية والمواد الأساسية والأسعار. هذا المنطق التآمري دفع أجهزة الدولة الى اعتبار كل فعل معارض مؤامرة تهدف لإسقاط الدولة.
قضايا التآمر خدمة لأهداف سياسية
لا تخفي قضايا التآمر المختلفة طابعها السياسي الواضح: أولا بسبب طبيعة الأشخاص المتهمين في هذه القضايا وغالبيتهم من الشخصيات السياسية والحزبية المعروفة بمواقفها المناهضة لقيس سعيد ونظام حكمه، ثانيا باعتبار أن قيس سعيد يتعمد الخلط بين الفعل السياسي المعارض والتآمر، والأهم من ذلك هو إيداع المتهمين في هذه القضايا السجن دون التحقيق معهم أو مكافحتهم بالأدلة (إن كانت موجودة أصلا) والشهود أو ”الوشاة“. وطبعا قصة الوشاة لوحدها تبين الطابع الكيدي لجزء مهم من هذه القضايا، فجميع هذه الشكاوى اعتمدت على شهادات أشخاص دون ذكر هوياتهم ما يضرب في مقتل مصداقية الشهادة أو الوشاية، وإلا كيف تعتمد النيابة على شهادة سجين حق عام يتهم فيها يوسف الشاهد ومهدي بن غربية بتلقي أموال من هنري كيسنجر لإفشال الانتخابات المحلية!! مثل هذه الشهادات قد تكون مجالا للتندر والسخرية لا لاعتمادها في مباشرة تحقيقات قضائية تودع بمقتضاها عشرات الشخصيات في السجون.
إذا ما بحثنا في قائمة الأشخاص المتهمين في مختلف قضايا التآمر على أمن الدولة، وغيرها من القضايا ذات الصبغة السياسية، سنجد أن أغلبها من الشخصيات السياسية البارزة والأمناء العامين للأحزاب السياسية ومرشحين محتملين للرئاسيات (عبير موسي ونجيب الشابي والفاضل عبد الكافي وخيام التركي والمنذر الزنايدي وحاتم بن سالم …). وفي ظل قضايا ”فارغة“ الا من إفادات تقدم بها شهود في ظروف غير معلومة، وبتوجيه تهم التآمر مع سفارات وممثلين لدول اجنبية في حين لا نجد من بين المتهمين من ينتمون لتلك السفارات أو الدول، ومع تعتيم كامل من قبل النيابة العمومية على هذه القضايا وفتح تحقيقات ضد عدد من المحامين فقط لأنهم كشفوا اخلالات جسيمة رافقت سير ”الأبحاث” … لا يمكن أن نتجاهل فكرة أن القضاء بصدد اجراء محاكمات سياسية لعدد من معارضي النظام استجابة لتعليمات السلطة، والهدف هو افراغ الساحة من القوى السياسية المعارضة لقيس سعيد وضرب المرشحين المحتملين للاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل.
ربما فشلت السلطة في تحسين أوضاع التونسيين وتوفير حد أدنى من المواد الأساسية والاستجابة للاستحقاقات المُلحة للبلاد والنهوض بالاقتصاد المتردي، لكنها فشلت أيضا في اقناع الرأي العام بأن المعارضين والخونة هم المتسبب الرئيسي في هذا الفشل رغم إصرار الرئيس قيس سعيد على تكرار ذلك كل ما أُتيحت له الفرصة. فبعد قرابة العام من إيقاف الشخصيات السياسية بتهمة التآمر والاحتكار وتجويع الشعب، مازال الحال على ما هو عليه من تراجع في جميع المستويات: شح كبير في المواد الأساسية وغلاء مشط في الأسعار وتراجع مستمر لمعدلات النمو يرافقه ضرب لحرية الرأي والتعبير وحق التنظم ومصادرة لحق الناس في المحاكمة العادلة، مع سعي مفضوح لتصفية خصوم الرئيس وافراغ الساحة السياسية من أي منافسة محتملة في انتخابات وحده الرئيس يعلم موعد اجرائها.
iThere are no comments
Add yours