في هذا الحي الراقي المسمّى بحيرة 1، شمال تونس العاصمة، تُجاور المباني البرّاقة بواجهاتها البلوريّة وموظّفيها بملابسهم الأنيقة المخيمات المؤقتة التّي نصبها مئات اللاجئين السودانيين وغيرهم من الجنسيات الأخرى في محاولة للبقاء على قيد الحياة.
عند زيارتنا للمكان يوم 25 جانفي 2024، كان الهدوء الحذر يسود المنطقة. حيث بدا التوتّر واضحا بين المهاجرين بمجرّد دخولنا مخيّمهم المجاور لمقّر المنظّمة الدولية للهجرة. فجأة صرخ أحد المهاجرين موجّها الحديث إلينا قائلا: ”هل أنتم من الشرطة“.
يقول لنا شاب آخر من المهاجرين المتواجدين هناك: ”يأتي البعض إلى هنا كي يلتقطوا صورا لينشروها لاحقا على شبكات التواصل الاجتماعي بقصد تحويلنا إلى موضوع للسخرية والتندّر“. كما أفصح لنا المهاجرون أنّ عناصر شرطة بملابس مدنيّة يتسلّلون إلى مخيّمهم بين الفترة والأخرى، قبل أن يبدأوا في اعتقال عدد منهم. عدد آخر من اللاجئين المتحلّقين حول نار أشعلوها ببعض الحطب، كانوا يتفحّصوننا بنظرات لا مبالية، همّهم تدفئة أجسامهم في هذا اليوم البارد.
الهجرة المكثّفة للسودانيّين
على الجانب الآخر من الشارع، ووسط حديقة عموميّة، أُقيم مخيم آخر للاجئين حيث تنتشر على الأرض خيام وقتيّة صنعها متساكنوها من ألواح القصدير والأغطية البلاستيكيّة والبطانيات البالية. عالم مواز بقواعد اجتماعية واقتصادية خاصة به. أمّا الصورة العامة فتعكس تناقضا صارخا بين المخيّم والمباني الفارهة للشركات الحديثة المنتشرة في المنطقة.
تحوّل بعض سكّان المخيّم إلى باعة صغار لجميع أنواع المنتجات كالسجائر والفواكه والملابس وحتى الشامبوهات، المعروضة كلّها على قارعة الطريق. ”هنا على الأقلّ نهرب من خطر الموت جوعا“، يعلّق اللاجئ السوداني أحمد البالغ من العمر 21 عاما، ليضيف قائلا لنواة: ”نحن نتعاون فيما بيننا كإخوة والبضائع هنا أرخص من أيّ مكان آخر“.
بمجرد دخولنا إلى المخيم، حاصرنا بسرعة عشرات الرجال. حالة التوجّس من الشرطة تبدو جليّة، لكنّهم يتزاحمون كي يرووا لنا قصص عبورهم الشاق للحدود البرية. تدور رواياتهم حول وحشيّة رجال العصابات الذين واجهوهم على طول الطريق، وعن جرائم الاغتصاب والجوع والمُشادّات مع المهرّبين وحرس الحدود.
يمثّل سكان هذا المخيم جزء من آلاف اللاجئين وطالبي اللجوء السودانيين الذين وصلوا إلى تونس خلال الأشهر الأخيرة. فقد بلغ العدد الإجمالي للاجئين وطالبي اللجوء المسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس أكثر من 13 ألف شخص، يمثّل السودانيّون 40% منهم، بحسب آخر إحصاء رسمي تحصّلت عليه نواة من المفوضية بتاريخ 14 جانفي 2024.
في سنة 2023، استقبلت المفوضية 7,831 طالب لجوء جديد، من بينهم 4,676 مواطنا سودانيا. في حين لم يتجاوز تعدادهم 868 لا غير سنة 2022.
بعد أن تحوّل إلى ساحة حرب دامية بين الجيش النظامي بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التابعة للجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، يشهد السودان حالة رهيبة من الهجرة تفرغه شيئا فشيئا من سكّانه.
وفقا للمنظمة الدولية للهجرة، نزح 7.7 مليون شخص من منطقة إلى أخرى داخل البلاد، بينما لجأ أكثر من 1.2 مليون سوداني وسودانيّة إلى بلدانٍ أخرى، مثل تشاد وإثيوبيا ومصر وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا.
جاء العديد من السودانيين الذين قابلناهم في المخيم من ليبيا، وآخرون عبروا تشاد والنيجر ثم الجزائر قبل أن يصلوا إلى تونس. أحدهم الشاب مصطفى الذي لم يتجاوز سنّه 18 ربيعا، والذي وصل إلى تونس في شهر أكتوبر الفارط فارّا من الجنينة، عاصمة ولاية دارفور الغربية. حيث تحوّلت هذه المنطقة إلى مركز للاشتباكات الدموية، تاركا وراءه بعض الممتلكات وقبور أقاربه الذين قتلوا أثناء المعارك.
قبل دخوله إلى تونس، عبر مصطفى التشاد والنيجر والجزائر، سيرا على الأقدام أحيانا. كما غادر صديقه بشير الذي يكبره بسنتين، الجنينة متجها إلى ليبيا. هناك، توجّب عليه دفع 800 دينار ليبي إلى مُهرّب محلي للوصول إلى تونس. كلّ هذه التفاصيل القاسية عن رحلته التي انتهت في منطقة البحيرة1، لا تحزنه. بل يشعر بالسعادة لأنّه هرب من ليبيا، حيث قضى أكثر من شهر في أحد سجونها.
لا تنتهي معاناة اللاجئين بوصولهم إلى تونس. فما يزال يتحتّم عليهم المشي للانتقال من جنوب البلاد إلى مدن أخرى. يحتجّ مصطفى قائلا: ”يرفض سائقو سيارات الأجرة أن يقلّونا في سياراتهم، وذلك لأن العديد منهم يخشون حملات المراقبة من قبل دوريات الشرطة“. فالسلطات التونسية تشن منذ أشهر حملة لطرد المهاجرين.
أدى مناخ الخوف هذا إلى عدم رغبة بعض التونسيّين في التعامل مع المهاجرين. فطردهم المؤجّرون من منازلهم، وسَرّحهم أصحاب العمل من وظائفهم، وتُركوا ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم.
حتى الوافدون الجدد، الذين فّروا من الحرب وحصلوا على بطاقة لجوء، لم يسلموا من المضايقات والملاحقة. إذ التقينا في المخيّم ببعض الشباب الذين أُطلقَ سراحهم حديثا من سجن المرناقية بعد اتهامهم بالدخول غير الشرعي إلى الأراضي التونسية. يستنكر هنا أحدهم قائلا: ”لقد أظهرت لهم بطاقة اللجوء الخاصة بي، لكنّهم لم يرغبوا في معرفة أيّ شيء“.
“تنفيذا لالتزاماتها وهي الموقّعة على اتفاقية جنيف لعام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، يجب أن توفر الدولة التونسيّة الحماية للاجئين الذين فروا من مناطق النزاع المسلّح“. ليضيف رمضان بن عمر المتحدث الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح لنواة: ”هذه الحماية يجب أن توفّر للاجئين الحقّ في التنقل وتسهيل حصولهم على عمل ومأوى“.
على أرض الواقع، تبدو الصورة مغايرة تماما بالنسبة لهؤلاء اللاجئين. رغم البرد القارس في المنطقة، لم يجد كلّ من بشير ومصطفى سوى نعال بلاستيكية وملابس خفيفة. ليعلّق محدثنا قائلا: ”إنها معجزة أنّنا نجونا خلال رحلة عبورنا الطويلة“، مضيفا بنبرة حزينة: ”لكن المستقبل ما يزال غامضا والحاضر صعبٌ جدا. الحديقة مزدحمة ومن الصعب البقاء هنا، لكنّنا لا نعرف إلى أين نذهب“.
ظروف معيشيّة بائسة
يُعتبر العثور على خيمة وأغطية تقيهم شر البرد ”ضربة حظ“ بالنسبة للاجئين السودانيين المقيمين في المخيّم. يحدّثنا عز الدين البالغ من العمر 21 عاما عن معاناتهم بحسرة وتأثّر بالغين قائلا: ”كنا نستطيع النوم ليلا على الأرض في ممرات ومداخل المباني المحيطة ولكن بعض المتساكنين لم يعجبهم وجودنا فطردونا“. وسط الحديقة، استوقفنا مشهد حزين لرجل ملفوف بالكامل بغطاء صوفي ينام على مقعد بالمكان، أما الأوراق الكرتونية فتحوّلت إلى مرتبة بالنسبة لبعضهم.
بينما يتمكّن البعض من العثور على مأوى بشقّ الأنفس، يزداد الأمر صعوبة بالنسبة للنساء والأطفال. فعدد قليل منهم استطاع العثور على مكانٍ في هذا المخيم. إحدى سيئات الحظّ، شابة تبلغ من العمر 21 عاما. أمّ لطفل صغير في انتظار قدوم قريب للثاني كونها في شهر حملها التاسع. تنتظر هذه الام الشابة تلك اللحظة برعب وهي لا تملك أدنى فكرة عن الظروف التي ستلد فيها. أمّا زوجها فلم يُفرج عنه من سجن المرناقية سوى منذ فترة قريبة.
يركض ابنها البالغ من العمر 4 سنوات حافي القدمين بسعادة في أرجاء الحديقة، بينما يساعده شابّ على قضاء حاجته بعيدًا عن الأنظار. حيث لا توجد هنا أيّ مراحيض أو مياه جارية لتخلق وضعا بيئيا خطيرا. يتدخّل عز الدين هنا مؤكّدا: ”هذه الحياة لا تليق حتى بكلب“.
داخل المخيّم، يزخر المشهد بالتفاصيل. إذ تجد طابورا مكوّنا من حوالي عشرة شبان ينتظرون دورهم لقص شعرهم لدى شابّ تحوّل إلى حلاّق، بينما ينشغل آخرون بغسل ملابسهم في أسطل طلاء قديمة. يحمل إلينا الهواء البارد روائح الأطباق التي يتم تحضيرها، حيث ينحني عدد قليل من الرجال قبالة مواقد غاز صغيرة، منغمسين في طهي كميات كبيرة من عجين ”المقرونة“ أو طبق العجّة.
يقول بعض اللاجئين إنهم يتلقون مساعدات مالية شهرية بقيمة 350 دينارا من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لكن هذا المبلغ لا يكفي لتغطية نفقاتهم. يعلّق الشاب السوداني أحمد ذو 24 ربيعا قائلا: ”كيف يمكنني استئجار منزل بمثل هذا المبلغ؟ حتى القِلّة منّا ممن حالفهم الحظّ بإيجاد عمل، يعودون للنوم في المخيم ليلا، إذ ليس لديهم خيار آخر“.
وعلى الرغم من زهده، يجب أن ينتفع اللاجئون بهذا المبلغ. كما أبدى العديد من السودانيّين انزعاجهم من طول المدة التي تأخذها عمليّة دراسة ملفات اللاجئين وطالبي اللجوء. إذ يقولون أنّ الحصول على موعد مع هذه الهيئة الأمميّة قد يستغرق 6 أشهر. في هذه الأثناء، يدخن بعض من صادفناهم السجائر بلا مبالاة ووجوه جامدة، بينما يلعب آخرون كرة القدم في أجواء وديّة.
تعزو المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هذا الانتظار الطويل إلى ”نقص التمويل“ والتدفّق الجماعي للاجئين. لكن قسم الاتصال التابع لها يؤكّد أنّها مع ذلك تسعى إلى ضمان استفادة اللاجئين وطالبي اللجوء من الحماية وفقًا للقانون الدولي، بما في ذلك الحصول على مختلف الخدمات الأساسيّة من المساعدة القانونية، إلى الدعم النفسي والاجتماعي، والمأوى، والتمكين المهني إلخ.
رغم ذلك، يعتبر ممثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ هذا الدعم غير كاف. ليؤكّد أن التقصير في رعاية اللاجئين وطالبي اللجوء من قبل الهيئة الأممية، يتجلّى، حسب قوله، في عدد الاعتصامات التي ينظمها هؤلاء أمام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
لكن المؤسّسة الأمميّة، المُثقلة بالمهام، غير قادرة على تحقيق آمال اللاجئين دون دعم من السلطات التونسية. ويوضح ممثل المنتدى لنواة أن الإجراءات القانونية التونسية تحوّل حياة طالبي اللجوء واللاجئين إلى معاناة في سبيل العثور على عمل أو سكن أو الحصول على التعليم لجميع أطفالهم. بالإضافة إلى ذلك، تشير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أنّ تونس، رغم أنها من الدول الموقعة على اتفاقية جنيف، لم تعتمد بعد نظاما تشريعيا محليّا لمسألة اللجوء.
نتيجةً كلّ هذه العوامل، يعتقد رمضان بن عمر أنّه لا يمكن اعتبار تونس دولة ”آمنة“ للاجئين وطالبي اللجوء. ليضيف: ”يجب علينا إعادة توطين هؤلاء السكان في بلد آخر آمن، قادر على ضمان إعادة إدماجهم في المجتمع“.
لا يرغب معظم السودانيين الذين التقينا بهم البقاء في تونس، ويأمل الكثيرون منهم الانتقال بشكل قانوني إلى بلدان أخرى من خلال إجراءات إعادة التوطين التي تقّدمها المفوضية. لكن قلّة من أصحاب الملفّات المقدّمة سوف يحظون بتلك الفرصة حسب توضيح قسم الاتصال في المنظمة. إذ تؤكد المفوضية أنه ”لا يستطيع سوى عدد محدود جدا من اللاجئين الولوج إلى برامج إعادة التوطين. ويتمّ تحديد الأولويات حسب الحالات الأكثر هشاشة بناء على تقييم فرديّ لكل حالة. أمّا بالنسبة للحالات الخاصة المعرضّة للخطر، فإن إعادة التوطين هي الحل الدائم والأنسب“. كما نشير إلى أن حصص الدول من إعادة توطين اللاجئين محدودة. بالنسبة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنّ إعادة التوطين ”ليست حلاً لجميع اللاجئين، ولكنّها أداة حماية حيويّة للأشخاص الأكثر هشاشة وعرضة للخطر في بلدان اللجوء“.
يتمّ إعادة توطين أقل من 1% من اللاجئين كل عام. ومن بين إجمالي 21.3 مليون لاجئ تحت مسؤولية ولاية المفوضية في جميع أنحاء العالم، تم إعادة توطين 57,500 منهم فقط في عام 2021.
يجد السودانيون أنفسهم عالقين في تونس، في مواجهة مناخ معادٍ للأفارقة القادمين من جنوب الصحراء الكبرى بعد تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيّد في شهر فيفري 2023. وفي غياب سياسة إعادة الإدماج، يبدو أن اللاجئين مجبرون على عيش حياة بائسة في البلاد، ما لم يخاطروا بحياتهم مرة أخرى، هذه المرة عن طريق البحر محاولين عبور الحدود من جديد.
انجز هذا المقال كجزء من نشاط ”شبكة المواقع الاعلامية المستقلة بخصوص العالم العربي“، وهي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه ”السفير العربي“، و”مدى مصر“، و”مغرب اميرجان“، و ”بابل ماد“ و ”ماشا الله نيوز“، و”نواة“، و”حبر“ و”أوريانXXI“.
iThere are no comments
Add yours