بمقتضى الأمر عدد 168 لسنة 2024، نشر الرائد الرسمي بتاريخ 22 مارس 2024، قرار إنهاء مهام المهندس العام عدنان الأسود، بصفته مديرا عاما للمعهد الوطني للإحصاء. بعد خمس سنوات على رأس هذه المؤسّسة، يغادر المدير السابق منصبه تاركا تساؤلات كثيرة حول سبب الإقالة وهو الذي سبق له تقديم استقالته منذ 10 فيفري 2022 بسبب رفضه ما أسماه حينها ”محاولات المساس من المبادئ الأساسية للإحصاءات الرسمية التي تضبطها الأمم المتحدة“ من قبل السلطات الرسمية. وبغضّ النظر عن صحّة التكهّنات حول سبب الإقالة الأخير، ومن أهمّها امتعاض السلطة من الاحصائيات المنشورة حول الوضع الاقتصادي العام في البلاد، فإنّ ما حدث يعيد إثارة النقاش حول علاقة الحكومات بالأرقام والمؤشّرات، خصوصا أنّ لتونس سوابق في التلاعب بالإحصائيات وتوظيفها لتلميع منظومة الحكم.

المواجهة بين المعهد الوطني للإحصاء وسلطة 25 جويلية: التضاد بين الواقع والمشاريع الهلامية

قبل 72 ساعة من نشر خبر إقالة المدير السابق للمعهد الوطني للإحصاء، عدنان الأسود، نشر موقع البورصة عربي خبرا مفاده انهاء مهام هذا الأخير من قبل وزيرة الاقتصاد والتخطيط فريال الورغي السبعي ونشر القرار يوم الجمعة 22 مارس 2024. صدَقت الأخبار الواردة على الموقع المذكور، ولكنّ المقال تضمّن أيضا أسباب هذه الإقالة وكواليس الخلافات بين حكومة الحشّاني ومدير المعهد الوطني للإحصاء. إذ يذهب كاتب المقال إلى أنّ سبب الخلاف الرئيسيّ يعود إلى التعداد العام للسكان المزمع اجراؤه نهاية سنة 2024. موعد خصّصت له حكومة الحشاني سلسلة من الاجتماعات الوزارية خلال شهر مارس للوقوف على مختلف التحضيرات اللازمة لإجراء هذه العمليّة. نظام ما بعد 25 جويليّة 2021، الباحث عن أيّ إنجازات في أيّ مجال، تزامنا مع تعثّر مختلف المشاريع التي أطلقها على غرار الصلح الجزائي أو الشركات الأهلية وفشله في النهوض بالوضع الاقتصادي، اصطدم بموقف المدير المقال للمعهد الوطني للإحصاء، الذي كان يرى، بحسب البورصة عربي، أنّ مؤسسته غير جاهزة لمثل هذا الاستحقاق نظرا لوجود بعض الإشكاليات اللوجستية وإلغاء عديد الصفقات العمومية ذات الصلة بإجراء التعداد وتفضيله ارجاءه إلى بداية سنة 2025. موقف جاهر به سابقا عدنان لسود من خلال تصريح لوكالة تونس افريقيا للأنباء معتبرا أنّ الإطار التشريعي للمنظومة الإحصائية في تونس يحتاج للتنقيح لإضفاء المزيد من النجاعة على المنظومة الإحصائية حتى تتماشى مع المعايير الدولية والتحولات التكنولوجية الحديثة.

15 مارس 2024 قصر الحكومة بالقصبة، اجتماع المجلس الوزاري حول التعداد العام الثالث عشر للسكان والسكنى- رئاسة الحكومة

وتذهب بعض التحليلات الأخرى إلى التناقض بين البروباغندا الحكومية حول إنجازاتها الاقتصاديّة والنشريات الشهرية للمعهد الوطني للإحصاء التّي تعكس حجم الأزمة الاقتصاديّة وفشل الفريق الحكومي في معالجة الأزمة. ولعلّ أبرز مثال يكمن في المنشور الحكومي بتاريخ 21 مارس 2024، الذّي ذكّرت فيه الحكومة عموم الشعب بإنجازاتها، على صعيد استقرار المؤشرات الاقتصادية وتراجع التضخّم من 10.4% إلى 7.4% بين مارس 2023 ومارس 2024. أرقام تكذّبها الاحصائيات الرسمية الصادرة عن المعهد، إذ لم يتجاوز النمو الاقتصادي -0.2% بينما يخفي تراجع النسبة الاجمالية للتضخّم ارتفاع المؤشّر العام لأسعار الاستهلاك العائلي بين ماي 2023 وجانفي 2024 بالنسبة إلى سلّة الأغذية والمشروبات من 173.7 إلى 184.4 والسكن والطاقة المنزلية من 148.8 إلى 152.7 والصحة من 147 إلى 150.9.

إلاّ أنّ الصدام بين المدير السابق للمعهد وسلطة ما بعد 25 جويلية 2021، بدأ منذ سنتين تقريبا، عندما قدّم عدنان الأسود في 10 فيفري 2022 استقالته إلى سمير سعيّد، وزير الاقتصاد والتخطيط حينها. وقد كشفت  الاستقالة أنّ مدير معهد الإحصاء يتعرّض لضغوط كبيرة من السلطة السياسيّة ومساعي للتدخّل في المنهجية العلمية لعمليات الإحصاء تماشيا مع توجّهات السلطة ورغبة في تلميع صورتها. ممارسات عبّر عنها قائلا: ”من واجبي بصفتي المدير العام للمعهد الوطني للإحصاء، الاستقالة عندما يتمّ المساس من المبادئ الأساسية للإحصاءات الرسمية التي تضبطها الأمم المتحدة. أترك منصبي إذا من أجل الحفاظ على نزاهتي ولفت الانتباه إلى مخاوفي وضرورة تصحيح هذا الوضع“. تمّ لملمة الموضوع حينها واستمّر عدنان الأسود في منصبه حتّى آنت لحظة إزاحته تزامنا مع الاعداد لعملية الإحصاء السكاني الذّي يجب أنّ يتمّ مهما كان الثمن حتّى وإن كان كيفما اتّفق.

الأرقام وهامش المناورة: ”قمر بوجهين“

الخوف من الاحصائيات والمؤشرات الاقتصاديّة، ليس حكرا على نظام الرئيس قيس سعيّد. بل كان لتونس سوابق في محاولات التلاعب أو حجب المعطيات الصحيحة عن الداخل والخارج خدمة لمصالحها أو تلميعا ”لإنجازات“ لا يراها سوى أصحاب القرار السياسي في كلّ حقبة.


نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة التونسية بعد اجتماع مجلس الوزراء في 21 مارس 2024، منشورا لتذكير التونسيّين بإنجازاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إنجازات تبدو ماثلة فقط في أذهان رئيس الحكومة وفريقه ومنفصلة تماما عن واقع التونسيّين المرير وما تعكسه مختلف المؤشرات الاقتصاديّة والمالية من حاضر قاتم ومستقبل مجهول.


لم يكن معهد الإحصاء، أو النشريات الشهرية والسنوية للبنك المركزي التونسي، محلّ اهتمام عموم التونسيّين خلال فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. حيث اقتصر المتابعون داخليّا على المختصّين في المجالين المالي والاقتصاديّ. وفي ظلّ منظومة حكم استبداديّة، لم يكن الداخل ذا قيمة على صعيد تجميل المؤشرات الاقتصاديّة، حيث يكفي الخوف لبسط السيطرة وفرض الرضى أو التظاهر به. ما كان يعني بن عليّ ونظامه حينها، هو تلميع صورته الخارجيّة وتصدير فكرة ”وهم الرخاء“ و”المعجزة الاقتصادية التونسية“ كما نعتها الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك. لكنّ سقوط هذا النظام في 14 جانفي 2011، أزاح الستار الحديدي عن واقع اقتصاديّ بائس وتلاعب بالمعطيات والأرقام. حقيقة كشف عنها أوّل محافظ للبنك المركزي بعد الثورة، مصطفى كمال النابلي، حين صرّح بتاريخ 30 ماي 2011، أنّ نظام بن علي تلاعب بالأرقام والاحصائيات لصالح تلميع عهده. شهادة تتقاطع مع التقرير الصادر عن البنك الدولي في سنة 2014، بعنوان ”الثورة غير المكتملة: توفير فرص ووظائف أفضل وثروة أكبر لكل التونسيين“، أشار فيه إلى أن النظام السابق كان يتلاعب بالإحصائيات والمؤشرات التّي يمدّ بها الهيئات المالية الدولية. واقع، يؤكّده تقرير ثان صادر عن نفس المصدر في مارس 2014، بعنوان ”كلّ شيء في العائلة: الاستيلاء على تونس“. إذ تفضح هذه الورقة القيود المفروضة على البيانات الإدارية والمعطيات التي كانت تصدر عن المعهد الوطني للإحصاء، وتعمّد النظام تقليل حجم المعلومات التي يمدّ بها المؤسسات المالية الدولية بحسب السيّد أنطونيو نوسيفيرا (Antonio Nucifora)، الذي ساهم في كتابة هذا التقرير، خلال تصريح سابق لموقع نواة.

محاولات التلاعب بالمعطيات، والالتفاف على الحقيقة التي تعكسها الأرقام والاحصائيات لم تتوقّف بعد سنة 2011. حيث أعلن المعهد الوطني للإحصاء في ديسمبر 2016، عن نتائج المسح الوطني حول الانفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2015، خالصا إلى أن نسبة الفقر في تونس تراجعت بحوالي 5 نقاط بين سنة 2010 و2015، لتصبح 15,2% سنة 2015 مقابل 20,5% سنة 2010. في المقابل، تغاضى المعهد عن دراسة إحصائية أخرى حول الفقر متعدد الأبعاد في تونس، تمّ إنجازها خلال نفس الفترة اعتمادا على مقاربة تشمل الأخذ بعين الاعتبار مستويات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الأساسية، مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي.

بالمقارنة بين الدراستين، تقفز نسبة الفقر إلى 28.97%. أمّا على مستوى التفاوت الجهوي في نسب الفقر، فبينما تبرز نتائج المسح الوطني أنّ نسبة الفقر في ولاية سوسة قد بلغت 16,3% أي أكثر من نسب الفقر في توزر (14,7%) وتطاوين (15%) وقابس (15,9%) وزغوان (12,1%)، إضافة إلى تقارب نسب الفقر بين ولاية سيدي بوزيد (23,1%) والمهدية (21,1%)، تكشف الدراسة المُنجزة حول الفقر متعدد الأبعاد إلى نتائج مخالفة. إذ بينت استمرار ارتفاع الفقر في المثلث الكلاسيكي (القصرين، سيدي بوزيد، القيروان)، علاوة على إظهار انخفاض مؤشر الفقر متعدد الأبعاد في ولاية سوسة (17,36%) مقارنة بارتفاعه في كل من تطاوين (31,40%) وتوزر (20,35%) وزغوان (37,75ب%).

كما يُقال، الوجه المضيء للقمر، يخفي دوما جانبا آخر مظلما. على هذا الأساس تتعامل مختلف الحكومات مع ما يُنشر من احصائيات وأرقام. حيث تقتصر بياناتها على ”الوجه“ المضيء للمعطى على غرار التركيز على نسبة التغطية خلال الحديث عن الميزان التجاري الخارجي متناسية حجم العجز، أو تتناسى معدّلات الانزلاق السنوية لمؤشرات الأسعار لتكتفي بعرض النسبة العامة للتضخّم. تماما كما يحدث حين استعراض نسبة البطالة التي تتراوح منذ أكثر من عشر سنوات بين 15% و17% تقريبا دون الخوض كثيرا في تفاصيل هذا الرقم الذي يخفي بلوغ نسبة البطالة لدى أصحاب الشهائد العليا أكثر من 25% لتصل لدى النساء إلى مستوى 30%.

17 ديسمبر 2022 قصر المؤتمرات، الإعلان عن نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية – هيئة الانتخابات

لكنّ الهوس بالأرقام ورهاب الحقيقة التي تعرّيها دون تجميل المنهجيات الاحصائيّة، لا تقتصر لدى منظومة 25 جويلية على المحور الاقتصاديّ فحسب. هوس ورعب تمتّ معاينته خلال مختلف المحطّات الانتخابية التي تلت حلّ البرلمان على غرار الاستشارة الوطنية أو الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 وصولا إلى انتخابات المجالس المحليّة. نسب مشاركة هزيلة تجاوزت بالكاد 11%. في المقابل، إصرار أعمى من السلطة السياسيّة على الهروب إلى الأمام على غرار تعليق الرئيس حينها على ضعف الاقبال معتبرا ”عدم إقبال نحو 90 بالمئة من التّونسيين على المشاركة في الانتخابات التشريعية سببه أن البرلمان لم يعد يعني لهم شيئًا“، ليضيف: ”… فضلا عن أن هذه الانتخابات لا يوجد فيها المال السياسي الفاسد، والأرقام يجب أن تُقرأ بشكل مختلف“. تعليق لا يخرج عمّا ألفه التونسيّون من ”مقاربات وقراءات“ مختلفة للرئيس تلتفّ على الحقيقة الساطعة بحثا عن هوامش للمناورة والتبرير وارضاء لأنصاره من القلّة ”الثابتين على العهد“ و”الوطنيّين الصادقين“.