خلافا لما عهدناه منذ ديسمبر 2010، يشهد الاتحاد في الأشهر الأخيرة ركودا يعطي انطباعا ان المنظمة التي تتسم بحركية كبيرة فقدت حيويتها، بما في ذلك هياكلها المعروفة بالتحركات النقابية والاحتجاجات المتعلقة بالأوضاع الجهوية وعلى رأسها الاتحاد الجهوي بالعاصمة وصفاقس. فالمنظمة التي لم تخف معارضتها لتوجهات السلطة، بما فيها من تضييقات وأحكام سجنية سلطت على المترشحين للرئاسيات وملاحقات المرسوم 54 وخطابات التخوين والشيطنة وغيرها من مؤشرات الارتداد نحو التسلط والاستبداد…لم تترجم مواقفها المعلنة إلى تحركات حاشدة في الشارع، عادة ما كانت تنطلق من بطحاء محمد علي ردا على انحرافات حكومات ما قبل 25 جويلية 2021.
2 مارس 2024، كان تاريخ آخر التحركات التي نفذتها المركزية النقابية بساحة الحكومة بالقصبة، أين ألقى أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي كلمة تضمنت انتقادات للسلطة ردا على ترهيب وسجن النقابيين على خلفية عملهم النقابي والقبض على كاتب عام نقابة شركة تونس للطرقات أنيس الكعبي قبل الإفراج عنه وكاتب عام الاتحاد الجهوي بالقصرين الصنكي الأسودي الذي يتواصل سجنه حتى اليوم، كلمة الطبوبي الحماسية يومها أمام حشود النقابيين تعرضت لواقع ضرب الحقوق والحريات بصفة عامة، ومطالب أخرى بتفعيل الاتفاقيات الممضاة والعودة إلى طاولة الحوار مع ممثلي الحكومة.
وتبدو أسباب خيار المنظمة التراجع خطوة إلى الوراء مرتبطة بشكل وثيق بتعقيدات الأزمة السياسية في تونس واستحالة حلها في ظل انغلاق السلطة واحتكارها للإعلام العمومي، ما أنتج انحسارا للنقاش العام وخوفا في وسائل الاعلام الخاصة من مغبة التداول في الملفات المحرجة للحكم. كل ما سبق طبعا لا يستقيم اعتماده بمعزل عن الأزمة الداخلية التي تعيش على وقعها المنظمة الشغيلة، والتي توصف بأنها أزمة تسيير إنعكست سلبا على التماهي بين الهياكل في تقدير الوضع وتأثيرات تنظيم تحركات ضخمة في الشارع تتجاوز في مطالبها البعد الاجتماعي والاقتصادي، ما جعل التركيز ينصبّ على محاولات لملمة الجراح وتجاوز الخلافات الداخلية.
البحث عن صوت الاتحاد العالي
عضو المركزية النقابية سمير الشفي إعتبر في حديث مع نواة ان الاتحاد لم يكن غائباً رغم ما تشهده البلاد من محاكمات لأصحاب الرأي من الاعلاميين والحقوقيين والنقابيين اللذين طالهم المرسوم 54، ففي تقديره لم يبق الاتحاد مكتوف الأيدي، بل كان صوته عاليا ولم يتوقف عن التنبيه والتنديد واستنكار عديد الإجراءات التي مست الحريات والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتابع الشفي قائلا ”في علاقة بالحريات العامة والفردية والحقوق النقابية لم تتوقف دعواتنا بضرورة إلغاء المرسوم 54 واحترام الرأي والرأي الآخر ولا يمكن إنكار مواقف الاتحاد ودوره بالخصوص، كما ان القول بان الاتحاد غائب لتفادي التقاطع مع جبهة الخلاص لا يستقيم (…) فهم من حقهم كمجموعة أحزاب أن يبدوا آراءهم ويتحركوا وخلافنا معهم لا يعني بالضرورة أن نغض البصر عن قضايا عادلة وحقيقية“.
وأكد الشفي أن تقدير منظمته للوضع السياسي والموقف منه واضح ومعلوم للجميع، وهو وضع يتسم بعودة التضييقات على كل الحريات بأبعادها المختلفة، وحصار على الأجسام الوسيطة من الأحزاب والمنظمات والجمعيات، ليخلص الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل إلى أن منظمته لن تقبل بالعودة إلى الوراء بأي شكل من الأشكال.
تهميش دور الاتحاد النقابي والوطني
من المعلوم أن رئيس الدولة لا يؤمن بالأجسام الوسيطة الخارجة عن فلكه، من نقابات وأحزاب وجمعيات…، بالإضافة إلى حرصه الواضح لاحتكار كل إنجاز مهما كانت خصوصية الملف المتعلق به، وإن لم يتم بعد تنفيذه على أرض الواقع ولم يخرج بعد من دائرة الوعود والتصريحات والتعليمات المنبثقة عن الزيارات الميدانية واللقاءات المباشرة مع أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين الإداريين.
ملفات في أغلبها، إن لم تكن جميعها، كانت محل تفاوض ونقاش مع طرفي الانتاج اتحاد الشغل واتحاد الاعراف، بحضور منظمة العمل الدولية في بعض الأحيان، وقد توقفت تلك النقاشات بسبب الخلافات في الرؤى والتصورات قبل أن تتعطل رسميا بتعطل أشغال المجلس الوطني للحوار الاجتماعي.
مثال ذلك ما حصل في ملف صندوق التعويض على فقدان مواطن الشغل، الوارد كأحد الاجراءات التي نص عليها مشروع قانون المالية لسنة 2025. ملف كان أحد أهم النقاط التي نوقشت لسنوات بين ثلاثي الحكومة واتحاد الأعراف واتحاد الشغل، الذي كان يمثله عضو المركزية النقابية السابق عبد الكريم جراد. اليوم تنفرد السلطة بإعلان الاجراء وتمريره في قانون المالية دون توضيح سياق التوصل إلى صيغة إحداثه وتمويله.
أما فيما يخص الزيادة في الأجر الأدنى المضمون، جرت العادة أن يتم إعلانه في إطار جلسة مشتركة بين الحكومة واتحاد الشغل، أمر تم تجاهله خلال الزيادة الأخيرة التي صادق عليها مجلس الوزراء في 4 جويلية الماضي.
تغييب المنظمة عن ملفات تمثل صميم دورها النقابي والاجتماعي لم يتوقف عند ذلك الحد، حيث تم تداول خبر مفاده أن الحكومة ناقشت خلال الفترة الأخيرة مشروعها لتنقيح مجلة الشغل مع اتحاد الاعراف دون حضور ممثلي المركزية النقابية، في خطوة يبدو أنها أفاضت الكأس.
رغم كل تلك المؤشرات واصل ممثل المركزية النقابية سمير الشفي هدوءه مجيبا:
لا أعتقد أن الحكومة والسلطة بصفة عامة تسعى لسحب البساط من تحت الاتحاد أو تغييبه وإلغاءه عبر القيام بما يُفترض أن يقوم به الاتحاد أو يشارك فيه كالزيادة في الأجر الأدنى المضمون ومعالجة منفردة لملفات من قبيل ملف المناولة (…) فالاتحاد فوق كل المسائل والملفات الظرفية.
وإعتبر الشفي أنه في حال كانت استراتيجية الحكومة تغييب اتحاد الشغل والعمل على سحب البساط من تحت أقدامه عبر احتكار الحقيقة المتعلقة بإيجاد حلول للإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية، فهي استراتيجية لن تؤدي إلا إلى مزيد تعميق الفشل والأزمات المتراكمة التي لا يمكن الخروج منها إلا بالحوار الذي يمثل مطلبا رئيسيا للمنظمة تضع مقابله العودة لخيار الخروج إلى الشارع والإضرابات الذي نتركه كخيار أخير.
الاستعداد للعودة إلى الشارع
توجه السلطة في تهميش اتحاد الشغل، والتفافها على الحوار الاجتماعي، دفع المنظمة بالتوازي مع العمل على ترتيب بيتها الداخلي، لاستصدار توصية من سلطة قراره الثانية، المتمثلة في مجلسه المركزي، بتنفيذ إضرابات عامة تشمل الوظيفة العمومية والقطاع العام، مقابل عدد من المطالب الاجتماعية أوردها المجلس المركزي في اللائحة المهنية التي صادق عليها.
انعقاد المجلس المركزي للاتحاد، تبعه اجتماع لمجمع الوظيفة العمومية في 2 أكتوبر الجاري، والذي أفرز من جانبه توصية بتنفيذ تحركات احتجاجية بكل الجهات والقطاعات في الوظيفة العمومية إضافة إلى تجمع وطني بالقصبة، في انتظار انعقاد مجمع القطاع العام خلال الفترة المقبلة وهيئات إدارية جهوية، قبل التوجّه للهيئة الإدارية الوطنية، التي ستحدد فقط تواريخ التحركات الاحتجاجية التصاعدية، باعتبار ان النقاشات حول الاسباب تمت خلال المجلس الوطني ذو التركيبة والتمثيلية النقابية الأوسع داخل المنظمة، إن لم تحدث مستجدّات طارئة بطبيعة الحال.
في هذا السياق قال الأمين العام المساعد في المنظمة لـنواة أن استمرار تقييد الحوار الاجتماعي والتنكر للاتفاقيات المبرمة وغياب الحلول الحقيقية لتدهور مستوى عيش المواطن التونسي والعمال والموظفين ومقدرتهم الشرائيّة لم يترك للاتحاد حلا إلا أن يمارس دوره القانوني ووظيفته الاجتماعية التي تهدف إلى الوقوف إلى جانب العمال، مؤكدا أنه في حال تواصل انسداد أبواب الحوار فسيضطر الاتحاد الى اللجوء الى وسائل أخرى قانونية وهي الإضرابات التي أقرها مجلسه الوطني بإجماع غالبية أعضاءه بعد نقاش عميق للوضع في البلاد:
الاضراب أبغض الحلال عند النقابيين ولكن حين نجد أنفسنا مكرهين على تنفيذه لن نتراجع، ولكن نأمل أن نجد الحلول بعيداً عن ذلك الخيار.
iThere are no comments
Add yours