ماذا لو سحبنا ورقة العودة من ابتزاز العقل الأمني؟

بقلم عماد الدائمي

“عليك بالصمت حتى 2009، إثر ذلك يمكنك الكلام إن شئت” كلام قاله أحد مسؤولي “أمن الدولة” بلغة تهديد ووعيد للكاتب الحر توفيق بن بريك منذ أيام. ويعكس هذا الكلام تماما رغبة السلطة في إخراس كل صوت يمكن أن يزعجها أو يفسد عليها إعدادها لانتخابات 2009.

في هذا الاطار نفهم الحملة الشرسة التي أطلقها النظام في الفترة الأخيرة على من يعتبرهم رؤوس الفتنة في البلاد وأصحاب الألسن الطويلة (أم زياد، عبد الرؤوف العيادي، عبد الوهاب معطر، عبد الكريم الهاروني، عبدالله الزواري، مسعود الرمضاني، سليم بوخذير، سهام بن سدرين، عمر المستيري، توفيق بن بريك …). حملة شملت كل أنواع الردع والترهيب والانتقام من حجز الأموال وتسليط سيف الضرائب الجائرة، إلى تلفيق الأشرطة الفاضحة والاعتداء على الأعراض الشريفة، إلى تضييق الخناق والحصار الدائم، إلى الاستفزاز والتهديد، وصولا الى التعنيف الشديد.

وفي هذا الاطار أيضا نفهم الرد الأمني المفرط على التحركات الاجتماعية التي شهدتها مناطق الجنوب الغربي التونسي، والقمع الشديد الذي يتعرض له شباب المنطقة المنخرط في تلك الاحتجاجات في هذه الايام لوأد تلك التحركات واخمادها ومنع انتقال العدوى الى المناطق المجاورة.

ويبدو أن تزامن كل هذه الخطوات القمعية والضربات الاستباقية هو مؤشر على وجود خطة حددها العقل الأمني للسلطة شعارها إخماد صوت أي شخص تحدثه نفسه التشويش على “الاستحقاق الرئاسي” للسنة المقبلة.

العقل الأمني ومصادرة السياسي

يبدو جليا بما لا يدع مجالا للشك أن العقل الأمني الذي وضع هذه الخطة هو نفسه الذي يمسك بزمام المبادرة السياسية في البلاد ويطوع المؤسسات التشريعية والتنفيذية والحزبية لغرض تحقيق هدفه المركزي للمرحلة : تجديد شرعية السلطة في انتخابات السنة القادمة دون احداث أي درجة من درجات الانفتاح ودون قلاقل داخلية وفضائح خارجية. وهكذا كان التحوير الدستوري الأخير الذي أعلنه هرم السلطة بنفسه يهدف بدون لف ولا مواربة لاقصاء كل من يمكن أن تسول له نفسه أن يفسد الخطة وأن لا يحترم قواعد اللعبة المرسومة مسبقا أو أن يتجاوز الخطوط الحمراء ذات السقف المتدني.

ولا شك في أن الكثيرين من الوطنيين في الدوائر المعنية بالقرار السياسي غير موافقين على هذا المسار ولكنهم مغلوبون على أمرهم ولا حيلة لهم أمام سطوة العقل الأمني وسلطته.

العقل الأمني والتعامل مع قضية المهجرين

الفصل الثالث من الخطة الأمنية المفترضة للمرحلة القادمة، بعد فصلي قمع المعارضة الراديكالية داخل البلاد (معارضة المقاطعة) والتضييق على معارضة المشاركة، يعنى بالتعامل مع ملف المهجرين الذي أصبح حاضرا بكثافة في الساحتين الداخلية والخارجية والذي يهدد بالتحول الى مصدر ازعاج شديد وتشويش خطير قبل وأثناء وبعد الانتخابات القادمة.

في هذا الملف، كمثله من الملفات، افتكت الأجهزة الأمنية القرار من مصدره الطبيعي (الخارجية والقضاء) وهي تسعى الى حلحلته أو بالأحرى تصفيته بتخبط شديد وعقلية أمنية صرفة هدفها الأوحد كسر وحدة المهجرين وضرب البعد السياسي للقضية بتحويلها من ملف عام شامل سياسي بامتياز الى ملفات شخصية منفصلة تدرسها بانتقائية شديدة وتبت فيها من خلال معايير تبدو ذكية أحيانا، عندما يتعلق الأمر بتحييد مناضلين أوتشتيت مجموعات متماسكة. غير أنها تبدو في غاية من الغباء والتخلف عندما ترفض ملفا “يخدم مصالحها” أو عندما تتعنت في ملف انساني صارخ فاضحة نواياها غير الصادقة..

ورغم تخبط السياسات الأمنية تجاه “ملف العودة” وضبابية الموقف العام، يمكننا من خلال مؤشرات عديدة توقع معالم الخطة الأمنية المرحلية حول هذا الملف. حيث لن يبتعد كثيرا عن السيناريو التالي:

ـ مواصلة التعامل بشكل انتقائي بطئ مع الملفات لابقاء الوضع تحت السيطرة، وربحا للوقت حتى اقتراب الانتخابات حيث قد يقوم الرئيس ـ المترشح لخلافة نفسه ب”مبادرة كريمة” للسماح بعودة العشرات من اللاجئين لتلطيف الأجواء ولكسب بعض الشرعية، كما كانت العادة سابقا في التعامل مع المساجين السياسيين.

ـ عزل عدد من الناشطين من “مثيري الفتنة” عبر سياسة مزيج من الترغيب والترهيب وتشويه السمعة وصولا الى التأديب بأشكال انتقامية خفية وغادرة. ولعل ما راج من شائعات في الأيام الأخيرة من وجود مخطط لقمع بعض الوجوه المهجرية يدخل في باب الحرب النفسية من أجل اسكات الأصوات المزعجة.

غير أن الموقف الأمني من مسألة العودة سيظل مرتبطا ومحكوما في تطوره بموقف المهجرين أنفسهم : ان هم قبلوا بشروط اللعبة المفروضة وواصلوا انتهاج سياسة الخلاص الفردي وسكتوا عن المماطلات والوعود الكاذبة فستظل السياسة الأمنية على حالها ولربما تعنتت أكثر. وان هم التفوا حول مشروع جماعي لفرض حق الجميع في عودة كريمة ومسؤولة ورفضوا الاذعان للشروط المجحفة وأبوا دفع ثمن، مهما قل، لعودتهم فلن يجد النظام بدا عن التنازل.

الحلقة الأضعف

وهكذا يبدو لنا من خلال ما سبق أن “ملف المهجرين” مؤهل ليكون الحلقة الأضعف في السياسة الأمنية التي يراد لها ادارة المرحلة حتى موعد الانتخابات القادمة. حيث أن فاعلي هذا الملف هم الأكثر تحررا والأيسر مبادرة والأشد قدرة على الكر والايلام نتيجة لوجودهم حيث مصدر شرعية النظام وحيث مورد رزقه (السياحة والاستثمارات) ونتيجة لعدالة قضيتهم التي ستجلب لصفهم الكثير من القوى المؤثرة. كما أن العقل الأمني سيجد نفسه محاصرا بين أمرين أحلاهما مر : مواصلة التعنت وما سيؤدي اليه ذلك من مزيد احتقان للأوضاع وفضائح ستفسد عليهم حفلتهم، أو فتح الأبواب وما يعنيه ذلك من خروج للأمور عن السيطرة ومن انتقال “المعركة” الى داخل البلاد.

أحد الأصدقاء توقع أن يتوجه العقل الأمني الى خيار ثالث جوهره التسريع بحل الوضعيات العالقة والملفات المفتوحة في عملية استباقية للحملة التي هي بصدد الاعداد كسرا للديناميكية الوليدة ومواصلة التعاطي الشخصي الانتقائي مع الملفات القادمة. ورغم أنني أشكك في امتلاك الأجهزة لهامش المناورة هذا، فانني أعتقد أن الأمر ان تم فانه سيكون النصر الأول لحملة لم تنطلق بعد، حيث أن العودة الكريمة لأي مهجر الى بلاده هي انتصار لكل المهجرين

يبقى الخيار الأفضل للبلاد والعباد أن تتوفر ارادة صادقة لانهاء المظالم وفتح البلاد لكل أبنائها والسعي الى تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة. وهذا يتطلب أمرا مركزيا : أن يتأخر العقل الأمني خطوة ويترك مكانه لعقل وطني سياسي ولعل الدولة والادارة وحتى الحزب تعج بوطنيين مخلصين يحملون هذا العقل