جزء من دار الثقافة ابن زيدون بالعمران، وقد استولت عليه إحدى العائلات

غسّان بن خليفة

كيف يريدوننا أن نتصدّى لأمثال كمال زرّوق من دون ميزانيّة؟

بهذه الإشارة الاستنكاريّة إلى القيادي السابق في تنظيم أنصار الشريعة، لخّص سفيان الڨاسمي، مدير دار الثقافة ابن زيدون بالعمران، الأوضاع المزرية التي تعاني منها مؤسّسته منذ حوالي السنة. فهذه الدار تغطيّ منطقة يعيش فيها حواليْ خمسين ألف ساكن وتقع على تخوم عدد من الأحياء الشعبية كالجبل الأحمر – حيث كان يخطب كمال زرّوق ويستقطب الشباب – والعمران وباب سيدي عبد السلام. وهي تعاني، كغيرها من دور الثقافة، خاصّة بالأحياء الشعبية والجهات الداخلية، من تداعيات قرار إلغاء العمل باللجان الثقافية.

بيروقراطية قاتلة

“صارت دُور الثقافة تعاني من شبه شلَل” منذ أن تمّ تفعيل هذا القرار بداية السنة الحالية، يقول مهدي المستوري المنشط الثقافي بالمركز الثقافي الطاهر الحدّاد بالعاصمة. ويوضح المستوري أنّ قرار حلّ اللجان الثقافية أدّى إلى حرمان دور الثقافة من إمكانية التصرّف المباشر في الميزانية المخصّصة لها. إذ كانت دُور، ومراكز، الثقافة تستفيد من هذه الميزانيات المودعة بالحساب البنكي للجنة الثقافية التي ترجع إليها بالنظر. وكان يمكن لمدير الدار، وهو في نفس الوقت كاتب عامّ اللجنة الثقافية، أن يتصرّف مباشرة في الميزانية ويدفع للفنّانين أو المحاضرين الذين يتعاقد معهم على عمل ما. أمّا الآن فقد صار مضطرًا لإحراز الموافقة المسبقة لكُلٍّ من المندوب الجهوي للثقافة ومراقب مصاريف من وزارة المالية، قبل الحصول على أدنى مبلغ من المال. فبعد أن كانت دُور الثقافة تقدّم بداية كلّ سنة للمندوبية الجهوية برنامجًا تقريبيًّا لأنشطتها، تحصل بموجبه على ميزانيتها، ثمّ تقدّم آخر السنة المالية حساباتها وفواتيرها، باتت اليوم تتلقّى تمويل كلّ نشاط أوّلاً بأوّل.

تسبّبت هذه الطريقة الجديدة، التي قُرّرت في الأصل بهدف الحدّ من الفساد وإهدار المال العامّ، في تعقيدات للمسؤولين الثقافيين. إذ صار هؤلاء يفتقدون للسيولة المالية الضرورية للمصاريف اليوميّة، إلى درجة أنّ “اقتناء باقة ورد لتكريم فنّان ما صار يتطلّبُ إرسال ورقة تسعيرةإلى المندوبية، ومن ثمّة الحصول على المال الضروري وإرسال وصل طلبيّة إلى البائع”، يشرح مهدي المستوري. بل ويذهب اسكندر الرزڨي، مدير دار الثقافة بالڨطار (ولاية ڨفصة)، إلى أبعد من ذلك: “صرنا لا نملك حتّى المال الضروري لشراء قارورة ماء معدني لضيوفنا!”.

تسّببت هذه الوضعيّة كذلك في حرمان دور الثقافة من تنظيم أنشطة غير مبرمجة مسبقًا. إذ يضرب محمّد فريد البكّاري، مدير المركّب الثقافي أبي بكر الڨمّودي، مثالاً على ذلك: شاعر عربي كبير يزور البلاد لأيّام معدودة وترغب إحدى دور الثقافة بجهة داخلية استضافته. “هذا يتطلبُّ منّا أن نوفّر بسرعة كلفة تنقّله وربّما إقامته، في حال لم يطلب مقابلاً لقدومه” يقول البكّاري. قبل أن يضيف: ” اليوم، لم يعد بإمكاننا القيام بذلك لأنّ الحصول على التمويل الضروري من المندوبية الجهوية يستغرق عمومًا ستّة أو سبعة أيّام، وأحيانًا يجب الانتظار أسبوعين.”

كما يمنع ضعف السيولة الماليّة دور الثقافة من تنظيم أنشطة خارجيّة. “فاليوم تطوّر علم التنشيط الثقافي، وصار مطلوبًا منّا أن نخرج من مقرّاتنا ونتوجّه إلى المدارس والحدائق العموميّة”، يقول سفيان الڨاسمي، مدير دار الثقافة ابن زيدون بالعمران.

كما أوضح لنا بعض من تحدّثنا إليهم أنّ الظروف الجديدة اضطرّتهم هذه السنة إلى إلغاء بعض المهرجانات الصغرى التي كانوا يواظبون على تنظيمها سنويًا.

“أجرة لا تليق بالعمل الثقافي”

مسألة أخرى يثيرها أهل الاختصاص: أجرة منشّطي النوادي الثقافيّة والمحاضرين. إذ بموجب التوجّه الجديد لوزارة الثقافة، لم يعد بمقدور مديري دور الثقافة أن يعوّلوا كثيرًا على خدمات المنشطّين الثقافيين غير القارّين. إذ حدّدت الوزارة عدد ساعات عملهم بأربعة في الأسبوع وبمقابل 8 د للساعة. أيْ أنّه لا يمكن لمنشطّ نادي موسيقى أو مسرح أن يشتغل أكثر من 16 ساعة بالشهر. و”هو ما يعني أنّه باحتساب الـ 15% التي تُقتطع من الأجر، لا يمكنني أن أدفع للفنّان الملتزم الذي ينشّط نادي الشيخ إمام للموسيقى الملتزمة أكثر من 108 د!”، يستنكر شكري لطيف، مدير دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة. الأمر الذي أدّى إلى تعليق نشاط هذا النادي الشهير.

رغم ذلك تُعتبر هذه الدار محظوظة، لأسباب تتعلّق بتاريخها وموقعها، مقارنة بدور الثقافة في الأحياء الشعبية للعاصمة نفسها. إذ يشتكي سفيان الڨاسمي من الحرج الذي صار يشعر به  كلّ مرّة يضطرّ فيها لرفض طلب الأولياء تسجيل أبنائهم بأحد الأندية الثقافية السبعة التي تنشط في مؤسّسته. “لدينا 150 منخرط بالنوادي، التي تمثّل عماد دار الثقافة، لكنّنا لم نعد قادرين على قبول منتسبين جُدُد لأسباب ماديّة”. فإضافة للصعوبات المالية، يشتكي الڨاسمي كذلك من تقاعس المسؤولين، الذين اتّصل بهم أكثر من مرّة لمساعدته على استرداد جزء هامّ من مقرّ دار الثقافة استولت عليه عائلات، “وكذلك منحرفون يتحرّشون بزميلاتنا”، إبّان الثورة. فإلى حدّ اليوم لم يتلقّ مدير الثقافة الشابّ ردًا على مراسلة بعث بها منذ أوت 2014 إلى رئيس بلدية مدينة تونس، التي تعود ملكيّة الدار إليها قانونًا، وطالبه فيها بالتدخّل. كما أنّه ما يزال بانتظار ردّ وزيرة الثقافة لطيفة الأخضر على مراسلة رسمية، بعث بها قبل أسبوع، ودعاها فيها لزيارة الدار والإطلاع على حالها.

إلاّ أنّ أوضاع دور الثقافة بالمناطق الداخلية تُعدّ أكثر سوءًا من نظيرتها بالمدن الكبيرة. إذ يضرب محمّد فريد البكّاري مثال دار الثقافة بالمزّونة (ولاية سيدي بوزيد)، التي “صارت شبه متوقّفة عن العمل” لأنّه يصعب على مديرتها – التي لم نستطع الاتصال بها – التنقّل كلّ مرّة إلى مركز الولاية بمدينة سيدي بوزيد للقاء المندوب الجهوي وطلب تمويل مصاريف التسيير اليومي، فضلاً عن العروض.

كذلك يتحدّث البكّاري، الذي يشتغل بالعمل الثقافي منذ ثلاثين عامًا، عن إجراء آخر زاد عمله صعوبة. إذ أنّه لم يعد مسموحًا لدور الثقافة أن تدفع أكثر من 150 دينارًا لأيّ مثقّف قد يُطلب منه إلقاء محاضرة. بل “وأكثر من ذلك، يشرح البكّاري، عَلَيَّ أن أوقّع عقدًا مع المحاضر، الذي قد يكون أستاذًا جامعيًا مرموقًا مثلاً، وأن يذهب إلى البلديّة ليعرّف بإمضائه على العقد، ثمّ يذهب إلى القباضة المالية ليسجّله مقابل 40 د للصفحة الواحدة، علمًا وأنّ أقصر عقد يحتوي على صفحتين، ثمّ يُقتطع له 15% من الـ 150 دينار كضريبة على الدخل. هل يُعقل ذلك؟!”

ويتّفق جلّ من تحدّثنا إليهم في أنّ السبب المباشر لهذه الأوضاع هو قرار حلّ اللجان الثقافية، الذي حرم مؤسّساتهم من مرونة التصرّف المالي الضرورية لحسن تسييرها. كما ينتقدون عدم اهتمام الوزارة بالتواصل معهم للاطلاّع على التعقيدات التي باتت تعوق عملهم.

حلّ اللجان الثقافية دون توفير بديل

“إثر الثورة، رغم المصاعب عرفت دور الثقافة انتعاشة حقيقيّة، لكنّ الأمر تغيّر منذ بداية هذا العام بعد أن دخل قرار حلّ اللجان الثقافية حيز التنفيذ”، يقول شكري لطيف مدير دار الثقافة ابن رشيق. ويشرح لطيف أنّ حلّ هذه اللجان كان من مطالب المجتمع المدني الثقافي منذ ما قبل 14 جانفي، لما علق بها من فساد مالي وسياسي، إذ “تمّ السطو عليها من قبل حزب التجمّع في عهد الديكتاتورية”. ويضيف أنّ عزّ الدين باش شاوش، أوّل وزير للثقافة إثر الثورة، تفهّم هذا المطلب وقرّر تعليق العمل باللجان الثقافية ولم يُبقِ فيها سوى كتابّها العامّين، وهم مديرو دور الثقافة، وأمناء المال، حتّى لا يتعطّل النشاط الثقافي المحلّي. إلاّ أنّ باش شاوش، لم يقدّم بديلاً عمليًا ومؤسّساتيًا للجان الثقافية.

وتعود اللجان الثقافية إلى بداية الستينات من القرن الماضي. إذ كانت هنالك لجنة ثقافيّة قوميّة تُشرف على لجان جهويّة، تشرف بدورها على لجان محلّية، وقد أنيطت بعهدتها مهمّة “تطبيق البرامج الثقافية القوميّة”، كما شرحها المشرّع في الأمر عدد 18 لسنة 1983. وكانت تلك اللجان تتكوّن من مثقّفي كلّ جهة ومسؤولي الجمعيات الثقافية بها، الذين يشرفون على وضع برنامج سنوي لدار الثقافة وعلى تنشيطها. إلاّ أنّ هيمنة الحزب الحاكم في عهديْ بورقيبة وبن علي حوّلت هذه اللجان إلى أدوات للدعاية الرسميّة والرقابة والاقصاء السياسي، فضلاُ عن الفساد المالي.

وصدر قرار حلّ اللجان الثقافية في عهد الترويكا بموجب الأمر عدد 733 لسنة 2014، المتعلّق بإحداث المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية. وقد بُعثت هذه المؤسّسة في الأصل لتأخذ مكان اللجنة الثقافية القوميّة التي كانت تشرف على المهرجانات والتظاهرات الفنيّة الكبرى، وكذلك على اللجان الثقافية الجهويّة والمحلّية. إلاّ أنّ هذا القرار اكتفى بحلّ اللجان الثقافية دون أن يقدمّ بديلاً للدور الذي كانت تلعبه في الإشراف على دور الثقافة. وما يزيد الأمر تعقيدًا عدم وجود قانون أساسي ينظّم عمل هذه الدُور ويضمن استقلاليتها الماليّة والإدارية. مراد الصقلي، الوزير السابق بالحكومة الانتقاليّة لمهدي جمعة، لم يشأ أن يواجه انعكاسات هذا القرار فصدر في عهده الأمر عدد 1401/2014، الذي نقّح الأمر عدد 733/2014 وقضى بالتمديد لسنة واحدة في مهام اللجان الثقافية الجهوية والمحلّية. وبانتهاء التمديد بداية السنة الحالية، صارت دور الثقافة مُلحقة بالمندوبيات الجهويّة للثقافة، ولم يعُد مديروها قادرين على التصرّف مباشرة في الميزانيات المرصودة لها.

ويتّهم بعض الناشطين في الحقل الثقافي الوزير السابق للثقافة مهدي مبروك بالمسؤولية عن هذه الوضعيّة. إلّا أنّ الأخير نفى عن نفسه هذه التهمة في تصريح لنواة، وقال أنّ “قرار حلّ اللجان الثقافية اتّخذه الوزير الذي سبقني عزّ الدين باش شاوش، وهو محقٌ في ذلك”، بسبب ما عرفه عمل تلك اللجان من فساد سياسي ومالي. ويدافع مبروك عن قراره إنشاء المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية الذي “يدخل في إطار تعصير العمل الثقافي ومأسَسته، خاصّة فيما يتعلّق بالمهرجانات والأيّام الفنيّة الكبرى”. أمّا بخصوص الفراغ التشريعي الذي تعاني منه دور الثقافة اليوم، فيقول الوزير الأسبق أنّه ترك عند خروجه من الوزارة مشاريع قوانين أساسيّة “البعض منها في حالة متقدّمة جدًا، لدور الثقافة وكذلك للمكتبات العموميّة والمعاهد الجهوية للموسيقى ومراكز الفنون الدراميّة”. كما يذكّر مبروك بأنّ من إنجازاته سنّ قانون أساسي لسلك المنشّطين الثقافيين.

وأوضح مبروك أنّه عمل على مشاريع القوانين تلك مع يوسف بن ابراهيم، المدير السابق لإدارة الشؤون القانونيّة بالوزارة. ويشغل بن ابراهيم اليوم خطّة مدير ديوان وزير الثقافة لطيفة الأخضر. وقد حاول موقع نواة الاتّصال بالسيّد بن ابراهيم أو من ينوب الوزيرة لاستفسارهم عن مصير مشاريع القوانين الأساسية ومعرفة ردودهم على مشاغل مديري دور الثقافة. إلاّ أنّ الوزارة لم تكلّف نفسها عناء الردّ علينا أو الاتصال بنا، رغم محاولاتنا المتكرّرة طيلة ثلاثة أيّام متتالية.

لا يكتفي مديرو دور الثقافة بالتشكّي. ولا يطالبون بإرجاع اللجان الثقافية، بل يطالبون بصيَغ مرنة تضمن سهولة التصرّف المالي وتدعم لا مركزية العمل الثقافي.  ويتقدّم البعض منهم باقتراحات في هذا الصدد. من ذلك فكرة “إحداث مجلس دار، يكون بمثابة مجلس لإدارة دور الثقافة، ويُنتخب جزء من أعضائه فيما يُراعى في تعيين بقيّة الأعضاء تمثيليّة المجتمع المدني الثقافي المحلّي”، كما يرى شكري لطيف، مدير دار الثقافة ابن رشيق.

وكأنّ شحّة الأموال التي ترصدها الدولة لقطاع الثقافة لم تكن كافية حتّى ينضاف إليها الفراغ التشريعي والإجراءات البيروقراطيّة. وفي انتظار تحرّك الوزيرة ومساعديها، يُتوقّع  أن تتواصل حيرة المسؤولين الثقافيين الجهويين والمحلّيين بعض الوقت فيما هم يتابعون بعجز اللغط الرسمي والإعلامي المتواصل حول “دوْر الثقافة في محاربة التشدّد والارهاب”.