hbib-essid-gouvernement

الاحتجاجات الأخيرة التي انطلقت من مدينة القصرين لتنتشر خلال أيّام في معظم ولايات البلاد، وضعت الحكومة ومختلف أطراف المشهد السياسيّ والاقتصاديّ أمام مأزق أعاد إلى الأذهان مشاهد جانفي 2011. بعد الجهود المبذولة لاحتواء هذه التحرّكات عبر سلسلة من التصريحات الارتجاليّة واستدعاء هواجس الخوف والإرهاب لمحاصرة الاحتجاجات وكسر التضامن الشعبيّ، أطلّ رئيس الحكومة الحبيب الصيد امام مجلس النواب يوم 28 جانفي ليعلن عن جملة من القرارات التي اعتبرها تستجيب لمطالب المحتجّين وتمثّل خطوة أولى في طريق الحلّ الجذريّ لمعضلة البطالة والتفاوت الجهويّ الذّي عجزت الحكومات المتعاقبة عن حلّها.

قرارات تحت الضغط

أثارت موجة الاحتجاجات التي شهدتها اغلب ولايات البلاد إثر حادثة مقتل رضا اليحياوي في القصرين يوم 16 جانفي 2016، اهتماما بالغا من وسائل الإعلام المحليّة والأجنبيّة رغم اختلاف التعاطي الإعلامي مع الأحداث من محاولة التعتيم إلى التركيز المفرط على عمليات السرقة والتخريب المحدودة وتجاهل التحركات السلمية والاعتصمات.

بعد الهدوء النسبيّ، وتراجع نسق الاحتجاجات وامتدادها الجغرافيّ وسلسلة الاجتماعات التي جمعت رئيس الحكومة بجميع أطياف المشهد السياسيّ والهياكل النقابية ومنظّمة الأعراف، قرّر هذا الأخير الخروج عن صمته وإعلان جملة من الإجراءات خلال جلسة مجلس النواب التي خُصّصت لتباحث الأوضاع الطارئة في البلاد.

خطاب الحبيب الصيد الذّي دام قرابة الساعة، تناول في الجزء الأوّل منه ما أسماه “نجاح الحكومة” في أداء بعض مهامها خصوصا على الصعيد الأمنيّ، ليكون المحور الثاني لحديثه مجموعة من القرارات التي اتخذتها الحكومة استجابة لمطالب المحتجّين ومحاولة لإيجاد حلّ لمعضلة البطالة وتخفيف الاحتقان الاجتماعي حسب وجهة النظر الرسميّة.

وقد تمثّلت الإجراءات “العاجلة” التي أقرّتها الحكومة أساسا في:

  • انتداب 23 ألف عاطل عن العمل فورا من ضمنهم 16 ألفا للوظيفة العموميّة خصوصا في قطاعات الأمن والجيش والصحّة.
  • تجنيد حوالي 30 ألف معطّل عن العمل في الجيش الوطني والعمل على انتداب جزء كبير منهم بعد انتهاء فترة التجنيد من أجل الحد من البطالة.
  • انتداب عاطل عن عمل عن كل عائلة معوزة.
  • الغاء شرط التمويل الذاتي لأصحاب الشهائد العليا الرّاغبين في بعث مشاريعهم الخاصّة بالإضافة إلى الغاء الضمان.
  • إجباريّة التكوين المهني للمنقطعين عن التعليم في المرحلة الابتدائية والاعدادية والثانوية.
  • الاتفاق مع منظّمة الصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة على توفير 50 ألف موطن شغل خصوصا في الفضاءات التجاريّة الكبرى وحثّ أصحاب هذه المؤسّسات على الاستثمار في المناطق الداخليّة.
  • الغاء آليات التشغيل الهشّة بشكل تدريجيّ ومرحليّ في غضون ثلاث سنوات.

أمّا القرارات الأخرى التي لا تكتسي طابعا استعجاليّا بحسب رئاسة الحكومة فتتعلّق بالعمل على إعداد قانون لتسوية وضعية الأراضي الدوليّة وتسخيرها لتخفيف معضلة البطالة، إضافة إلى إعداد برنامج للتصرّف في الأملاك المصادرة في أقرب وقت.

قرارات الحكومة ومأزق الإمكانيات

الإجراءات الحكومية المُعلن عنها تفترض توفير أكثر من 100 ألف موطن شغل خلال الفترة القصيرة القادمة، بين القطاعين العام والخّاص. ولكن بين المُعلن عنه وبين حقيقة إمكانيات الدولة وقدرة الموازنات المالية الحاليّة بون شاسع قد يجعل من قرارات رئيس الحكومة ورطة سيكون من الصعب الخروج منها.

أولى الملاحظات المتعلّقة بقرارات الحكومة، تتمحور حول الانتدابات في القطاع العمومي، حيث بلغ مجموع ما تحدّث عنه رئيس الحكومة 23 ألف خلال هذه السنة، ليخصّ منهم 16 الفا لقطاعي الأمن والدفاع. هذا القرار لم يحظى بأي توضيح، حيث نصّت الأحكام المتعلّقة بميزانيّة سنة 2016 بانتداب 15915 صلب وزارات الداخليّة والدفاع والعدل. ايّ انّ مواطن الشغل التي تمّ الإعلان عنها في مجلس النوّاب لم تكن وليدة الأزمة الأخيرة بل تمّ برمجتها منذ نهاية السنة الفارطة.

النقطة الثانية تتعلّق بزيادة المنتدبين في القطاع العموميّ ب7000 موطن شغل جديد. وتكمن الاشكاليّة هنا في كيفيّة تمويل هذه الانتدابات الجديدة، حيث أعلنت الحكومة قبل أشهر عن عدم مقدرتها على استيعاب المزيد في الوظيفة العموميّة نظرا لثقل مناب الأجور البالغ 13000 مليون دينار سنة 2016، وهو ما يمثّل 70% من نفقات التصرّف الجمليّة ويستنزف 13,8% من الناتج المحليّ الإجمالي.

وبغضّ النظر عن الأعباء الجديدة للوظائف المستحدثة ومصادر تمويل تلك الأجور على المدى الطويل في ظلّ العجز المالي الذّي فاق 4% وارتفاع المديونيّة ب53% تقريبا من الناتج المحليّ الخام، فإنّ هذا القرار لم يأخذ بالحسبان مشاكل فائض اليد العاملة في المؤسّسات العموميّة وإدارات الدولة، ومدى نجاعة هذه الانتدابات الجديدة وملاءمتها لاحتياجات مختلف القطاعات.

أمّا بالنسبة لقرار تجنيد 30 ألف معطّل عن العمل ودمج أغلبهم بعد فترة التجنيد صلب قوات الجيش، فهي تبدو خطوة غير محسوبة بالمرّة نظرا للتكاليف الباهضة لرفع عدد القوات العاملة صلب وزارة الدفاع، حيث تبلغ ميزانيّة هذه الأخيرة 2294.824 مليون دينار أي 9% من ميزانيّة الدولة، وهو ما يعني ترفيعا جديدا وفجئيّا لميزانيّة هذه الوزارة على حساب قطاعات أخرى. من جهة أخرى وفي ظلّ غياب تفسير لمصدر الموارد التي ستمكّن الدولة من تنفيذ هذه القرارات، عدى التداين، فإنّ تطوّر موارد البلاد الذاتيّة لن يزيد حسب تقرير وزارة الماليّة عن 7% بقيمة جمليّة لن تتجاوز 1836 مليون دينار، وهو ما لن يفي بالالتزامات الجديدة بايّ شكل من الاشكال.

النقطة الثالثة، تتعلّق بتشجيع المبادرات الشخصيّة وإلغاء شرط التمويل الذاتيّ والضمان بالنسبة للقروض الصغرى لبعث المشاريع. تكمن المشكلة بالأساس في مدى قدرة الدورة الاقتصاديّة الحاليّة في ظلّ حالة الانكماش الاقتصاديّ وتراجع الاستهلاك إلى استيعاب الطفرة المنتظرة في المشاريع الصغرى. كما أنّ مسالة التخطيط والإحاطة بالباعثين الشبّان وتوجيه الاستثمارات الجديدة نحو تلبية متطلّبات السوق الحقيقيّة وضمان ديمومتها تظلّ معضلات لم يتمّ معالجتها أو الإشارة إليها في القرارات الأخيرة.

النقطة الأخيرة والمتعلّقة بقرار إجباريّة التكوين المهني للمنقطعين عن التعليم في المرحلة الابتدائية والاعدادية والثانوية. إذ لم يتم التطرّق لقدرة الدولة على ادماج أكثر من 300 ألف معطّل عن العمل من غير حاملي الشهادات العليا، فالفضاءات والمدارس التكوينيّة الحاليّة المقدّرة ب136 والتي تبلغ طاقة استيعابها القصوى سنويا 30 ألف مقعد. السؤال المطروح هنا حول كيفيّة تطوير طاقة الاستيعاب 10 مرّات خلال السنة الحاليّة، أو هل سيتمّ تقسيم المعنيّين على دفعات، أم ستلجأ الدولة إلى توجيه اعتمادات لانشاء مراكز تكوين جديدة، إضافة إلى ضرورة انتداب مئات من الإطارات التكوينيّة لتلبية الارتفاع الكبير المنتظر لطلبة المدارس التكوينيّة.

القطاع الخّاص وسياسة المجاراة

على صعيد الإجراءات المتعلّقة بالقطاع الخاصّ، فأبرز ما تناوله رئيس الحكومة كان الغاء آليات التشغيل الهشّ والاتفاق مع منظّمة الأعراف على توظيف 50 ألف معطّل خصوصا في الفضاءات التجاريّة الكبرى مع تحفيز المستثمرين على التوجّه نحو المناطق الداخليّة.

القطاع الخّاص يتحمّل المسؤوليّة الكبرى في تفاقم مشكلة التشغيل الهشّ على غرار آلية تربّص الاعداد للحياة المهنيّة SIVP والعقود محدّدة المدّة والتي وضعتها سلطات الإشراف بغية تشجيع الاستثمار والتخفيف من القيود الاجتماعيّة والأعباء الماليّة المرتبطة بالحقوق الاقتصاديّة لليد العاملة، حيث بلغت نسبة الشباب العاملين وفق الآليات الهشّة للتشغيل ما يفوق 60% من اليد العاملة النشيطة.

إعلان رئيس الحكومة إلغاء جميع تلك الآليات دون الرجوع إلى منظّمة الأعراف المعنيّة بالأمر، ودون تأكيد منها على موافقتها على هذه الخطوة واستعدادها لتسوية وضعيّة العاملين لديها وفق شروط وعقود مهنيّة، يضع مصداقيّة هذا القرار على المحكّ، خصوصا مع تمسّك الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة بموقفه الرافض لإضافة أعباء ماديّة جديدة على المؤسّسات الخاصّة وتعلّله بالظرف الاقتصاديّ الصعب، إضافة إلى موقفها الأخير المتشدّد حول الزيادات في أجور موظّفي وعملة القطاع الخاصّ.

النقطة الأخيرة في حزمة القرارات “العاجلة” للتخفيف من حالة الاحتقان ومعضلة البطالة، كان وعدا من رئيسة منظّمة الأعراف وداد بوشمّاوي لتشغيل 50 الفا من المعطّلين في الفضاءات التجاريّة الكبرى خصوصا في المناطق الداخليّة. هذا “الوعد” بين الحكومة ومنظّمة الأعراف يبدو متناقضا مع المواقف السابقة للمنظّمة التي طالما اشتكت من حالة الانكماش الاقتصاديّ، نظرا لعدّة عوامل على غرار مجلّة الاستثمار والمصالحة الجبائيّة وقانون المصالحة وغيرها من الشروط التي وضعتها سابقا منظّمة الأعراف “لإنقاذ تونس” وتوفير مواطن شغل تخفّف من تفاقم مشكلة البطالة.

الملاحظة الثانية تتعلّق بالتحفيز على الاستثمار في المناطق الداخليّة وتركيز الفضاءات التجاريّة الكبرى في تلك الجهات التي تعاني من النسبة الأكبر من المعطّلين على العمل، حيث يستحيل النهوض بالمناطق الداخليّة ودفع نسق الاستثمارات الخاصّة فيها دون معالجة الأسباب الكامنة وراء نفور المستثمرين منها وهي بالأساس ضعف البنى التحتيّة وغياب الخدمات الأساسيّة والمركزيّة المفرطة للثروة والأنشطة الاقتصاديّة. كما أنّ النسق التجاريّ والاقتصاديّ لتلك الجهات يتّسم المحدوديّة نظرا للظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة لأهاليها. وقد يعني ذلك الحكم بالفشل على أيّ مشروع استثماريّ ما لم توفّر له أسباب النجاح وخصوصا الرفع من النسق الاستهلاكيّ والمقدرة الشرائيّة للمواطنين في المناطق المستهدفة.

بعيدا عن الجوانب التقنيّة، والعوائق الاقتصاديّة التي تجعل من قرارات الحكومة الأخيرة حلقة جديدة من سلسلة الوعود وتسكين المشاكل بدل معالجتها، تكمن المشكلة الأساسيّة في سياسة التعاطي الرسميّة مع مشاكل البلاد الاقتصاديّة والسياسيّة الخاضعة دوما لمنطق ردّ الفعل بدل العمل على أخذ المبادرة ووضع البرامج والتصورات بعيدة المدى. فجُعبة رئاسة الحكومة ومنظّمة الأعراف التي استطاعت أن تتعهّد فجأة بتوفير 100 ألف موطن شغل خلال أشهر كانت خاوية طيلة الفترة الماضية أو مغلقة لو لم تعتصرها موجة الاحتجاجات التي هدّدت مناصبهم ومكاسبهم.