صورة لأحمد زروقي

هي في حقيقة الأمر جلسة مساءلة لرئيس مجلس النواب ورئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي لاتخاذه مواقف، يقول معارضوه أنها “ليست من صلاحياته وورّطت الدولة التونسية في سياسة المحاور الإقليمية”. وذلك في إشارة للمكالمة الهاتفية التي أجراها راشد الغنوشي مع فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المسيطرة على غرب ليبيا، وهنّئه فيها على سيطرة قواته على منطقة الوطية، المتنازع عليها مع قوات حفتر المسيطرة على الشرق الليبي.

سعت كتلة الدستوري الحر ورئيسته الظهور بمظهر قيادة التوجّه الذي يطالب بمساءلة راشد الغنوشي، واستثمار مبادرة كانت قد تقدمت بها منذ حوالي شهر، وهي “مشروع لائحة تهدف لإعلان رفض البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستيّة داخل التراب التونسي قصد تسهيل تنفيذ هذا التدخل، وذلك طبقا للفصل 141 من النظام الداخلي”. مشروع اللاّئحة التي تقدمت بها كتلة عبير موسي في صيغتها الأصلية ذكرت بالاسم رفض وإدانة التدخل القطري والتركي في ليبيا، الأمر الذي مثّل مبررا لكتل نيابية وأحزاب في تحالف مع حركة النهضة لعدم التصويت وتفادي حرج التماهي مع مواقف ممثلي النظام القديم. واعتبرت هذه الكتل أن “هذه اللائحة التي في ظاهرها تُدين الإصطفاف كانت تكرّس الإصطفاف إلى أطراف معيّنة دون أخرى، لأنها لم تذكر إلاّ قطر وتركيا وتجاهلت كل القوى الإقليمية والدولية الأخرى كالولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا والإمارات وغيرهم”. واشترطت ذكر كل الأطراف المتدخلة في ليبيا وإدانة تدخلها أو عدم ذكر أي طرف وإدانة التدخل الخارجي في ليبيا بشكل عام.

ماذا أراد التيار؟

لتفادي العزلة وللإمعان في إحراج راشد الغنوشي وحشد أغلبية برلمانية ضدّه، تنازلت كتلة الدستوري الحر عن التنصيص على كل من تركيا وقطر في اللّائحة، وذلك من خلال الاكتفاء بالإشارة إلى رفض التدخل الأجنبي في ليبيا دون تخصيص. هذا الموقف كان كافيا ومقبولا من كتل مثل قلب تونس وتحيا تونس والإصلاح وحتى حركة الشعب وكذلك بعض المستقلين. في حين تحفّظ نواب التيار الديمقراطي وهو موقف أثار جدلا كبيرا، باعتبار أن الحياد في مثل هذه المواقف ليس له أي مبرر في سياق لا معنى فيه إلا للرفض أو الموافقة.

ولكن لماذا امتنع التيار الديمقراطي عن التصويت لصالح اللاّئحة أو ضدّها؟ يقول هشام العجبوني رئيس الكتلة الديمقراطية على صفحته الرسمية فايسبوك في توضيح لموقف حزبه “وضّحنا بأن الكتلة الديمقراطية ترفض كل التدخّلات الأجنبية مهما كان مأتاها وأن سياسة الإصطفاف تضرّ بمصلحة تونس… بكل وضوح، نحن نُدين التدخّل التّركي العسكري في ليبيا ونعتبر أن تركيا لها نوايا “استعمارية” وتوسعيّة وتهدّد مصالحنا الإقتصادية مع الشقيقة ليبيا، تماما كغيرها من الأطراف الإقليمية والدولية!، تمّ إلغاء ذِكر أي بلد بطريقة مباشرة ولكن تمت إضافة جملة تُحيل إلى قرار للبرلمان العربي، وهذا القرار لا يُدين إلاّ التدخّل العسكري التّركي”.

اللائحة ونوايا الكتل..

ولكن ماذا تريد مختلف القوى السياسية في البرلمان في الحقيقة؟ هل الخوف على المصلحة الوطنية وسياسة تونس الخارجية هو فعلا ما كان يشغل النواب، وجعلهم يخوضون نقاشا وتشنّجا لمدة يوم ونصف، شهد كل أنواع السب والشتم والإهانة، أم أن هناك حسابات أخرى، وراء الشعارات واللوائح؟

كانت حسابات حركة النهضة السيطرة على مفاصل الدولة، وضع البرلمان تحت السيطرة من خلال أغلبية برلمانية تضم إلى جانبها كلا من ائتلاف الكرامة وقلب تونس، والرّقص مع الراعي والذئب في نفس الوقت: التلويح بالجزرة لنبيل القروي وبالعصا لإلياس الفخفاخ وجعله رهينا لرغباتها بوضع اليد الأخرى على القصبة. كما تسعى النهضة إلى فرض سياسة الأمر الواقع في علاقة بقصر قرطاج وذلك بمزيد قضم صلاحيات قيس سعيّد، وخاصة السياسة الخارجية، ومحاولة عزله دوليا، وحصر دوره في الاحتفال بالأعياد الوطنية والدينية.

في المقابل ترغب عبير موسي وحزبها الدستوري الحر في سحب قلب تونس من حضن راشد الغنّوشي، وتجميع أغلبية برلمانية حول إدانة مواقف الغنوشي فيما يتعلق بالملف الليبي في مرحلة أولى، والعمل على خلق تحالف برلماني ضد حركة النهضة وفرعها ائتلاف الكرامة، قد يتوصّل يوما إلى سحب الثقة من راشد الغنّوشي والتي ستكون إن حدثت ضربة قاصمة لحركة النهضة. وتسعى عبير موسي من خلال ذلك إلى أمرين أساسين الأول التطبيع مع مكوّنات المشهد السياسي والتنصّل من وصمة ممثلة النظام البائد، الذي جعل من حزبها شبهة لدى النخب بشكل خاص. أما الهدف الثاني فهو تغذية الاستقطاب الموجود بين الإسلام السياسي وبقية المكونات المدنية، ولعب الدور الذي لعبه الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس سنة 2014، لذلك تمعن في كل مناسبة في إذلال راشد الغنوشي وإهانته.

أما التيّار الديمقراطي فيرغب في جر حركة النهضة إلى التزام بتحالف حكومي دائم من خلال توقيع وثيقة ” الاستقرار والتضامن” والتي قد تمكّنه من تحقيق جزء من برنامجه الانتخابي والخروج من الحكم بأخف الإضرار. بدورها حسابات حركة الشعب كما حسابات التيار وباقي الحلفاء في الائتلاف الحكومي وهي النوم في نفس السرير مع الأفعى دون الاختناق بسمّها. حسابات كانت ساحتها السياسة الخارجية والصراع الدائر في ليبيا في الوقت الراهن، في انتظار ان تحتد في ملفات وقضايا أخرى في المستقبل القريب.

وفي الأثناء لا يفوّت رئيس الجمهورية الفرصة ليعلن أنه صاحب الرأي الفصل مثلما عبّر خلال الاتصال الهاتفي الذي جاء بعد انعقاد جلسة المسائلة البرلمانية بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث شدّد على أنّ “الحل لن يكون إلا ليبيّا- ليبيّا دون أي تدخل خارجي وأن تونس المتمسكة بسيادتها كتمسكها بسيادة ليبيا لن تكون جبهة خلفية لأي طرف” وليذكّر الجميع بأن حسابات الحقل غير حسابات البيدر.