الخلاف حول مبادرة الحوار لم يقتصر على مجرد خلفية المبادرة وغاياتها بل امتد ليشمل المسائل التي سيتم التفاوض حولها، وما إذا كانت ستقتصر على الملفات الاقتصادية والاجتماعية والتشغيلية أما أنها ستعود على السياق السياسي الذي أدى لتأزم أوضاع البلاد كمدخل لمعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

هذا النقاش المتعدد الخلفيات والأبعاد حول مبادرة اتحاد الشغل لم يضع الإصبع على أصل كل المشكلات والملفات التي أدت لإطلاق العديد من المبادرة والدعوات للحوار، ألا وهو مدى جدية واستحقاق الأطراف والرعاة المعنيين بالحوار الوطني، وما إذا كان هذا الحوار سيجد حلولا جذرية لمعاناة التونسيين منذ عشر سنوات من الثورة أم أنه سيقتصر على حلول مرحلية ومسكنات مثلما فعل الحوار الوطني في 2013 الذي لعب على ورقة التوافق وأوصلنا للحالة شبه الميئوس منها التي نعيشها اليوم.

دعوة اتحاد الشغل والحسابات السياسية

نسجا على منوال مجريات الحوار الوطني في سنة 2013، أطلق الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة للحوار “تتضمن توجهات اقتصادية واجتماعية وسياسية” عرضها الأمين العام للمنظمة نور الدين الطبوبي على رئيس الجمهورية قيس سعيد، وذلك بغاية الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعيشها البلاد. وعلى خلاف الظروف الأمنية والسياسية المشتعلة التي حفت بالحوار الوطني في 2013 وأهمها اغتيال القياديين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، تأتي مبادرة الاتحاد في ظل وضع اقتصادي صعب جدا وتضخم بلغ مستويات مرتفعة مقارنة بالسنوات الفارطة ليسجل ما نسبته 6.1 بالمائة، ونسبة بطالة تقدر بــ16.2 بالمائة (676.6 ألف عاطل) وتحركات إجتماعية متصاعدة بشكل غير مسبوقة متوزعة على العديد من جهات الجنوب والشمال الغربي (تطاوين، قفصة، قابس، القصرين، الكاف، باجة..) مطالب بالتنمية والتشغيل ونصيبها من الثروات الوطنية.

مبادرة الاتحاد، وبغض النظر عن غاياتها النبيلة المعلنة، والتي تهدف “إلى انقاذ تونس من الهاوية” حسب منطوق سامي الطاهري عضو المكتب التنفيذي للمنظمة، إلا أن “الطريق إلى الجحيم معبد بالنوايا الحسنة” ولا يكفي إطلاق مبادرة حتى تحظى بالقبول والترحيب من مختلف مكونات المشهد السياسي في تونس، إذ هنالك شروط ومتطلبات موضوعية وذاتية ربما تقلص من حظوظ هذا المبادرة.

هنالك العديد من التحديات، فبالرغم من أن المنظمة الشغيلة لا تزال قوة اجتماعية وازنة في البلاد ومن الصعب نجاح أي مسار حوار سياسي أو اجتماعي من دون الاتحاد، إلا أن اتحاد 2013 ليس هو ذاته اتحاد 2020، فالمنظمة تعرف انقاسما داخلها حول تعديل الفصل 20 ليصبح بإمكان قيادتها الترشح لأكثر من دورتين انتخابيتين، وقيادة الاتحاد التي أدارت الحوار الوطني في 2013 ليست قيادة الاتحاد في 2020. فالطبوبي متهم حاليا من قبل الإسلاميين (حركة النهضة، ائتلاف الكرامة..) بأنه منحاز لرئيس الجمهورية، مدللين على ذلك باصطفافه إلى جانب الرئيس قيس سعيد في معركته مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي ودعوته لإجراء استفتاء على النظام السياسي في شهر ماي الماضي على إثر لقاء جمعه برئيس الجمهورية وقتها في تناغم مع توجهات قيس سعيد وحملته “التفسيرية” التي نادى فيها بتغيير النظام السياسي القائم على عدم التوازن بين السلطات.

كما أن الاتحاد اشترط عدم مشاركة ائتلاف الكرامة في الحوار الوطني، حيث أوضح سامي الطاهري في تصريحات إذاعية أنه “لن يكون لدعاة العنف مكان في مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، وعلى حركة النهضة توضيح موقفها ممن يقدم نفسه على أنه باراشوكها”. هذا الشرط المسبق، بالرغم من معقوليّته، سيصعب المهمة أكثر على الاتحاد لأن حركة النهضة لن تقبل بسهولة التخلي عن أحد حلفائها لأنه سيضعف من موقفها إذا ما حصل توافق وطني حول المبادرة إلا في حالة حصولها على ضمانات معينة بأن صوتها في الحوار سيكون مؤثرا بحجم قيمتها وقيمة حليفها الذي سيتم إقصاؤه.

موقف رئاسة الجمهورية من المبادرة التي قدمها اتحاد الشغل لم يتضح بعد، ولكن تصريحات مديرة ديوان الرئيس نادية عكاشة في جلسة استماع مع البرلمان التي قالت فيها أن “رئاسة الجمهورية لديها مشكل مع الفساد والفاسدين” وبأنه “لا للتوافق مع الفاسدين ولا يمكن البناء والإصلاح معهم لأن النتيجة لن تتغير”. وهي إشارة غير مباشرة لحزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي المتهم في قضايا فساد مالي وتهرب وضريب وتبييض أموال، تضع تحديا جديا أمام مبادرة الاتحاد للحوار الوطني بعد اسقاط طرفين سياسيين لهما وزنهما في البرلمان. والأهم من ذلك أنهما الحليفين الرئيسيين لحركة النهضة المعنية بمبادرة الاتحاد، مما سيضعف، حسب مراقبين من موقفها في الحوار إذا ما نجحت المكونات السياسية والاجتماعية والمدنية في تونس القبول به والتوافق حول أهدافه.

وقد عبر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عن موقفه من هذه النقطة بالذات في حوار أجراه مؤخرا مع قناة الجزيرة القطرية عندما قال أن “الكلمة المفتاح في تونس هي الحوار الذي لا يستثني أحدا، ونحن ندعم جميع دعوات الحوار سواء التي دعا إليها رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو اتحاد الشغل أو بعض الأحزاب، أما المغالبة ومحاولة المرور بقوة فليس من أساليب تونس الثورة”. المقصود بعدم استثناء أي طرف في كلامه هو طبعا حليفيه البرلمانيين ائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس الذين أوصلاه لمقعد رئاسة البرلمان ولعب أحدهما دور كبش النطاح والممتص للصدمات، أو كما يلقبه الكثيرون بــ”الباراشوك”.

راشد الغنوشي رفقة حليفيه القروي ومخلوف ورئيس الحكومة

هذا الاشتراط الخارجي لإيجاد مقبولية ما لمبادرة الاتحاد للحوار وطنيا يعتبر تحديا آخر على نور الدين الطبوبي وباقي قيادات الاتحاد إدارته وإيجاد إجابات مقنعة له لدى باقي الشركاء والأطراف المعنيين بالحوار لأنه سيصعب أكثر من مهمة الاتحاد ويقلل من فرصها في النجاح، فطرح المبادرات من منظمات وطنية عريقة مثل اتحاد الشغل ليس مجرد تسجيل موقف وأداء للواجب للمرور بكل بساطة لما بعده من الأعمال والقرارات، لأن المسالة هنا تتعلق باستقرار البلاد وأمنها وحل مشاكل شعبها المتناثرة على امتداد رقعة الجمهورية.

لا بد من الإشارة كذلك في نفس السياق إلى نقطة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها، وهي طلب نور الدين الطبوبي من رئيس الجمهورية قيس سعيد بأن يكون هو المشرف والمترئس لهذا الحوار. مسألة من الصعب أن تمر بسهولة من بين يدي راشد الغنوشي الذي لم يضع فرصة إلا وسعى لمزاحمة قيس سعيد في صلاحياته عبر نشاطاته السياسية والدبلوماسية مع رؤساء ووزراء وبعثات دبلوماسية خارجية من صميم صلاحيات قيس سعيد، بل وحاول كثيرا تقزيمه والحط من شأنه على اعتبار أنه لا يستحق الموقع الموجود فيه.

وهذا في حد ذاته عامل آخر يمكن أن يعطل المبادرة لأن الغنوشي لن يقبل بأن يكون سعيد هو المشرف والمترئس للحوار حتى وإن عبر في أكثر من مناسبة “بأنهم حريصون على أن يكون (قيس سعيد) رمزا لوحدة الدولة وإرادتها” ، خصوصا وأن الغنوشي يخوض معركة كسر عظام داخل حزبه ويبحث بكل الوسائل عن تعزيز موقعه داخل البرلمان وعلى الساحة السياسية الوطنية حتى يدعم موقفه في المؤتمر القادم لحركة النهضة ويشارك فيه من موقع قوة ليقدر على التفاوض حول مستقبله في الحركة. وسيكون لموقعه من الحوار الوطني، إن حصل، مقابل موقع رئيس الجمهورية قيس سعيد تأثير على استراتيجيته في الهيمنة والتموقع داخل حزبه خلال وبعد مؤتمر الحركة القادم.

مآلات المبادرة والبدائل

دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل للحوار الوطني لأجل إخراج البلاد من عنق الزجاجات، الذي وضعتها فيه عشر سنوات من السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة للحكومات المتعاقبة منذ الثورة، بدءا بحكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة التي فتحت الباب على الاغتيالات بسياساتها الأمنية اللامسؤولة واللعب على اختراق كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، وصولا لحكومة الإدارة العاجزة التي يترأسها هشام المشيشي، لن تكون هذه الدعوة بحجم الرهانات التي وضعت لها مع وجود كل هذه التحديات والصعوبات الموضوعية والذاتية التي شرحناها سابقا.

وحتى لو فرضنا أنه تم تجاوز مختلف هذه الصعوبات والعراقيل اللوجستية والسياسية والخلافات بين الرئاسات الثلاث الذي من شأنه لوحده أن يعطل أي حوار سياسي حول مسائل جزئية فما بالك بمسائل وطنية اجتماعية، فإن تحديا آخر أعمق من سابقيه يهدد أي مبادرة لحوار وطني سواء جاءت من اتحاد الشغل أو من قصر قرطاج أو أي طرف حزبي أو اجتماعي آخر، فالبنى المؤسساتية والهيكلية للأحزاب الكبيرة والقديمة وصلت لمرحلة التفكك والترهل وفقد أنصارها ومنخرطيها قبل عموم المواطنين الثقة فيها.

الأحزاب والمنظمات الوطنية في حد ذاتها فقدت الثقة في بعضها ولم تعد هنالك أرضية مشتركة صلبة يمكن البناء عليها من خارج التحالفات الزمنية والبراغماتية بين مكونات برلمانية أو حزبية متناثرة. كما أن انعدام الثقة في الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والنقابيين تعمق ووصل حدا لم يعد بإمكان النظام والهياكل السياسية القديمة إصلاحه وترميم الثقة فيها مرة أخرى. وحتى الوسطاء المحايدون نسبيا و القادرون على إدارة الملفات الاجتماعية الثقيلة للحوار المفترض أمثال حسين العباسي لم يعد لهم حضور كالسابق. وقدر رأينا مآلات وثيقة قرطاج 1و2 التي وقع عليها اتحاد الشغل، إذ وإن استطاعت الأولى تحقيق أحد أهدافها بإقالة رئيس الحكومة الحبيب الصيد في 2016 إلا أنها لم تحقق أي من أهدافها الأخرى المتمثلة في كسب  الحرب على الإرهاب، وتسريع نسق النمو والتشغيل، ومقاومة الفساد، واستكمال تركيز المؤسسات الدستورية (المحكمة الدستورية)، كما أن الوثيقتان لم تنجحا لا في مقاومة الفساد الذي توسع واستشرى ولم تحقق غاياتها بتركيز المحكمة الدستورية لحد اليوم ولم يحصل ترفيع في نسق النمو والتشغيل بل تضاعفت أرقام العاطلين وتعطلت التنمية ولم تحقق سوى نجاح نسبي في محاربة الإرهاب.

ملاحظون يرون أن التفكير في مبادرة أخرى بديلة بعيدا عن أطراف الحوار الحزبية التقليدية وتطرح بدائل تنموية حقيقية جديدة أمر ممكن ومطلوب في السياق الاجتماعي الراهن، فـ“الإجراءات الإنمائية القائمة تعير نسبياً القليل من الاهتمام للحاجات الخاصّة التي تبديها المناطق المحرومة التي يعرقلها التهميشُ المركَّب”. وهذا التهميش المركب يتطلب بالأساس حلولا غير تقليدية من خارج صندوق الحلول الترقيعية المقولبة التي اجترتها الحكومات المتعاقبة بمركزية المنظومة السابقة للثورة والمتعالية على العوامل الموضوعية المحلية المحركة من حين لآخر للتحركات الاجتماعية في المناطق المهمشة.

إن أي حوار وطني لا يضع في الحسبان إستراتيجية تنموية نابعة من الحاجات الأساسية للجهات المحرومة والمطالب العقلانية للتحركات الاجتماعية الشبابية لن ينجو من الفخاخ التي تخلفها كل مقاربة زمنية وعاجلة للمشاكل المطروحة أمام المنظومة الحاكمة الحالية، وسيجعل من تجدد الاحتجاجات، بأكثر خطورة وعدميّة، هو البديل عن تلك المقاربة.