هيبة الدولة، إحترام القانون، السلم الإجتماعي أو حتّى الهدنة الإجتماعيّة، جميعها مصطلحات تكرّرت على مسامع المواطنين على لسان جميع الحكومات الإنتقاليّة المتتالية، تحت عنوانين الإستقرار وفرض النظام وإنهاء حالة الفوضى والإنفلات الأمنيّ.
ولكنّ ضحايا عودة الإستقرار وفرض الدولة لهيبتها لم يكونوا سوى شباب تصدّر المشهد طيلة أيّام الإنتفاضة ضدّ نظام بن عليّ و قبلها أو من خرج احتجاجا على تعامي الحكومات الانتقاليّة المتتالية على وضعيّة جهاته المهمّشة والمنسية. لتنطلق منذ الأشهر الأولى التي تلت خروج بن عليّ من البلاد عمليّة ممنهجة لمحاصرة الحراك الإجتماعيّ ومحاسبة شباب تجرأ على المسّ من هيبة الدولة عندما طالب بحقّه في الشغل و الحرية و الكرامة.
مبادرة “من حقيّ”: ردّة فعل على سياسة تجريم الحراك الاجتماعي
في فضاء “اللوح” وسط العاصمة التونسيّة، نظّمت الأطراف المكوّنة لمبادرة “من حقّي” لقاءا شبابيّا مفتوحا ضمّ العديد من مكوّنات المجتمع المدني بدءا بمنظّمات حقوقيّة وحركات شبابيّة ووجوه سياسيّة كالنائب نزار عمامي ومنظّمة اتحاد أصحاب الشهائد العليا المعطّلين عن العمل والإتحاد العام لطلبة تونس والعديد من الوجوه الشبابيّة التي كانت ضحيّة يوما ما للتضييق الأمني والتتبّع العدليّ على خلفيّة نشاطها السياسيّ أو انخراطها في الحراك الإجتماعيّ في أكثر من جهة.
وقد كان هدف هذا اللقاء فتح باب النقاش حول المبادرة وآليات عملها وأهدافها، بالإضافة إلى تجميع تواقيع المشاركين على عريضة لتغيير القوانين التي تستعملها السلطة للتضييق وإدانة المشاركين في التحرّكات الإحتجاجيّة أو من يحاول الوقوف في وجه النظام وكشف تجاوزاته، والتي من أهّمها الفصل المتعلّق بهضم جانب موّظف عمومي أو شبهه بالقبول أو بالإشارة أو بالتهديد حال مباشرته لوظيفته.
نواة بدورها كانت حاضرة لتسجّل هذا اللقاء ولتتحدّث إلى الأطراف المشاركة حول المبادرة وطبيعتها وأهدافها وخصوصا حول تعاطيها مع مفهوم هيبة الدولة ومصير الحراك الإجتماعيّ في المرحلة القادمة.
الثأر من الثورة
حملة “من حقيّ” لم تكن التحرّك الأوّل المناهض لتجريم الحراك الإجتماعيّ، حيث سبقتها حملة “حتى أنا حرقت مركز” التي انطلقت كتدوينة بسيطة في صفحات الفايسبوك لتتحوّل فيما بعد إلى حملة كبيرة شاركت فيها العديد من أطياف المجتمع المدنيّ للتصدّي للمحاكمات والتتبّعات العدليّة التي طالت الشباب المشارك في التحرّكات الإحتجاجيّة خلال الفترة الممتدّة بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011. خصوصا وقد إعترف الدستور الجديد للبلاد بالثورة وهو ما يسقط كلّ التهم المرتبطة بالحراك الثوريّ وعمليّات الإحتجاج ضدّ القمع الأمنيّ وممارسات نظام بن عليّ. وقد بلغ عدد الملّفات التي فتحت للتحقيق في شأنها مائة وخمسون حالة في ما بلغ عدد الموقوفين من الشباب ما يفوق الخمسين في حين بقي عدد آخر في حالة فرار وتفتيش.
وقد تناولت نواة في تحقيق سابق القائمات الإسميّة للشباب المهدّدين بالإيقاف أو الموقوفين فعلا بسبب تهم تتمحور بالأساس حول حرق المراكز أو الإعتداء على مسؤولين سابقين، كما تناولت في نفس التحقيق توزّعهم الجغرافيّ الذّي يتركّز بالأساس في ولايتي سيدي بوزيد والقصرين وقفصة وجربة وتونس العاصمة.
ولم تتوقّف هذه المحاكمة إلاّ بعد أن صادق المجلس الوطني التأسيسي على تعديل قانون العدالة الإنتقاليّة وبالتالي إسقاط جميع التهم المتعلّقة بالشباب المشارك في الحراك الثوريّ في الفترة التي سبقت هروب الرئيس السابق بن عليّ. “من حقيّ” تواصل إذا سياسة محاصرة الحراك الإجتماعي من قبل السلكات الأمنية و القضائية.
بعد طيّ صفحة الشباب المشارك في انتفاضة ديسمبر 2010، عادت الحملة الأمنية لتستعر في شهر ماي الفارط عبر إيقاف الناشط الطلاّبي خليفة نعمان على خلفيّة لقاءه بكاتب أرجنتينيّ تمّ ترحيله من تونس في عمليّة أشبه بالإختطاف، ومن قبله قضيّة التلميذ سامي فرحات الموقوف بسبب اتهامه بحرق مقرّ حركة النهضة خلال الاحتجاجات التي أعقبت إغتيال الشهيد شكري بلعيد، ومن ثمّ إيقاف الناشط عزيز عمامي وصديقه صبري بن ملوكة يوم 12 ماي 2014، لتتواصل عمليّات التعنيف والتنكيل بالمشاركين في التحرّكات الإحتجاجيّة التي اندلعت حينها تحت شعار “لا لدولة البوليس”، بعد أن أثارت الشعارات المرفوعة غضب رجال الشرطة الذّين اعتدوا على كلّ من تواجد في الشارع دون تمييز بالإضافة إلى الإيقافات العشوائيّة والإعتداء الجسديّ الذي طال العديد من المشاركين في التظاهرة كمظفّر العبيدي ووائل نوّار، ولم يسلم حتّى الصحفيّون الذين تعرّضوا للهرسلة وتمّ الاعتداء بالعنف على أحدهم وتحطيم معدّاته.
ويتواصل مسلسل التضييق الأمني على الحراك الإجتماعيّ عبر إيقاف مجموعة من الشباب وهم فريال شرف الدين ومهدي الغانمي وعادل بن غازي ومحمد زياد عمامي يوم 18 ماي بتهمة إفساد ممتلكات الغير إثر قيامهم بخطّ شعارات ثوريّة حائطية ومساندة لقضيّة جرحى وشهداء الثورة في الضاحية الشمالية للعاصمة. وقد تمّ تحويلهم إلى مركز شرطة المنار ومن ثمّ إلى مركز فندق الغلّة أين تمّ تحرير محاضر في حقّهم وإطلاق سراحهم في انتظار إعادة استدعاءهم من جديد للتحقيق.
وأخيرا وربّما ليس آخرا،ا محاكمة اليوم الخميس 25 ديسمبر لمجموعة من الشباب في المنستير على خلفيّة اتهامهم ب”أعمال حرق وتخريب” بقصيبة المديوني خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد ككلّ إثر إغتيال شكري بلعيد.
محاصرة الحراك الإجتماعيّ لم يقتصر على التضييق وإيقاف الناشطين المدنيّين والحقوقيّين، بل شمل التعامل العنيف مع الإحتجاجات ذات الطابع الإجتماعيّ والإقتصاديّ التي عرفتها البلاد خلال السنوات الأربع المنقضية، حيث تنافست الحكومات الانتقاليّة المتعاقبة في ممارسة أقصى درجات العنف والترهيب ضدّ أهالي المناطق الذّين خرجوا إلى الشارع للاحتجاج على أوضاعهم الاجتماعيّة والإقتصاديّة وتواصل سياسة التهميش والتفاوت الجهوي.
فتعدّدت الإنتهاكات وعمليّات التنكيل بالمحتجّين بدءا من اعتصام القصبة 1 والتعامل بوحشيّة مع الشباب الذّي حاول استكمال المسار الثوريّ بعد أن تفاجأ بتشكيلة أوّل حكومة بعد الثورة والتي ضمّت وجوها من النظام السابق، بالإضافة على التعامل العنيف مع المظاهرات المعارضة لتنصيب الباجي قايد السبسي خليفة لمحمد الغنّوشي في مارس 2011، لتليها خلال فترة حكم الترويكا عمليّات القمع الوحشيّة للمحتجّين في سليانة بواسطة “الرشّ” والذّي خلّف عاهات مستديمة لبعض المحتجّين من قبيل فقدان أحد العينين أو العمى التّام، كما سجّلت خلال تلك الفترة إنتهاكات أمنيّة خطيرة وممارسة العنف الشديد خلال فضّ مظاهرة المعطّلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا في 07 أفريل 2012 بشارع الحبيب بورقيبة وما تلاها من إحتجاجات يوم 9 أفريل من نفس السنة.
بالإضافة على جرح ما يزيد عن 65 متظاهرا ومقتل آخرين لعلّ أبرزهم محمّد المفتي خلال الإحتجاجات التي أعقبت إغتيال محمد البراهمي أو التنكيل بأهالي الصخيرة خلال موجة الإحتجاجات التي شهدتها تلك المدينة خلال شهر جوان الفارط للمطالبة بالتنمية والإحتجاج على سياسة التجاهل والتهميش التي تعاني منها المنطقة منذ عقود.
هيبة الدولة وكرامة المواطن
الذريعة الأساسيّة التي تمّ الإستناد إليها لمحاكمة شباب الثورة أو لملاحقة وإيقاف الشباب الذّي شارك في التحرّكات الإحتجاجيّة التي عرفتها البلاد في الفترة التي أعقبت 14 جانفي حتّى اليوم هي صون هيبة الدولة والحفاظ على “حقّها” وحرمة مؤسّساتها. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه وفق هذا المنطق، هل تتعارض هيبة الدولة مع حقّ المواطن في الكرامة وفي احترام حرمته الجسديّة وحقّه في الإختلاف والتعبير عن مواقفه والاحتجاج على ما يعتبره ظلما أو تجاهلا لحقوقه ومطالبه؟
السياق الذّي سارت فيه الأمور بعد 14 جانفي يثبت أن مفهوم هيبة الدولة في تونس لا يستقيم إلاّ بالدوس على كرامة المواطن وإلغاء حقّه في الإحتجاج والتعبير عن معارضته لسياسات الدولة أو أخطاءها. فحيثيات الإيقاف التي تعرّض لها الناشطون الحقوقيّون والتهمّ الملفقّة للشباب المشارك في الحراك الإجتماعيّ تثبت الطابع العقابيّ لهذه الممارسات ورغبة في ترهيب المواطنين من مغبّة اللجوء إلى حقّهم الدستوريّ في الإحتجاج والتظاهر. كما أنّ التعامل الأمنيّ مع التحرّكات الإحتجاجيّة واللجوء إلى العنف كردّ وحيد على التحرّكات الشعبيّة التي شهدتها أكثر من منطقة يبرهن على مفهوم هيبة الدولة في أذهان مسؤوليها، حيث تنبع الهيبة من الخوف لا من الإحترام والحوار والتواصل مع المواطنين.
مبادرة “من حقيّ”، هي خطوة جديدة من اجل أن تكون هيبة الشعب فوق هيبة مؤسّسات تستمدّ شرعيتها من الشعب وتحاول أن تبني سلطتها عليه عن طريق الخوف والترهيب. ويبقى الجدل قائما متى تُساءل الدولة على انتهاك هيبة وكرامة المواطن؟
iThere are no comments
Add yours