Chokri-Belaid-international2

رغم مرور ثلاث سنوات على اغتيال شكري بلعيد، الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد والقيادي بالجبهة الشعبية، مازال يُهيمن هذه الحادثة غموض خلّفه مسار التقاضي المُعقّد. تحت رُكام التفاصيل المتشعّبة اختَنق ملف الاغتيال وجُرِّد من مضامينه السياسية، ليتحوّل إلى مجموعة من الوقائع المزدحمة التي يصعب في بعض الأحيان رَبطها على نحو متناسق. ومن هذا المنطلق تعتبر العودة إلى مرحلة “ما قبل الاغتيال” من الأهمية بمكان، لأنها تسمح بوضع الحدث في سياقه التاريخي والاجتماعي، وتتيح إمكانيات فهم مغايرة لحقيقة ما حصل، خصوصا وأن السؤال الكبير مازال معلّقا، فهل أن الاغتيال كان قرارا داخليا اتخذته جماعة عقائدية في إطار التمكين لمشروعها الخاص أم أنه يندرج في مسار سياسي عام اتسم بتصادم المشاريع والإرادات؟

شرعنة العنف السياسي

شكّل حادث الاغتيال الذي جَدّ صبيحة 6 فيفري 2013 لحظة الذروة التي بلغتها الأزمة السياسية في البلاد، حيث خيّم شبح العنف السياسي على الحياة العامة أواخر سنة 2012 من خلال الدور الذي لعبته المجموعات العنيفة القريبة من حركة النهضة الحاكمة آنذاك. وقد بدأ هذا العنف يأخذ طابعا تصفويّا باغتيال لطفي نقض، المنسق الجهوي لحركة نداء تونس بتطاوين، يوم 17 أكتوبر 2012. ورغم أن هذه الحادثة تمت في واضح النهار فإن حركة النهضة لم تكتف فقط بعدم إدانتها وإنّما عبرت عن تضامنها مع الجناة، وذلك في بيان أصدره مجلس الشورى يوم 1 فيفري 2013 وجاء في إحدى نقاطه “يدعو المجلس إلى رفع المظلمة المسلّطة على المعتقلين من أبناء الحركة ورابطة حماية الثورة بتطاوين”.

في 4 ديمسبر 2012 تحرّكت مجموعات العنف المعروفة بـ”روابط حماية الثورة” وهاجمت المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل تزامنا مع الاحتفاء بالذكرى الستين لاغتيال الزعيم فرحات حشاد. وكان من المنتظر أن يؤدي هذا الهجوم إلى تنفيذ الإضراب العام يوم 13 ديسمبر 2012، إلا أن القيادة النقابية تراجعت عن هذا القرار. ولم تتخذ حركة النهضة موقفا إزاء هذه الاعتداءات وإنما اعتبرتها مجرد تبادل للعنف بين النقابيين ومتظاهرين طالبوا بالكف عن الإضرابات العشوائية. وقد فندت حركة النهضة تقرير الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اتهم فيه أنصار الحركة بالمشاركة في الاعتداءات، مشيرة في بيان لها إلى أن “الوثائق والأشرطة المرئية التي اطلعت عليها اللجنة لا تحتوى على أية إدانة لحركة النهضة، بل إن بعض مناضليها كانوا يقومون بالتهدئة”.

كانت استراتيجيا الرعب جزءا من المنهج السياسي الذي قاد حركة النهضة الحاكمة خصوصا بعد فشلها في ترويض الحركة الاجتماعية الناهضة وعَجزِها على ترميم التصدع الذي أصاب الائتلاف الحاكم بعد فشل مبادرة التحوير الوزاري أواخر سنة 2012، نظرا لأن الحركة الإسلامية لم تفلح آنذاك في اجتذاب جزء من المعارضة الديمقراطية إلى صفها على غرار الحزب الجمهوري وحزب التحالف الديمقراطي.

سمَحت هذه الاستراتيجيا بتوسيع مساحات العنف، وكان من المنتظر أن تستفيد منه الحركات الإسلامية المجاورة لحركة النهضة على غرار تنظيم “أنصار الشريعة” الذي كان يدفع نحو خيار التصادم بين الإسلاميين والمعارضات العلمانية. وفي هذا السياق عمدت مجموعة محسوبة على التيار السلفي إلى الاعتداء على الاجتماع الذي نظمه حزب الوطنيين الديمقراطيين يوم 2 فيفري 2013 بالكاف والذي حضره أمينه العام شكري بلعيد.

شيطنة الخيار الاجتماعي

حملة الشيطنة التي قادتها حركة النهضة ضد المناضل اليساري شكري بالعيد اندرجت في سياق الحراك الاجتماعي الذي عرفته البلاد في الأشهر الأخيرة من سنة 2012، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في أحداث سليانة التي انطلقت في 27 نوفمبر 2012، ورغم أن شكري بلعيد كان في زيارة إلى المغرب أثناء اندلاع الأحداث فقد تم اتهامه من قبل قادة حركة النهضة بالتحريض والدعوى إلى الفوضى، وقد قال عنه آنذاك وزير الداخلية علي العريّض “حيث وُجِد شكري بلعيد وحزبه إلا وكان يدعو إلى الفوضى والتخريب والتحريض ولا يعترف بالدولة ولا بشرعية السلطة”.

وفي نفس السياق اتهم الحبيب اللوز القيادي في حركة النهضة -في تصريح أدلى به لإحدى الإذاعات الخاصة- قيادات من الاتحاد العام التونسي للشغل ومن الجبهة الشعبية بإعطاء أموال للمتظاهرين في مدينة سليانة تزامنا مع اندلاع الأحداث، وفي ذات التصريح أقحَم الحبيب اللوز من جديد اسم شكري بلعيد واصفا إياه بـ”المرتزق والعميل للأجهزة الأمنية”.

وانسجاما مع مضمون الخطاب السياسي المناهض للحراك الاجتماعي نشط الخطاب الديني في المساجد لإدانة الإضرابات العمالية خصوصا أثناء الأزمة الحادة بين منظمة الشغالين والحركة الإسلامية الحاكمة بعد اعتداءات 4 ديسمبر 2012، وفي هذا السياق شهدت مدينة صفاقس يوم 8 ديسمبر 2012 مسيرة تزعمها الأئمة ورُفِعت فيها شعارات مناهضة للاتحاد العام التونسي للشغل. وقد رُوّجت في تلك الفترة العديد من الفتاوي المناهضة للحق النقابي من أشهرها فتوى الشيخ السلفي البشير بن حسن التي حرّم فيها المشاركة في الإضراب العام الذي لوح به الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 13 ديسمبر 2012.

ويبدو أن حركة النهضة سعت في تلك الفترة إلى الاستفادة من القدرات التعبوية للخطاب الديني لمقاومة الحركة الاجتماعية التي أظهرت إلى حد ما طابعها الجماهيري على غرار أحداث سليانة، وقد مثَّل اغتيال شكري بلعيد -في جوهره السياسي- ذروة التصادم بين المشروع الاجتماعي وبين الحركة الإسلامية التي تعاني من أزمة في إدارة الحكم نظرا لحفاظها على الخيارات الاقتصادية والاجتماعية القديمة.

الإغتيال يفرز صراعا جديدا

إن الاغتيالات السياسية تُقيَّم عادة بنتائجها السياسية الكبرى، ولعل اغتيال 6 فيفري 2013 أثّر بشكل ملفت للانتباه على الحياة العامة، إذ أصبحت المعادلة السياسية تنتظم داخل منطق الرعب والتخويف،  الأمر الذي جعل الصراع السياسي يتحول من التضاد بين مشروع ديمقراطي اجتماعي وبين مشروع إسلامي ليبرالي إلى تضاد من نوع جديد، يقوم على التصارع بين معارضة مدنية ذات توجهات سياسية حداثية وبين حكام إسلاميين يطمحون إلى أسلمة الدولة والمجتمع . وقد مهّد الاغتيال لصعود حزب حركة نداء تونس الذي لاحقته تهم الامتداد في حزب التجمع المنحل، واقتلع لأول مرة بعض الاعتراف من مؤسسات ما بعد 23 أكتوبر من خلال المشاركة يوم 15 أفريل 2013 في حوار دار الضيافة بقصر قرطاج الذي دعا إليه الرئيس المنصف المرزوقي.

وساهمت أحداث العنف والعمليات الإرهابية المتلاحقة، ومن بينها اغتيال محمد البراهمي في 25 جويلية 2013، في إذكاء هذا الصراع ودفعه نحو خلق حالة اصطفاف جديدة أرسلت بالمعطى الاجتماعي إلى الهامش، وقد تجلت بوضوح في اعتصام الرحيل بباردو الذي تلي اغتيال محمد البراهمي، حيث انقسم المشهد إلى حركة إسلامية مدعومة من بعض شركاءها في الحكم مقابل تجمّع واسع للمعارضات الديمقراطية عبرت عنه جبهة الإنقاذ التي ضمت أساسا حزب حركة نداء تونس والجبهة الشعبية.

ورغم أن الالتقاء التاريخي في باردو بين اليساريين والحزب الذي ينسب نفسه إلى العائلة الدستورية كان يقوم -في ظاهره- على التضاد مع مشروع الإسلام السياسي فإنه يبدو أن مسار التطور السياسي للبلاد كان يتشكل في مكان آخر، وهو ما ترجمه لقاء باريس الذي جمع الشيخين، الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي، وقد مثَّل هذا اللقاء لحظة مِفصليّة في الحياة السياسية، حيث مهَّد لتسوية العديد من الملفات من بينها تصفية قانون “تحصين الثورة” وإلغاء الإقصاء العمري لرئيس حركة نداء تونس، والأبرز من ذلك أنه شكَّل مقدمة للتحالف النهضوي-الندائي الذي يحكم البلاد اليوم.