chahed-arp
انطلقت صبيحة اليوم 18 نوفمبر 2016، الجلسة العامة للنظر في مشروع ميزانية الدولة ومشروع قانون المالية لسنة 2017. هذه المداولات التي بدأت بكلمة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد، ستستمرّ لأيّام، ستكون ربّما الأصعب في تاريخ البلاد، حيث يمثّل مشروع قانون المالية المطروح للنقاش محور الخلاف الرئيسي بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل منذ أكثر من شهر. وفيما سيشرع النواب في مناقشة أبواب الميزانيّة، فإنّ تبعات التصعيد المتبادل بين طرفي الخلاف سيلقي بضلاله على باردو، وقد يحدّد مسار العلاقة المستقبليّة بين حكومة تصرّ على تمرير “رؤيتها” وبرنامجها الاقتصاديّ ومنظّمة الشغيلة التي ترفض عزلها عن الشأن الاقتصاديّ وتوظيفها لإخماد الحرائق الاجتماعية عند الحاجة.

بين خطاب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، المصرّ على تمرير مشروع ميزانيته والالتزام بتوصيات صندوق النقد الدوليّ، وتهديدات الاتحاد العام التونسي للشغل باللجوء إلى الإضراب العام لإسقاط هذا المشروع، يبدو أنّ ميزانية سنة 2017 ستكون امتحانا صعبا لجميع الأطراف الاقتصاديّة والسياسية والاجتماعيّة في بلد تعوّد منذ أكثر من خمس سنوات على الشتاءات الساخنة.

الاتحاد العام التونسي للشغل يستبق خطاب يوسف الشاهد ويلوّح بالإضراب العام

آخر القرارات التصعيديّة التي اتخّذها الاتحاد العام التونسي للشغل وأعلنها في بيانه الصادر عن قسم الوظيفة العمومية يوم الخميس 17 نوفمبر 2016 تمثّلت في التلويح بالإضراب العام في أجل لا يتجاوز 08 ديسمبر 2016، والتحضير لتحرّكات عمّالية ونقابيّة في الجهات وفي ساحة القصبة وامام مجلس النوّاب خلال الأسبوع القادم من شهر نوفمبر. قرارات لم ينفها عضو المكتب التنفيذي سامي الطاهري خلال استضافته على قناة التاسعة في نفس اليوم، حيث اعتبر أنّ التصعيد نتيجة حتمية لاستمرار تعنّت الحكومة وتمسّكها بتأجيل تنفيذ الاتفاق الخاصّ بالزيادات في الأجور. وقد كان آخر لقاء جمع ممثّلي الاتحاد بنظرائهم من الحكومة صبيحة يوم الاربعاء 16 نوفمبر الجاري قد باء بالفشل وزاد في توتير الأجواء بين الطرفين. حيث تقدّمت الحكومة بمقترح ثالث يقضي بتأجيل الزيادات في الأجور إلى شهر أكتوبر 2017، بعد أن رفض الاتحاد سابقا مقترحين بتجميد الزيادات سنتين ومن ثمّ سنة.

اتّفاق قرطاج “المرّ”

الخلاف بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، بدأ منذ اللحظات الأولى لتنصيب يوسف الشاهد، حيث كشف خطابه أمام مجلس نواب الشعب لنيل الثقة عن الخطوات المقبلة لهذه الحكومة في علاقة بما يعرف ببرنامج الإصلاح الشامل لصندوق النقد الدولي، وتصفية القطاع العام. الاتحاد العام التونسي للشغل، الذّي أمضى اتفاق قرطاج، ودعم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، تفطّن للرسائل التي بعث بها رئيس الحكومة يوسف الشاهد وإمكانية تراجعه عن الإيفاء بالزيادة المقررّة للسنة المقبلة، إضافة إلى تحميله جزء كبيرا من الأزمة الاقتصادية للقطاع العام، ردّ بإصدار بيان في 27 أوت الماضي ليؤكد من خلاله تمسّكه بالمؤسّسات والمنشآت العمومية، ويحذّر من المساس بدورها وبوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية. كما رفض الاتحاد أن يدفع الشغّالون نتائج فشل الحكومات السابقة، مُبديا استعداده للوقوف ضد أي سياسة لتحميل الإجراء والفئات محدودة الدخل تبعات وأعباء إخفاقات السياسات المتبعة لعقود.

العلاقة المتوتّرة بين الطرفين والتي تجلّت في عدّة مناسبات على غرار بتروفاك وقضية جمنة والموقف من قانون دفع النمو الاقتصادي ومجلة الاستثمار، بلغت أقصاها مع الإعلان عن مشروع قانون المالية لسنة 2017 في 15 أكتوبر 2016، والتي تتضمّن تجميدا للزيادات المتفّق عليها في أجور موظّفي وعملة القطاع العام للضغط على كتلة الأجور. إجراء لم يمرّره الاتحاد العام التونسي للشغل، ليصدر بيانا شديدا اللهجة عبّر من خلاله عن رفضه المطلق لكلّ الإجراءات الخاصّة بالقطاع العمومي، وليوجّه اتهامات صريحة للحكومة بالانحراف عن التزاماتها التي حدّدتها وثيقة قرطاج وخضوعها لإملاءات صندوق النقد الدوليّ، داعيا منخرطيه للاستعداد والتجنّد للدفاع عن حقوقهم بكلّ الوسائل المشروعة. أمام إصرار الحكومة على المضي قدما في تجاهل تحذيرات الاتحاد العام التونسي للشغل، تفاقمت الأزمة وازدادت حالة التوتر والاحتقان لتبدأ سلسلة من التحرّكات النقابيّة منذ منتصف شهر أكتوبر الفارط في عدد من الجهات، بل وتوّجهت المنظّمة الشغيلة يوم 14 نوفمبر لصندوق النقد الدولي لتعلن رفضها لإملاءاته ووساطته لحلّ الأزمة بينه وبين الحكومة معتبرا إياه جزء من المشكلة نتيجة الضغوطات التي يمارسها على السلطات لفرض توصياته الخاصة بقطاع الوظيفة العمومية.

عضو المكتب التنفيذي سامي الطاهري، وإن اكّد على أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل لن يغلق باب الحوار فإنّه لن يرضى أن يتغاضى مرّة أخرى عن ممارسات الحكومة التّي بدأت منذ البداية بإغلاق باب الحوار بدأ بتجاهل التشاور مع الاتحاد بخصوص مشروع الميزانيّة وصولا إلى الانفراد بإعداد المؤتمر الدولي للاستثمار الذّي ستستضيفه تونس نهاية شهر نوفمبر. في إشارة إلى انّ التزامات اتفاق قرطاج “المرّة” لا تعني بأي شكل من الأشكال إغماض عين الاتحاد عن نويا الحكومة “التقشفيّة” أو القبول بتقديم التضحيات من طرف دون آخر.

خطاب يوسف الشاهد في مجلس النواب: الهروب إلى الأمام

تضمن جدول أعمال الجلسة العامة المخصّصة لمناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2017، الاستماع إلى بيان رئيس الحكومة الذّي افتتح الجلسة بخطاب كان من المنتظر أن يقدّم مخرجا للأزمة مع الاتحاد. يوسف الشاهد خيّب الانتظارات، بكلمة أطنب خلالها في اجترار شعارات خطابه الأوّل، وراوح خلالها بين استعراض إنجازات حكومته خلال 84 يوما والتذكير بخطورة الأزمة والقدرة على تجاوزها بالتضحيات التّي تحدّث عنها سابقا. رئيس الحكومة الذّي بدا مصرّا على صواب خياراته ونجاعة الإجراءات التّي تضمّنها مشروع قانون الميزانيّة، دفن رأسه في الرمال متجاهلا التصعيد من جانب المنظّمة النقابيّة، حيث لم يشر إلى الأزمة وإن بشكل عارض خلال كلمة استمرت قرابة 30 دقيقة. هذا التجاهل يعكس إصرار الفريق الحكومي على تنفيذ برنامجه للضغط على كتلة الأجور والاستجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي. أمّا بخصوص الإضراب العام المرتقب وسلسلة التحرّكات النقابية المنتظرة، فقد اعتبر وزير الحوكمة والوظيفة العمومية عبيد البريكي أنّ الحكومة لن تقدّم مقترحات أخرى وستمضي قدما في المصادقة على مشروع قانون المالية.

التمشيّ الحكوميّ لوضع مشروع قانون المالية بين أيدي النوّاب وعرضه للمداولة والمصادقة في الجلسة العامة، يراهن على سياسة وضع الجميع أمام الأمر الواقع، خصوصا وأنّ الأجل الدستوري للانتهاء من المصادقة على ميزانية سنة 2017 سيكون يوم 10 ديسمبر، وهو ما ينذر بتواصل حالة الاحتقان ودفع الأزمة إلى أقصاها مع تزايد ضغط صندوق النقد الدوليّ بخصوص تنفيذ برنامج إصلاحه الهيكلي ورفض الحكومة المطلق للحوار حول السبل البديلة للخروج من الدائرة المفرغة للمديونية وسياسة التسوّل.