بعد سلسلة من الاجتماعات التي فاقت 19 جلسة عمل للجنة الحقوق والحريّات والعلاقات الخارجيّة، تمّ إحالة مشروع قانون عدد 2016/41 يتعلق بالتبليغ عن الفساد وحماية المبلغين عنه إلى الجلسة العامة لمجلس نوّاب الشعب التي انعقدت صبيحة اليوم 21 فيفري 2017. مشروع القانون الذّي طال انتظاره مع تفاقم ظاهرة الفساد في القطاعين العمومي والخاصّ، لم يخل من هنّات عبّر عنها عديد النوّاب المتدخّلين خلال الجلسة العامّة الصباحيّة، مجمعين في أغلبهم أنّ جوهر القانون وعددا من فصوله تحمل بذور فشل جهود مقاومة الفساد، وأنّ ما يتوافر من آليات لا يمكّن من محاربة هذه المعضلة أو حماية المبلّغين عنها.
الفصل 15 من مشروع قانون حماية المبلّغين: اقصاء المجتمع المدني وتضييق قنوات التبليغ
قبل إحالة مشروع القانون عدد 2016/41 المتعلق بالتبليغ عن الفساد وحماية المبلغين عنه على الجلسة العامّة، أفضت النقاشات بين الحكومة ولجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجيّة على إسقاط الفصل 15 من مشروع القانون الذّي ينصّ على:
مع مراعاة أحكام الفصل 11 من هذا القانون، يمكن للمبلّغ عن الفساد اللجوء إلى وسائل الإعلام للتبليغ عن شبهات فساد في صورة تجاهل تبليغاته بعد استيفاء جميع المراحل والآجال لدى الهيكل الإداري المختص والهيئة باستثناء حالة التهديد الخطير والمتأكد للصحة أو السلامة العامة التي يمكن بخصوصها، اللجوء مباشرة إلى وسائل الإعلام.
خطوة ثبّتها الفصل الخامس من الصيغة المعدّلة لمشروع القانون المذكور والذّي نصّ على:
على كاشف الفساد أن یوجّه الإبلاغ عن الفساد وجوبا للهيئة (هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد) التي عليها أن تتخذ التدابير الضامنة لحمایة هويّته
التعديل “التوافقي” يعني بشكل مباشر إقصاء منظّمات المجتمع المدني والإعلام البديل الذّي سبق الهيئة الدستورية في كشف الفساد وملفّات التلاعب بالمال العام. خطوة لا تشذّ عن سياق متواصل لمحاصرة القنوات البديلة التي ازداد حضورها بعد جانفي 2011، وتعاظم دورها في التعاطي مع ملفّات الفساد أو السياسة العامة للدولة على الصعيد الداخلي والخارجي والانتهاكات المرتبطة بالحقوق الأساسيّة للمواطن. السياسة الحكومية القائمة على حصر مكافحة الفساد ضمن قناة وحيدة تمرّ وجوبا عبر هيئات تخضع لإشرافها (تسمية العميد شوقي الطبيب من قبل رئيس الحكومة حبيب الصيد) سبق وأن تمظهرت بشكل جليّ من خلال المنشور عدد 4 الصادر بتاريخ 16 جانفي 2017 عن رئيس الحكومة والقاضي بإلزام الموظّفين العموميّين بالإمتناع عن الإدلاء بأي تصريح أو مداخلة وعن نشر أو إفشاء معلومات آو وثائق رسمية، عن طريق الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام، حول مواضيع تهم وظيفتهم أو الهيكل العمومي الذي يعملون به، دون الإذن المسبق والصريح من الرئيس المباشر. خطوة استنكرتها منظّمات المجتمع المدني ونقابة الصحفيّين وتحرّك على إثرها الاتحاد العام التونسي للشغل الذّي طالب الحكومة بمراجعة قرارها معتبرا المنشور “سعيا للمساس من حرّية الإعلام ومؤشّرا على التضييق على مجالات تحرّكه” و”يتعارض تعارضا كلّيا مع فصول الدستور الضامنة لحرية الإعلام وللحقّ في النفاذ إلى المعلومة”.
لا قيمة للقانون دون إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد
عدى الديباجات المنمّقة لعدد من نوّاب التحالف الحاكم المحتفين بمشروع القانون المذكور بإعتباره تتويجا لجهود مكافحة الفساد، كشفت مداخلات باقي نوّاب المعارضة من مختلف التيّارات السياسيّة عن أوجه قصور وهنّات عديدة في فصول مشروع قانون التبليغ عن الفساد وحماية المبلّغين عنه.
المتدخّلون من معارضي هذا المشروع، أجمعوا في جلّ كلماتهم على غياب الإرادة السياسيّة لمحاربة الفساد، خصوصا وأنّ تاريخ المجلس شهد مشاريع قوانين سابقة تكرّس الفساد والتلاعب بالمال العام وآخرها مشروع السكن الأوّل الذّي يهدف في جوهره إلى إنقاذ “مافيا” القطاع العقّاري على حساب الخزينة العموميّة. الانتقدات لم تتوقّف عند هذا الحدّ، حيث أشار عدد من النوّاب كحسونة الناصفي (حركة مشروع تونس) إلى أنّه كان من الاجدر تركيز الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة قبل النظر في مشروع قانون الإبلاغ عن الفساد، متسائلا عن الدافع الحقيقي من تأخير إحالة مشروع القانون المتعلق بإحداث الهيئة. في ذات السياق، اعتبر عدد من النوّاب على غرار عبد المؤمن بلعانس (حزب العمّال) أنّ شبهات كثيرة تحيط بتأخير طرح عدد من مشاريع القوانين ذات الصلة على غرار قانون مكافحة الإثراء الغير مشروع وهو ما يؤثّر على فاعليّة القانون المطروح ويجعل منه حبرا على ورق.
بعض المتدخّلين كالنائبة سامية عبّو (التيّار الديمقراطي) اعتبرت أنّ مشروع قانون التبليغ عن الفساد يعاني من ثغرة دستورية تتمثّل في حرمان الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من صلاحيات التقصي والتحقيق. كما أشارت هذه الأخيرة إلى ارتباط تتبّع ملفات الفساد بوجوب كشف هويّة المبلّغ يحيد بالقانون عن جوهره كما جاء في الفصلين 10 و12. وشدّدت النائبة عبّو على أنّ الهيكل الإداري لن يكون له نفس الإمكانيات التي تمتلكها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وهو ما يعني تفاوتا هائلا في القدرة على التعاطي مع ملفّات افساد.
من جهة أخرى، أكّد النائب فيصل التبّيني (حزب صوت الفلاحين) أنّ مشروع القانون محكوم عليه بالفشل نظرا لتضارب المناخ السياسي وتركيبة الحكومة التي تظمّ وزراء تتعلّق بهم شبهة فساد وجوهر مشروع القانون، ليذكّر بالمنشور القاضي بمنع الموظّفين الحكوميّين من التصريح للصحافة وغياب الإرادة السياسيّة لمكافحة الفساد.
أمّا النائب غازي الشوّاشي (حزب التيار الديمقراطي) فاعتبر أنّ قانون الإبلاغ عن الفساد جاء لحماية المبلّغ عنهم والفاسدين وتخويف المبلّغين أكثر من حمايتهم ليضيف أنّ مشروع القانون موضوع النقاش في ظاهره يكافح الفساد وفي باطنه يحمي المفسدين، مؤكّدا أنّ الحكومة ستكون عاجزة عن مكافحة الفساد ما دامت خاضعة لضغط اللوبيات في الداخل والخارج ومسلوبة من قرارها السياسيّ المستقّل.
مكافحة الفساد: بطؤ في خلق الآليات وتفوّق الفضاءات البديلة
منذ ظهور أولى القوانين التي عملت على حماية كاشفي الفساد تحت عنوان قانون المزاعم الكاذبة الأمريكي سنة 1863، يُطرح اليوم 21 فيفري 2017، في الجلسة العامة لمجلس النوّاب أوّل مشروع قانون تونسي يتعلّق بالتبليغ عن الفاسدين و”حماية” المبلّغين. آلية قانونية ظلّت حبيسة الدعوات والنقاشات من مختلف الأطراف السياسيّة ومنظّمات المجتمع المدني منذ جانفي 2011، رغم أنّ الإطاحة بنظام بن علي عرّى حجم الفساد الذّي كان ينخر أجهزة الدولة في كلّ مستوياتها. سؤال طرحه أكثر من نائب خلال الجلسة العامة دون إجابة واضحة، ولم تُقدم حكومة يوسف الشاهد على إيداعه إلا بعد 7 أشهر من تولّيها زمام الأمور، بعد أن كانت ترفع شعار مكافحة الفساد كأولويّة قصوى خلال جلسة تنصيبها.
جاء إصدار المرسوم عدد 120 بتاريخ 14 نوفمبر 2011، القاضي بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كخطوة تكميلية لعمل اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد والتي ارتكز دورها على دراسة وقائع الفساد التي شهدتها البلاد خلال فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي. الهيئة المستحدثة ككيان قار لاستكمال جهود مكافحة الفساد إثر انتهاء الفترة الانتقالية الأولى، أسندت إليها مهمّة تحليل أسباب ظاهرة الفساد ووضع برامج لمكافحتها إضافة إلى التنسيق بين مختلف الهياكل القائمة والبحث في الشكاوى والعرائض والتبليغات التي ترفع إليها. تحت إدارة عبد الفتّاح عمر مرورا بسمير العنّابي انتهاء بشوقي الطبيب الذّي تمّ تعيينه من قبل رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد على رأس هذه الهيئة منذ 06 جانفي 2016، عمل هذا الهيكل على متابعة حالات الفساد والتعهّد بالملفّات المدروسة إلى القضاء التونسي، رغم الشكاوي المتكرّرة من ضخامة حجم الملفّات المقدّمة وتزايدها بشكل متسارع طوال السنوات الماضية. استفحال الظاهرة أكّده التقرير السنوي لمؤشر الفساد في العالم الصادر عن منظّمة الشفافية الدوليّة لسنة 2016، والذّي كشف تراجع تصنيف تونس من المرتبة 73 سنة 2011 إلى المرتبة 75 في السنة الفارطة. عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ظلّ نسبيا خارج دائرة الضوء مع تباطؤ الإجراءات القانونية في التعاطي مع الملفات المحالة على المحاكم المختصّة وتفوّق ما القنوات البديلة المتمثّلة في عدد من وسائل الاعلام ومنظّمات المجتمع المدني في الكشف عن التجاوزات وحالات فساد طالت القطاعين العام والخاصّ.
iThere are no comments
Add yours