بعد انتفاضة مدينة الرديّف سنة 2008 ضدّ نظام بن عليّ، ورغم قلّة الصور والمقاطع المصوّرة التي تسرّبت عن المواجهات بين الأهالي حينها وشتّى أصناف القوّات الحاملة للسلاح، تحوّلت هذه المدينة في المخيال الشعبي إلى أحد رموز الثورة على غرار سيدي بوزيد وبن قردان وغيرها من المدن التي شكّلت صورها وخطّت تاريخها بالدمّ والمواجهات مع منظومة كرّست تفقيرها الممنهج وركنتها على هوامش شريط الثروة والسلطة.

بعد تسع سنوات من تلك الانتفاضة التي مثّلت أولى الضربات القاسية للنظام السابق، بدت الرديّف منهكة، جافّة ومعزولة أكثر وراء تلال الفسفاط المخزّن على مشارفها ليلفّها بسواد يعكس كارثيّة الوضع البيئي والصحيّ في هذه المدينة المنكوبة. لكنّ التلوّث والغبار السام الذّي يتسلّل يوميّا إلى رئات متساكنيها لم يكن الهمّ الأوّل لأهالي الرديّف، بل وجدنا المدينة على شفا إضراب عام -ألغي في اللحظات الأخيرة- احتجاجا على العطش الذّي تحوّل إلى هاجس فاقم من معاناة هذه المدينة الصحراويّة التي يعطش أهلها ليُغسل الفسفاط ويكدّس قرب أحيائهم غبارا يسمّم أنفاسهم.

حيّ العمايدة: ربوة شاهدة على قسوة الجغرافيا وظلم المنظومة

بدءا من الطريق الترابيّ، مرورا بالمساكن البسيطة التي بُنيت كيفما اتفق، انتهاء بوجوه المتساكنين التي تعكس خليطا من التعب والغضب والعطش إلى أمل بانتهاء معاناتهم اليوميّة من أجل رشفة ماء، تشي كلّ هذه التفاصيل بواقع منطقة العمايدة التابعة لحيّ سيدي عبد القادر المشرف على مدينة الرديّف من ربوة تعيش منذ سنوات حالة من الجفاف المزمن وانقطاع المياه الصالحة للشراب.

الماء هنا لا ينقطع لساعات أو لأيّام، بل يستمرّ طيلة أسابيع، خصوصا في فصل الصيف، فإمّا أن تكون قادرا على تدبّر بعض المال لشراء صهريج من المياه أو انتظر رحمة أحد الجيران.

هكذا استهلّ أحد متساكني العمايدة حديثه إلينا ليلخّص كيفيّة تزوّد الأهالي بالماء. فالبئر الوحيدة التي تستعملها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لا تكفي لسدّ حاجيات جميع أحياء الرديّف، كما ساهم الموقع المرتفع لحيّ سيدي عبد القادر في تعسير وصول الماء لحنفيات المتساكنين. هؤلاء يلجؤون إلى اقتسام تكاليف شراء صهاريج المياه الصالح للشراب، في حيّ هو الأفقر من بين أحياء الرديّف، لتزداد أعباؤهم المالية بتكاليف إضافية للبقاء على قيد الحياة. غير بعيد عن هذا الحيّ، يوضّح مدير معهد سيدي عبد القادر، عبد العزيز الطبابي أنّ السلط الجهويّة على علم تام بمعاناة التلاميذ نتيجة انقطاع الماء وتعطّل الكثير من الأنشطة، إلاّ أنّها لا تحرّك ساكنا. وضع أكّده تلميذان ماران بالمكان تحدّثنا بخجل عن البؤس اليوميّ الذّي يعايشونه في معهدهم نتيجة انعدام المياه الصالحة للشراب واضطراراهم للاغتسال والشرب من قنينات يجلبونها وإياهم من بيوتهم ويقتصدون في استهلاكها حتّى لا يقعوا ضحيّة العطش خلال ساعات الدراسة الطويلة.

يشرح مهدي الخليفي قسوة الوضع مشيرا إلى انّ اللحظات القليلة التي يُضخّ فيها الماء على الحيّ، يتم استغلالها لتنظيف المساكن أو غسيل الأمتعة، فحتّى مع وجود الماء يكون شربه مستحيلا نظرا لتلوثّه بتراكم الأوساخ في قنوات الامداد بعد فترات الانقطاع الطويلة. أمّا عن أهمّ أسباب انقطاع الماء، فيؤكّد الناشط السياسي وأحد منظّمي حملة “متخلصش الماء”، غانم الشرايطي أنّ شركة فسفاط قفصة تستنزف الثروة المائية للمدينة بتعمّدها غسل الفسفاط بالماء الصلح للشراب في مخالفة واضحة لم تحرّك لها السلطات ساكنا. معلومة أكذدها لنا رابح بن عثمان، ممثّل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الجهة، ليضيف أنّ إضرار الشركة المذكورة لا يقتصر على استنزاف الماء في عمليات غسل الفسفاط، بل  يتمّ تصريف الماء الملوّث على مقربة من آبار المياه الجوفية ممّا يتسبّب في تلويثها وحرمان المدينة من استغلالها.

عندما وصلنا الرديّف كانت المنظّمات النقابيّة في الجهة وسلط الاشراف المعنية بقضية انقطاع المياه، قد توصّلت إلى اتفاق لإلغاء الإضراب العام المقرّر ليوم الخميس 16 مارس الفارط، مقابل تدخّل شركة فسفاط قفصة في الرديّف وضخّ الماء من آبارها الخاصّة لسدّ العجز، لكن الأهالي هناك لم يتجرؤوا على شرب تلك المياه وهم شاهدون على موت أشجار سقيت سابقا من تلك الآبار، ليستمرّ الوضع على ما عليه، تحالف الفقر والعطش ومحاولة استلال الحياة عنوة من فكيّ طبيعة قاسية ومنظومة عمياء.

العطش يوحّد الجميع والضغط يجبر السلطة على خلق البدائل

على غرار سجنان، القيروان، باجة، جندوبة، دوز والقصرين، لم تكن ولاية قفصة في منأى عن هاجس العطش الذّي تفاقم منذ سنوات ليزيد من معاناة هذه الجهات التي تتذيّل سلّم المؤشّرات الاقتصاديّة والتنموية. فولاية قفصة تصدّرت قائمة الولايات التي شهدت أعلى نسب انقطاع الماء الصالح للشراب خلال صائفة سنة 2016، لتبلغ في الفترة الفاصلة بين شهري جوان وجويليّة 30 حالة انقطاع في مختلف مدن الحوض المنجميّ حسب المرصد التونسي للماء.

على المستوى المحليّ، سجّلت مدينة الرديّف أعلى نسبة لانقطاع الماء الصالح للشراب، إذ تجفّ الحنفيّات لأسابيع طوال، دون سابق إنذار ودون توفير حلول بديلة للمواطنين الذّي ينتمي أغلبهم إلى الفئات الاجتماعيّة الأكثر فقرا وهشاشة.

استمرار الصمم الإرادوي للسلطات الجهويّة، دفع أهالي المدينة إلى خيار التصعيد بإعلان الإضراب العام يوم 16 مارس 2017. خطوة شاركت فيها النقابات والنيابات الاساسية للاتحاد المحلي للشغل والاتحاد المحلي للصناعة والتجارة إضافة إلى حملة “متخلصشي الماء” لتكون خاتمة لسلسلة من التحرّكات الاحتجاجيّة التي انطلقت منذ سنة 2015 مع تفاقم وتيرة انقطاع المياه، لتصل ذروتها خلال الشهر الفارط. الحراك الاجتماعي الذّي تكثّف خلال شهر فيفري المنقضي، تنوّع بين إيقاف شاحنات الفسفاط في العاشر من ذلك الشهر مرورا بتنفيذ وقفات احتجاجيّة أمام مقرّ البلدية والمعتمدية والشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه لتشهد مدينة الرديّف في 23 فيفري 2017، مسيرة أفضت إلى توحيد جميع مكوّنات المجتمع المدني في الجهة وإعلان الإضراب العام. البيان المشترك الصادر عن الاتحاد المحلّي للشغل والاتحاد المحلي للصناعة والتجارة في الثاني من مارس الجاري، ارجع هذا التصعيد بتواصل سياسة التجاهل والمماطلة من قبل السلط الجهويّة التّي صمّت آذانها عن سلسلة التحرّكات الشعبيّة والنقابيّة التي شهدتها الجهة طوال الأشهر الفارطة.

الردّ الرسميّ من سلط الإشراف كان التجاهل والاستخفاف بالتحرّك المعلن منتصف شهر مارس، إلاّ أنّ جديّة التحضيرات أجبرتها في النهاية على التفاوض وإيجاد بدائل تلبّي وقتيا حاجيات السكّان من الماء ليتمّ إلغاء الإضراب في ساعة متأخّرة من مساء يوم الثلاثاء 14 مارس 2017.

الاتفاق الأخير الذّي سبق موعد الإضراب بأقلّ من 48 ساعة، حمل وعودا كثيرة تضمّنت إصلاح البنية التحتية المتهالكة لمنظومة توزيع المياه وحفر آبار جديدة لسدّ عجز الشركة التونسيّة لاستغلال وتوزيع المياه وتوسيع قنوات الضخّ وتكفّل شركة فسفاط قفصة بدعم إمدادات الماء الصالح للشراب. لكنّ أهالي العمايدة الذّين كانوا الأكثر تضرّرا من أزمة العطش، لا يبدون واثقين من جديّة هذه الوعود، فمعظم من تحدّثنا إليهم أكّدوا لنا أنّ هذه الحلول ليست سوى مناورة لتنفيس حالة الإحتقان وهدنة لروي الظمأ بانتظار جولة جديدة، فهذه المدينة اعتادت هبّات الغضب كما اعتادت خيبات الأمل.