“نُرجئ تسديد الشغور إلى ما بعد التوافق بين رؤساء الكتل، ونواصل جلسة الغد للنظر في مشروع قانون المصالحة. تُرفع الجلسة على هذا الأساس!” هكذا اختتم رئيس مجلس نوّاب الشعب محمّد الناصر، يوم الثلاثاء الفارط الجلسة العامّة المُخصّصة للتصويت لسدّ الشغور صلب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وقد مثّلت هذه الجلسة النقطة الأولى ضمن جدول أعمال التأمت على ضوئه الدورة الاستثنائية للمجلس. إذ لم تكلّل عديد المحاولات لعقد هذه الدورة بالنجاح إلاّ في الآجال الأخيرة لدعوة الناخبين للاقتراع العامّ وإثر توافق بين أحزاب الأغلبية الحاكمة حول جدول أعمال واضح يتضمّن سدّ الشغور في هيئة الانتخابات والمصادقة على مشروع قانون المصالحة. هذا التوفُّق في الوصول إلى الجلسة العامّة لسدّ الشغور، لم يُسعفه توافُق بين رؤساء الكتل على المرشّحين ممّا أجّل عملية التصويت مرّة أخرى إلى أجل غير معلوم.

تجدُر الإشارة أنّ نفس السيناريو سبق وانتهت عليه الدورة العاديّة الثالثة يوم السبت 29 جويلية الفارط، وهو ما يؤكّد عمليّة مُمنهجة تُحاك خارج المجلس وداخله لضرب الدستور والهياكل المنبثقة عنه، وتراجُعا بيّنا عبر بوّابة السلطة التشريعية عن مسار الانتقال الديمقراطي الذي يبدو متعثّرا حتى هذه اللحظة.

تحوّلت الجلسة العامّة يوم الاثنين إلى مسرح لتبادل الاتهامات بين الكتل. إذ لم يتراجع النوّاب في مداخلاتهم عن تحميل المسؤولية والتصريح بوجود نوايا لتعطيل عملية ترميم هيئة الانتخابات. الحاضرون اتهموا الغائبين والغائبون برّروا غيابهم بانعدام إجماع بين رؤساء الكتل خلال إجتماع توافقات عُقد ما قبل الجلسة العامّة. لكن لم يندّد الحاضرون والغائبون في نفس الوقت بتعسّفهم على المسار التشريعي عبر اعتمادهم آلية التوافقات التي أصبحت لا مفرّ منها داخل المجلس ولم يدينوا غياباتهم الجماعية التي تحوّلت إلى علّة مزمنة تُعيق على مرأى الجميع سيرورة العمل التشريعي.

أشار نور الدين البحيري، رئيس كتلة حركة النهضة، إلى أهمية استكمال تركيبة الهيئة متمسّكا أنّ هذه الأولوية “بعيدة عن أي قرار سياسي يخصّ تأجيل موعد الانتخابات أو الإبقاء عليه” إلاّ أنّه وكتلته التي كانت حاضرة بنسبة 91 بالمائة (63 نائبا من إجمالي 69) يتحمّلون مسؤولية مباشرة نظرا لانخراطهم في لعبة التوافقات الحزبية. نوّاب المعارضة أشاروا في أغلب مداخلاتهم إلى هذا الصراع الضيّق بين كتلتي الأغلبية والذي لا يسفر عن أي أفق، حيث صرّح النائب عن الجبهة الشعبية، شفيق العيّادي، أنّ “النداء باع وهم الانتخابات البلدية للنهضة مقابل تمرير قانون المصالحة وهو غير جاهز للانتخابات ويتعمّد تعطيلها” مضيفا أنّ “الجميع يعلم أنّه لا يمكن ترميم هيئة الانتخابات في ظلّ غياب الاتفاق السياسي“. رغم كلّ هذا، تعمّد سفيان طوبال رئيس كتلة نداء تونس، تحميل المعارضة جزء من المسؤولية. إلاّ أنّ هذه الأخيرة لضعفها عددا وسلطة تحوّلت اليوم إلى مجرّد صوت غير فاعل في مجريات التشريع.

من جهة أخرى، نبّه عدد من النوّاب إلى عمليّة التجديد الآلي لثلث أعضاء مجلس الهيئة، التي كان من المتوقّع إجراءها في جانفي 2018. ويتقاطع هذا التجديد مع الشغور الناجم عن استقالة الأعضاء الثلاث خلال هذه السنة ممّا وضع الهيئة إزاء فراغ تشريعي مزدوج، الأوّل متعلّق بسدّ الشغور والثاني يخصّ التجديد الآلي للأعضاء الثلاث. في نفس السياق، تدخّل النائب عن كتلة الحرّة حسونة الناصفي للتذكير بأنّ “هذه الجلسة العامّة كانت فرصة أخيرة بالنسبة لصنف القضاة الإداريين نظرا لأنّه سبق أن تمّ التصويت على نفس الصنف في ثلاث دورات سابقة” مشيرا إلى خطورة تبعات التأجيل مرّة أخرى والذي -حسب تعبيره- “سيكلّفنا هذه المرّة أشهرا وليس ساعات“.

في المقابل، لم يتردّد عبد العزيز القطّي، النائب عن كتلة غير المنتمين، في تحميل مسؤولية الأزمة لهيئة الانتخابات معتبرا أنّ المجلس “لا يد له في الاستقالة“، واصفا ما يقوم به أعضاء الهيئة، على رأسهم نبيل بفّون، بـ”التصريحات السياسية التي تعكس الطموح السياسي لأصحابها” داعيا في نفس الوقت إلى أنّ “التأجيل أصبح ضرورة“.

اختزلت أولى جلسات هذه الدورة الاستثنائية مشهدا متكامل العناصر لضعف أداء مجلس النوّاب كسلطة تشريعية واهتزاز صورته ضمن النظام السياسي الذي تأسّس في الدستور. دور المعارضة المحدود وغير الفاعل في صدّ المبادرات التشريعية أو في قلب الموازنات من خلال التصويت مُقابل تشريعات تمرّ من خلال التوافق بين كتل الأغلبية، وبإملاءات صريحة من الأحزاب السياسية التي تقف وراءها. علاوة على تغليب الدور السياسي على الدور النيابي والتمثيلي ليتحوّل المجلس من مجلس ينُوب الشعب ويُمثّل ناخبيه إلى مجلس ينُوب الأحزاب السياسية ومصالح الفاعلين والمتحكّمين في القرار السياسي.