أكثر شخصية منبوذة في تونس

ليست المرة الأولى التي تتولى فيها شخصية نهضوية رئاسة مجلس النواب، ففي الفترة النيابية 2014/2019 تولى عبد الفتاح مورو خطة النائب الأول لرئيس المجلس، وقد أدار مورو خلال تلك الفترة أغلب جلسات البرلمان بصفته تلك. وبعد وفاة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، تولى رئيس المجلس محمد الناصر منصب رئيس الجمهورية ليترك موقع رئاسة المجلس لنائبه الشيخ مورو. لم يكن عبد الفتاح مورو شخصية مرفوضة ولا منبوذة من التونسيين، وعلى الرغم من ارتدائه في أغلب الأحيان للجبة والعمامة، في إشارة لمرجعيته الدينية، كان مورو يتمتع باحترام كثير من السياسيين والمثقفين. وخلال الفترة الطويلة التي قضاها كنائب لرئيس المجلس أو الفترة القصيرة التي قضاها على رئاسة المجلس، لم يثر مورو عداء خصومه بل العكس هو الصحيح. وخلال ترشّحه للانتخابات الرئاسية، ورغم محافظته على عمامته وجبته، كان ترتيب مورو جيدا رغم كل ما قيل عن خيانة داخلية من حزبه حركة النهضة. ورغم كل التحفظات التي تساق ضد الرجل من تصريحات ومواقف، على غرار لقائه مع بعض السلفيين أو الدعاة المتشدّدين إلا أنه حافظ على شخصيّته التونسية.

راشد الغنوشي خلال الندوة الصحفية بعد انتهاء جلسة التصويت على سحب الثقة منه، تصوير أحمد الزروقي، نواة

في المقابل، كان راشد الغنوشي منبوذا من التونسيين على الدوام، وعلى الرغم من توجهه الى ارتداء ربطة العنق بشكل متواصل إلا أنه ظل على رأس قائمة الشخصيات السياسية الأكثر ازدراء في تونس، وتؤكد هذه الحقيقة مختلف نتائج سبر الآراء في فترات متباعدة.

وعلى عكس مورو الذي يستذكره التونسيون في صورة السياسي المرح، فإن صورة الغنوشي ارتبطت في الغالب لدى التونسيين بعضويّة الجماعة العالمية للإخوان المسلمين وصاحب المواقف العدائية تجاه مؤسسات ورموز تحظى بحب واحترام التونسيين. فهو من رفض الترحم على روح الزعيم الحبيب بورقيبة، وهو أيضا من الشخصيات السياسية القليلة جدا في تونس التي هاجمت المؤسسة العسكرية، وناصبت العداء للطبقة الشغيلة وممثلها الاتحاد العام التونسي للشغل.

تغيير الموقف بتغيير ربطة العنق

لقد غيّر الغنوشي مواقفه تجاه بورقيبة، وأيضا تجاه المؤسسة العسكرية، وربما غير موقفه تجاه المنظمة الشغيلة. ولكن المشكلة أن هذا التغيير لا مصداقية له اذ عرف الغنوشي في السنوات الأخيرة أنه يغير مواقفه بنفس القدر ونفس السرعة التي يغيّر بها ربطات عنقه. فهو الحريص على تحصين الثورة من أزلام النظام البائد قبل أن يغير موقفه ويصبح من أكثر الرافضين لإقصاء التجمعيين من الحياة السياسية خلال رفضه لقانون تحصين الثورة من رموز نظام بن علي ومناشديه. وهو الحريص على عدم التحالف مع رموز الفساد وحزب “المقرونة” في إشارة الى حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي الذي سجن بتهم الفساد والتهرب الضريبي، ليصبح قلب تونس والقروي أهم حليف للغنوشي في البرلمان، بل صاحب الفضل في فوزه بمنصب رئيس المجلس في مرحلة أولى وصاحب الفضل كذلك في نجاته، يوم الخميس الماضي، من التصويت على عريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان.

لم يعد بوسع راشد الغنوشي وحزبه حركة النهضة الحديث باسم الثورة في مواجهة الثورة المضادة، فقد انفقت الحركة كثير من المال والوقت والجهد عبر ميليشياتها خلال سنوات حكم الترويكا وبعدها، لإقناع التونسيين بأن حركة النهضة وحليفيها في الترويكا هي أحزاب الثورة والشرعية، وعليه يصنفون معارضيهم في خانة الثورة المضادة.

اشتغلت حركة النهضة وراشد الغنوشي ومن ورائهما مئات الصفحات على منصات التواصل الاجتماعي ومن خلال قنوات تلفزية أُنشأت خصيصا أو وقع استمالتها لخدمة هذه البروباغاندا. وعلى إثر الاغتيالات السياسية في 2013 والاستقطاب الحاد بين النهضة وحلفائها من جهة وبين الأحزاب الديمقراطية والمدنية من جهة أخرى، وفي سنة 2014 مع تأسيس الاتحاد من أجل تونس الذي نشأ عنه نداء تونس، وظهور شخصية الباجي قايد السبسي كزعيم لهذا التيار بعد اعتصام الرحيل، نشطت بروباغندا الثورة والثورة المضادة لتسقط مع أول حكومة بعد انتخابات 2014، وما انجر عنها من تحالف بين الشيخين ثم الانقلاب على قايد السبسي في أيامه الأخيرة والتحالف مع يوسف الشاهد.

عودة بروباغندا الثورة المضادة من جديد

أثناء الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية الأخيرة أعادت حركة النهضة تشغيل أسطوانة الثورة والثورة المضادة. وهي الموسيقى المفضلة التي يتخمّر على أنغامها مريدوها وأتباعها، وقد ساعد على فعّالية هذه الموسيقى حركات الرقص المصاحبة التي كان يؤديها الكمبارس الجديد الذي كان يسمى روابط حماية الثورة وتم حلها لتورطها في أعمال عنف وإرهاب، ليعاد إخراجها لاحقا تحت مسمى ائتلاف الكرامة. ائتلاف الكرامة هذا هو مجرد واجهة (براشوك) تستعمله حركة النهضة، وأساسا نورالدين البحيري رئيس الكتلة البرلمانية للحركة، في المهام السياسية “غير النظيفة”. ويجمع هذا الائتلاف شتات من البوليس السياسي سابقا والثوريين الذين لا ماض لهم وأصحاب المهمات ” غير النظيفة” إبان حكم نظام بن علي. ليتحول ائتلاف الكرامة لجناح يميني لحركة النهضة، أما تحت الجناح الثاني فينام نبيل القروي قرير العين وفي حافظته الذهبيّة حصانة من ملفات الفساد التي ساقته إلى السجن قبل انتخابات 2019 ليعاد إطلاق سراحه في ظروف غامضة.

لا شيء يبرر عملية التصويت بذاك الشكل يوم الخميس الماضي عدا طلب نبيل القروي للحماية من الملفات القضائية المطروحة والتي يجري التحقيق بشأنها. لقد كانت عملية التصويت سريالية الى أبعد الحدود، ومن ضمن 18 ورقة ملغاة بسبب التصويت بلا ونعم في نفس الوقت، تظهر بوضوح قدرة نورالدين البحيري في فن التلاعب بنواب وحدها الصدفة قادتهم إلى رحاب الديمقراطية، ومع ذلك تصورهم حركة النهضة لأنصارها بأنهم من حماة الثورة في مواجهة الثورة المضادة.