لم يسبق أن سيطر الجيش على مبنى البرلمان وعلى كل منافذه، ليصبح المتحكم في الدخول والخروج إليه. هذه الخطوات كانت تنفيذا لأوامر رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، التي اتخذها في اجتماع طارئ دام ساعات مع القيادات الأمنية والعسكرية عشية نفس اليوم. قرارات تندرج في إطار تفعيل الفصل 80 من الدستور، حسب قراءة قيس سعيد للفصل، وقرّر بذلك تجميد عمل البرلمان لمدة 30 يوما، ورفع الحصانة عن جميع النواب، إلى جانب اتّخاذ إجراءات أخرى.كان ذلك بعد موجة احتجاجات اجتاحت البلاد صبيحة 25 جويلية 2021. نزول الجيش المكثف إلى الشارع وسيطرته على أهم المنشآت الحساسة وتطويقها، وحادثة منعه رئيس البرلمان وأعضائه من مزاولة عملهم جعلنا نطرح سؤالا حول علاقة الجيش بالسياسة في تونس. فهل هو عنصر فاعل فيها أم يُستنجد به في بعض المحطات فقط؟

الجيش التونسي: نشأة خارج الواجهة السياسية

تأسس الجيش الوطني التونسي، أو القوات المسلحة التونسية، في 30 جوان 1956، بعد قرابة 3 أشهر من حصول تونس على استقلالها التام من المستعمر الفرنسي، في 20 مارس 1956. وعلى عكس عدد من المستعمرات الأخرى، التي كانت نواة جيشها هي حركات التحرر المسلحة، لم يكن للجيش التونسي دور يذكر في استقلال تونس. ولا يعد استمراراً “للفلاقة”، وهي حركة النضال المسلح ضد المستعمر في تونس. وكانت نواته الأولى مكوّنة من رجال حرس الحاكم (الباي)، وجنود تونسيين كانوا في الجيش الفرنسي.

لم يكن بورقيبة، الرئيس الأول للجمهورية التونسية، يراهن على الجيش، على عكس الدول المجاورة التي كانت أساسا عسكرية في بنية نظامها. وتعاظم الأمر حين حاول عدد من الجنود الموالين للزعيم الراحل والغريم السياسي للحبيب بورقيبة، الانقلاب في سنة 1962. أمام مشهد إقليمي مليء بالانقلابات، قرر بورقيبة حصر الجيش في ثكناته، وإبعاده قدر الإمكان عن الحياة السياسية. ولم يكن للجيش حضور يذكر إلا في بعض الأحداث السياسية الفارقة في التاريخ السياسي المعاصر في تونس، على غرار أحداث الخميس الأسود في جانفي 1978، وأحداث قفصة مطلع الثمانينات، وأحداث الخبز سنة 1984. وكان في جميعها أداة قمع يستعملها النظام. واعتُبِرت وزارة الداخلية الذّراع الأمني الرئيسي للدولة.

مع التحول السياسي الذي حصل في 7 نوفمبر 1987 حين انقلب الجنرال بن علي على الرئيس بورقيبة واستولى على الحكم، لم يتغير كثيرا دور الجيش. في سنواته الأولى راهن بن علي على الجيش وأخرجه قليلا من ثكناته. حيث عين بعض الضباط في عدد من المناصب التي كانت محسوبة على المدنيين، وعمد إلى تسمية عسكريين على رأس وزارات على غرار الحبيب عمار وزيرا للداخلية في سنة 1987، ومصطفى بوعزيز وزيرا للعدل سنة 1989 وثم وزيرا لأملاك الدولة سنة 1990… لكن أحداث براكة الساحل، التي اتهم فيها عدد من الضباط بانتمائهم لحركة النهضة الإسلامية وتحضيرهم لانقلاب عسكري، عجلت بثني الجنرال بن علي على سياسته الجديدة تجاه الجيش والعودة إلى سياسة الحبيب بورقيبة في التعويل على وزارة الداخلية وإقصاء الجيش من الحياة السياسية. لكن هل صحيح أن المؤسسة العسكرية التونسية كانت خارج العملية السياسية؟

لم تكن وزارة الدفاع الوطني خارج حسابات السياسيين في تونس. بل كانت، رغم تهميشها، في محور اهتماماتهم، ويظهر ذلك خاصةً من خلال التسميات على رأسها. منذ تأسيسها في 24 جوان 1956، كانت وزارة الدفاع تحت إشراف وزراء مدنيين معروفين بولائهم السياسي للنظام القائم. وكانوا ينتمون كلّهم إلى الحزب الحاكم (الحزب الحرّ الدستوري الجديد، الحزب الاشتراكي الدستوري والتجمع الدستوري الديمقراطي)، مما يدل على أن هذه الوزارة مهمة جدا للنظام، ووجب تحييدها عن العسكريين ومنح قيادتها لشخص لا يُشَكّ في ولائه، من أجل ضمان عدم خروج الجيش عن السيطرة. وتظهر أهمية هذه الوزارة عند السياسيين، ومركزية مكانتها في النظام السياسي القائم، عندما ندرك أن أول وزير لها كان الحبيب بورقيبة نفسه، والذي جمع بين قيادتها ورئاسة الحكومة، وتولى مقاليدها منذ تأسيسها حتى 29 جويلية 1957، أربعة أيام بعد تنصيبه رئيسا من قبل المجلس الوطني التأسيسي. وسلمها عندها إلى الباهي الأدغم، رفيقه في النضال وأحد القيادات التاريخية للحزب الحر الدستوري الجديد.

ولئن تغير الأمر نسبيا بعد الثورة، حيث تداول على الوزارة وزراء مستقلون عن الأحزاب مع المحافظة على طابعهم المدني. في النظام السياسي الجديد في تونس، لا يمكن للسلطة أن تكون في يد حزب واحد، فهي مقسمة بين حزبين على الأقل. ولضمان عدم سيطرة أيّ من هذه الأحزاب على الوزارة، وجب تحييدها، ليس من منطلق ضمان استقلاليتها بل لضمان عدم استقواء أيّ طرف سياسيّ بها على حساب الآخرين، نظراً للأهمية السياسية لهذه الوزارة.

ولا يمكن أن ننسى أن الرئيس الثاني للجمهورية التونسية هو جنرال سليل المؤسسة العسكرية. فبعد تسلقه لسلم الرتب العسكرية وتقلده وظائف أمنية ومناصب عسكرية، وصل لقيادة البلاد. أي أنّ أحد أكبر التحولات السياسية في البلاد كانت عن طريق الانقلاب، حتى لو وُصف بالناعم، فقد نفذه جنرال وحكم البلاد لمدة 23 سنة.

في آخر أيّام حكمه، ومع تصاعد موجة الاحتجاجات وانتشارها في كامل ربوع البلاد، هرع الرئيس الأسبق بن علي إلى الجيش في آخر المحاولات لإنقاذ نظامه. وفي الساعة الثالثة من مساء يوم 14 جانفي 2011، سويعات قبل فرار بن علي إلى السعودية، طلب من قائد جيش البرّ، الجنرال رشيد عمار، قيادة قاعة العمليات بوزارة الداخلية. وبذلك أصبحت القيادة العسكرية مشرفة على القوات الأمنية والعسكرية في نفس الوقت. وهو ما يدلّ على ثقة القيادة السياسية في المؤسسات العسكرية، ودور هذه المؤسسة في النظام السياسي القائم.

بالإضافة إلى ذلك، يحتكر الجيش التكوين الأكاديمي للضباط والضباط السامين، ثم يتم توزيعهم على الأسلاك الأمنية والديوانية. وبمعنى أدقّ، فإنّ كلّ القيادات الأمنية في وزارة الداخلية شهدت في بدايتها انتماء للمؤسسة العسكرية وتربّت على عقيدتها. وتشهد معظم السفارات التونسية بالخارج مناصب لملحقين عسكريين وأمنيين، يكونون أبناء المؤسسة العسكرية أو تكوّنوا فيها، على غرار معهد الدفاع الوطني الذي يتكون فيه عدد من الوزراء وكوادر الدولة والولاة، وهو تحت الإشراف المباشر لوزارة الدفاع، وترسم فيه الاستراتيجيات الدفاعية للدولة.

ما يمكن استخلاصه أنه رغم الإقصاء الممنهج للجيش من الحياة السياسية في تونس، إلا أنه كان محط أنظار كل السياسيين الذين حكموا البلاد. ولم يقتصر نفوذه على وزارة الدفاع فقط، بل تجاوزها ليكون له حضور في وزارة الدفاع والداخلية، وفي الدبلوماسية الخارجية وفي رسم السياسة الكبرى للدولة. أي أن الجيش كان ظاهريا مغيباً عن الساحة السياسية، لكنه كان مؤثرا فيها تأثيرا كبيرا، حتى وإن لم يكن ذلك ظاهرا في الواجهة.

الثورة: الخروج إلى الواجهة

أيّاما قليلة قبل سقوط نظام بن علي، في 14 جانفي 2011، خرجت السيارات العسكرية للشوارع، ورابطت أمام المنشآت الحساسة في مشهد لم يعهده التونسيين. منذ عشية 14 جانفي 2011، سيطر الجيش على المؤسسة الأمنية والعسكرية، وذلك بأمر مباشر من بن علي. لكنّ الأحداث شاءت أن يغادر البلاد في ليلة نفس اليوم، دون رجعة. وعندها وجد الجنرال رشيد عمار نفسه مع الجيش المنتشر في البلاد ممسكاً بمقود السلطة في البلاد، خاصةً بعد فرار قوات الأمن من مقرات عملهم ووهن وزارتهم التي كانت مكروهة من الشعب، وتعطب أجهزة الحزب الدستوري الديمقراطي وتوقفها عن العمل. عندها، قام الجنرال بترقية نفسه إلى رتبة فريق أول وقائد أعلى للجيوش الثلاث، وهو ما يزيد من صلاحياته وسلطته. وقام بتعيين عدد من القيادات العسكرية في مناصب أمنية، على غرار تسمية اللواء في الجيش أحمد شابير في منصب المدير العام للأمن الوطني في وزارة الداخلية، والعقيد منصف الهلالي قائدا للحرس الوطني، إلى جانب تعيين سبعة ضباط من الجيش في منصب ولاة، وهو أمر لم يحدث أبدا في فترة حكم بن علي. وفي تصريح لأمير لواء متقاعد رفض الكشف عن اسمه، أدلى به لمركز كارنيغي «كان وضع الجيش جيداً جداً. معظم السياسيين من فترة حكم بن علي كانوا  قد ذهبوا. كان رشيد عّمار الشخص الوحيد الذي عرف كيف يدير الحكومة. وفي ذلك الوقت، كانت المشاكل تتعلق بالأمور الأمنية: كيفية مواجهة الوضع المتدهور في الجنوب، وما يجب القيام به تجاه اللاجئين الليبيين، وكيفية الاستجابة لإضراب كبير أواحتجاج. عملياً، وإن لم يكن ذلك بصورة قانونية، كان رشيد عّمار هو الرجل الذي يصدر الأوامر».

كسب الجيش ثقة الناس من خلال دوره في الحفاظ على الأمن. إضافة إلى وجود سردية تقول إن الجنرال رشيد عمار، ومن ورائه الجيش، رفض إطلاق النار على المتظاهرين ضد حكم بن علي. ساهمت هذه الأحداث في بناء رأس مال رمزي للجيش، تحوّل إلى ثقة عند الناس، وقد ساهمت الحرب على الإرهاب في تعزيزه. واستطاع الجيش التعويل عليه، إضافة إلى الفراغ الأمني والسياسي، ليتقدم أشواطا في لعبة العمل السياسي والخروج إلى الواجهة.

وإن وقعت محاولات لإعادة الجيش إلى رقعة الثكنات في فترة حكم الترويكا، والذي تحول الجيش حينها إلى محل صراع بين القصبة وقرطاج، إلا أن العسكر بقي محافظاً على دوره في السياسة. وكان ذلك من خلال دوره في محاربة الإرهاب، حماية الحدود، المشاركة في مكافحة الهجرة غير النظامية في إطار منظومة حماية الحدود الأوروبية “فرونتاكس”… وكانت العودة القوية للفضاء العام بعد قرار الرئيس الرحيل الباجي قائد السبسي، في سنة 2017، والقاضي بتكليف الجيش بحماية مواقع الإنتاج والتصدي إلى محاولات إيقاف الإنتاج والاعتصام داخلها.

لم يستفد الأحزاب والمجتمع المدني فقط من الثورة، التي خلقت لهم مناخا من الحريات ساعد في تغيير حالهم وحال البلاد. لكن الثورة كانت فرصة للجيش ليطفو إلى سطح الحياة السياسية، كلاعب بارز، وأن لا يكتفي بلعب الدور من بعيد. وكانت فرصة له لمحاولة الحصول على امتيازات كان محروما منها في العهدين السابقين. فتمتع بالزيادات المتواصلة في ميزانيته، وعدد من العتاد العسكري. إضافة إلى مساعدات وتدريبات من جيوش أجنبية على رأسها الجيش الأمريكي. وزاد عدد منتسبي الجيوش الثلاث ليصل إلى 40500 جندي سنة 2016، حسب مركز كارنيغي. وأصبح مجلس الأمن القومي يجتمع بصفة دورية، وصار له دور في تنظيم الانتخابات، وهو ما ساهم في ارتفاع منسوب ثقة السياسيين والمواطنين على حد السواء في هذه المؤسسة. وتمكن قياديّو الجيش من دخول مضمار العمل السياسي والمجتمع المدني بعد تقاعدهم.

لكن الأهمّ أنّ مشاهد المدرّعات والدبابات تجوب الشوارع وتتمركز في بعض المنشآت الحساسة أصبح أمرا عاديّا في

الذهنية الجماعية. كما أصبح التعاطي مع أخبار هذه المؤسسة أمرا مألوفا، وهو أمر لم يعهده الرأي العام السياسي في تونس منذ الاستقلال إلى عشية الثورة. ولكن بعدها أصبح للجيش حضور في المخيال السياسي الجمعي، ويمكن القبول به كفاعل علني ومباشر في المشهد السياسي.

كلّ ذلك ساهم في ثأر الجيش من سنوات من الإقصاء عن الفضاء العام والقرار السياسي، الذي سيطر عليها الحزب الحاكم ووزارة الداخلية لعقود. كانت الثورة نقطة تحول في تاريخ الجيش التونسي، ويمكن أن يكون الجيش التونسي قد استشرف هذه اللحظة، فلم يستمت في الدفاع عن نظام بن علي وقتها.

صعود قيس سعيد إلى الحكم: الجيش يحتل الواجهة

لم يكن رئيس الجمهورية الحالي، قيس سعيد، معروفا في الساحة السياسية قبل 14 جانفي 2011. فهو أستاذ قانون وُلد في بداية الخمسينات. درّس في معظم جامعات الحقوق في تونس، وتتلمذ على يده عدد من كوادر الدولة الذين مروا بالمدرسة العليا للإدارة. علاقته لم تكن متطورة بالنظام السابق. عدا ذلك لا حضور سياسي علني له. بعد سنة 2011 بدأ صوته بالعلوّ والتأثير في المشهد السياسي وكسب ثقة الناس وخلق أنصار، ليمكنه ذلك من اعتلاء منصب رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، بعد انتخابات أكتوبر 2019.

كانت بداية الرئيس الجديد في القصر متعثرة، وتتّسم بعدم وضوح الرؤية. ويعزى ذلك إلى فقدانه للتجربة السياسية. لكن خاصةً لعدم وجود حزب أو طرف سياسي أو قوة تقف وراءه وتدعمه. إلى أن أطل علينا بعد اجتماع دام لساعات، مع قيادات عسكرية وأمنية، يوم 25 جويلية 2021 ليعلمنا، في خطاب مدّته 10 دقائق بثته صفحة رئاسة الجمهورية، عن تفعيله الفصل 80. وعلل ذلك بأن المسؤولية دفعته إلى اتخاذ هذا القرار أمام الوضع الاقتصادي والصحي الصعب والأزمة السياسية التي تعيشها البلاد. والغريب أن هذا الاجتماع لم يكن لمجلس الأمن القومي، الذي يشترط فيه حضور رئيس البرلمان ورئيس الحكومة. ولكن كان اجتماعا طارئا لقيادات عسكرية وأمنية، لا يخضع لإطار قانوني ينظمه ويحدد صلاحياته. لكن كيف وصلت العلاقات بين رئيس الجمهورية والقيادة العسكرية لمرحلة التوافق على تطبيق الفصل 80 والإجراءات المصاحبة له؟

تربى قيس سعيد في فترة تميزت بانتشار أنظمة في المنطقة ترتكز أساساً على الجيش في بنيتها. ويحكمها شخص يحمل ما يكفي من الكاريزما والخطابة والحضور السياسي. ويمكن، على سبيل الذكر لا الحصر، ذكر النظام القومي بمصر بقيادة جمال عبد الناصر، والنظام البعثي العراقي بقيادة صدام حسين، والنظام الجزائري بقيادة أحمد بن بلة وبعده الهواري بومدين سليلي جبهة التحرير الوطنية… كان لهؤلاء الزعماء تأثير كبير في الفكر السياسي في تلك الفترة في العالم العربي، وكان لهم أنصار في جل الأقطار العربية. ولا يمكن الجزم إن كان قيس سعيد من ضمن هؤلاء، لكن فكرة القبول بالجيش ودوره في بناء نظام قوي ذي بعد وطني يحافظ على استقلال الدولة وسيادتها، موجود في تنشئته السياسية. عند وصوله إلى كرسي الرئاسة، يمكن لهذه الفكرة أن تكون محددة في طريقة ممارسته للسلطة. أو بمعنى أدق يمكن أن يبحث عن تعزيز دور الجيش في السلطة، استنادا لتنشئته السياسية التي تؤثر في سلوكه السياسي. أضف إلى ذلك افتقاره لسند سياسي يواجه به المطبات والصراعات السياسية. ليجد له مكانا في لعبة موازين القوى، وجب أن يخلق قوة يستند عليها، ويمكن للجيش أن يكون هذه القوة.

في المقابل، يبحث الجيش عن تعزيز مكانته في المشهد السياسي، وعدم خسارة الخطوات التي ربحها من الثورة إلى الآن، في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية والصحية التي تعيشها البلاد، وصعود أصوات في المجتمع تنادي بتولي الجيش للسلطة. لكن خطوة الانقلاب والبيان رقم 1 هي خطوة غير مضمونة ويمكن أن تؤدي إلى الفوضى. خاصةً وأنه غير قادر على مواجهة الضغوطات الخارجية والتوفيق بين حكم البلاد ومواجهة الأخطار الخارجية، بما في ذلك الحرب الأهلية في ليبيا، لنقص في العتاد والعباد. وبقي الجيش ينتظر وصول واجهة سياسية له، تمكنه من التقدم أكثر في رقعة اللعبة السياسية.

مثل وصول قيس سعيد للرئاسة فرصة للجيش لتعزيز دوره السياسي. ومثل تعاظم دور الجيش ورغبته في تعزيز مكانته فرصة لقيس سعيد لخلق حليف قوي. ومن هنا بدأ الزواج بينهما. فأصبح الرئيس دائم التردد على الثكنات ويقيم من وسطها خطابات سياسية. ومكنه من الإشراف على جميع المشاريع الرئاسية، على غرار مشروع مدينة الأغالبة الطبية. وأوكل إليه مهمّة الإشراف على قيادة الحرب على فيروس كورونا وحملة التلاقيح. وعيّن مؤخّرا عدد من الكوادر العسكرية في مناصب مدنية، على غرار وزير الصحة الحالي العميد الطبيب علي مرابط. وتتالت اللقاءات مع القيادات العسكرية، التي لم يجرِ عليها الرئيس أي تغييرات تذكر. وفي المقابل مكّنه الجيش من كل المعلومات التي يستحقها، والتنسيق مع القيادات الأمنية في وزارة الداخلية، المتكونين في المؤسسة العسكرية، لتنفيذ قراراته التي سيتخذها، وأن يخرج عن طوع السلطة التنفيذية وأوامر وزير الداخلية في الوقت المناسب. كما حث قدماء الجيش التونسي في مرات عدة الرئيس على تطبيق الفصل 80، في محاولة لطمأنته أنه سيلقى السند الكافي من الجيش في خياره.

يحظى قيس سعيد والمؤسسة العسكرية بثقة كبيرة عند المواطنين. ويوجد تقارب كبير بينهما غذته المصالح المشتركة. وهو ما عجل بالتحالف بينهما والمرور إلى الفعل السياسي الذي تجلى في تفعيل الفصل 80.

لم تكن القوات المسلحة التونسية أبدا خارج اللعبة السياسية. بل إن تأثيرها كان خفيا وأخذ في التعاظم خاصةً بعد ثورة 2011. وزاد قدوم قيس سعيد إلى الحكم في هذا التعاظم وغذاه. وإن كانت هناك عديد المؤشرات التي تدل على عدم الإنقلاب وتفرده بالسلطة في المستقبل. لكن يبقى تراجع الدبابة وخسارتها لمربعات في رقعة السياسة أمرا ليس بالهين. فهل سيعزز الجيش حضوره السياسي أم سيعود للثكنات؟ تبقى الإجابة عن هذا السؤال حصرية للتاريخ.