زيارة نائب رئيس المجلس الرئاسي الأعلى عن المنطقة الغربية عبد الله اللافي إلى قرطاج يوم 29 جويلية

على بعد كيلومتر ونصف من قلب مدينة بن قردان، وعلى جانبي طريق رأس جدير، تُطالعك المتاجر والمغازات المخصصة للمواد الغذائية والإلكترونية والألبسة القادمة في معظمها من السوق الليبية، حيث تُباع هنا بأسعار تُعتبر في متناول الطبقة الوسطى التونسية. عادة ما يشهدُ هذا الشارع في الموسم الصيفي حركية تجارية دؤوبا باعتباره مقصدا للعديد من الزوار من مختلف مناطق الجمهوريّة. إلا أن الموسم الحالي يحمل مشهدا بادي الاختلاف، فجزء لا يستهان به من المحلات في هذا الشارع مغلق “إلى حين إشعار آخر” مع نقص في عدد من يرتادون البقية التي وسع لها أن تواصل عملها، وشحّ لا تخطئه العين في كمية البضاعة المعروضة على رفوف عدد من المتاجر.

في الزاوية الأخرى وفي الجزء الليبي من معبر رأس جدير، احتشد مئات المسافرين الليبيين صبيحة يوم 19 أوت الماضي انتظارا لدورهم في دخول الأراضي التونسية عقب قرار حكومة الوحدة الليبية المنفرد بإعادة فتح الحدود مع تونس. إلا أن عدم توصل الجهات الحكومية الليبية لاتفاق مع الجانب التونسي حيال ذلك قضى أن تعود قوافل المسافرين تلك أدراجها، مع إحساس مرير بخيبة الأمل. يُحيلنا كلا المشهدين على بعض من الآثار السلبية لقرار حكومة عبد الحميد الدبيبة في ليبيا غلق الحدود مع تونس بحجة الوضع الوبائي في تونس خلال شهر جويلية المنقضي. إلا أن أزمة المعابر تلك لا تُخفي، مع ذلك، حالة من الفتور السياسي في العلاقات التونسية الليبية، يُعتبر الموقف من التدابير الاستثنائيّة التي اتخذها رئيس الجمهورية التونسي يوم 25 جويلية أحد محدداتها.

توتّر طارئ عقب محاولات للانفراج

شهد النصف الأول من سنة 2021 نشاطا دبلوماسيا مهما من الجانب التونسي في مسعى لتجاوز سنوات من سياسة الحياد السلبي تجاه الأزمة الليبية. وقد ركّز هذا الحضور على الجانب الاقتصادي بوجه خاص لتدارك التبعات السلبيّة للوضع في ليبيا على الاقتصاد التونسي. فبعد أشهر من التأجيل، انعقد المنتدى الاقتصادي التونسي-الليبي في مدينة صفاقس يوم 11 مارس 2021 بحضور عدد من الوزراء التونسيين والليبيين وممثلي عدد من رؤساء الغرف التجارية والهياكل الاقتصاديّة التونسيّة والليبيّة ورجال الأعمال والخبراء الاقتصاديين. وقد طُرحت في هذا المنتدى عديد الأفكار التي هيَأت الأرضية لبرمجة المعرض التونسي في طرابلس خلال أيام 23 و24 و25 ماي الماضي الذي سبقته زيارة رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي إلى طرابلس ولقاؤه برئيس الحكومة الوحدة الليبية. ضمن هذا المعرض الاستثماري الضخم الذي حضره أكثر من 1200 مشارك تونسي من بينهم مئات رجال الأعمال، انعقدت عديد ورشات العمل والمبادرات الهادفة لتجاوز العقبات القانونية واللوجستية المعيقة للاستثمار في كلا البلدين ومن بينها إحداث خطة لتوسيع معبر رأس جدير وإنشاء المنطقتين الحرة واللوجستية في بن قردان، إضافة إلى تعديل مجلة الصرف في تونس بشكل يتلاءم وآفاق العملية الاستثماريّة بين البلدين.

كما شارك في المعرض عدد من المؤسسات الناشئة “startups” التونسية للتعريف ببرامجها في السوق الليبية.وقد تحصلت شركات تونسيّة على عدد من العقود المهمّة في مجالات التجهيز والإسكان والبنية التحتيّة، حيث فازت الشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية “سنيت” بمشروع بناء 800 مسكن اجتماعي في ليبيا. كما بدأت الوكالة العقارية الصناعية التونسية دراسة مشروع منطقة صناعية كبيرة في طرابلس لتنفيذها لاحقا، إضافة إلى عقود لشركات تونسية في عدد من المجالات الأخرى كالطاقة والكهرباء. غير أن بعض التوتر عاد إلى العلاقات التونسية الليبية بعد قرار حكومة عبد الحميد الدبيبة في 8 جويلية المنقضي إغلاق الحدود مع تونس بشكل فجئيّ بذريعة الوضع الوبائيّ في تونس. وقد أكّد حينها أن هذا القرار سيكون مؤقتا ولفترة قصيرة.

وبرغم اللغة الدبلوماسية لبيان الرئاسة التونسية حول المحادثة الهاتفيّة التي أجراها الدبيبة مع سعيد وإثناء الرئيس التونسي على “الموقف الأخوي النبيل للحكومة الليبية، والذي يعكس عمق الروابط الأخوية بين البلدين والشعبين الشقيقين” حول دعم الحكومة الليبية لتونس خلال الأزمة الصحية، لم تُخف الكثير من الأوساط التونسيّة امتعاضها من تلك البادرة، مع الطابع المفاجئ لها وغياب التنسيق المستمر مع الجانب التونسي، وما ترتّب عن ذلك من مشاكل إجلاء لعدد من رجال الأعمال التونسيين في ليبيا، إضافة إلى مشاكل لعدد كبير من المرضى الليبيين الذين يعتمدون على خدمات المصحات التونسية، دون أن نتحدث عن المشاكل العميقة الأخرى التي تخص التدفقات البشرية والاقتصاديّة بين البلدين وآثارها على المنطقة الحدودية بالخصوص.

المنعرج 80: متغيِّر جديد في العلاقات الثنائيّة

استقبلت الأطراف الليبية الإجراءات الاستثنائيّة التي أعلن عنها رئيس الجمهوريّة التونسي قيس سعيّد يوم 25 جويلية بتباين شديد. ففيما رحب القائد العسكريّ خليفة حفتر بهذه الخطوة معتبرا إياها “انطلاقا نحو مستقبل زاهر، بعد قضائها على أهم عثرة في طريق تطورها”، رأى خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي ما حصل انقلابا على العمليّة الدّيمقراطية. هنا حاول المجلس الرئاسيّ الأعلى أن يتخذ موقفا أكثر براغماتية مما حصل، حيث أدى نائب رئيس المجلس الرئاسي الأعلى عن المنطقة الغربية عبد الله اللافي زيارة إلى قرطاج يوم 29 جويلية، صرّح عقبها بأن الرئيس سعيّد طمأنهُ بأن الأمور تسير “بشكل دستوري سليم”، وأن اللقاء كان أخويا وتناول عديد المواضيع الإقليمية والدولية الهامة ومنها الوضع في تونس. كما أكّد أن “تونس جارة لليبيا وما يهمنا هو الإطلاع على الأمور فيها، ويهمنا استقرارها لما يتطلبه الشعب التونسي في هذه المرحلة”.

حرص المسؤول الليبي هنا على انتقاء كلماته بأكثر ما يمكن من دبلوماسيّة، فلم يصرّح بمساندة السلطات الليبية لإجراءات سعيّد ولكن ترك الباب مفتوحا لموقف أكثر موضوعية بناء على متغيّرات الأحداث. وقد أثارت هذه الزيارة “الاستطلاعيّة” إذا جاز التعبير، جدلا في ليبيا مؤخّرا، إذ أكّد خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة مرة أخرى على أن ما حدث في تونس لا يعدو أن يكون إلا انقلابا ،كما أشار إلى أن زيارة اللافي لم تكن بترتيب من المجلس الرئاسي بل بترتيب شخصي منه وقد أخطأ فيها، وهو ما استدعى بيانا من المجلس يفند فيه ذلك ويؤكد أن الزيارة انبنت على تفويض منه.

مع ذلك لم ينجح المسعى الدبلوماسيّ في إخفاء ما شاب العلاقات التونسيّة الليبيّة من توتّر واضح، وكان القرار التونسي في تعليق فتح الحدود التونسية الليبية عقب قرار منفرد من حكومة الوحدة الوطنيّة الليبيّة يوم 19 أوت المنقضي سببا مباشرا في ذلك. علّل الطرف الرسمي التونسي تواصل غلق المعابر الحدودية بدوافع صحيّة بحتة وأن “الهدف من ذلك التحكم في تطور الوضع الوبائي في تونس وتجنب السيناريوهات الفارطة التي شهدتها تونس نتيجة الانتشار السريع والكبير لفيروس كورونا”. غير أن تداول بعض وسائل الإعلام التونسية لإشارات عن تهديدات إرهابية من ليبيا تجاه تونس ضاعف من حدة التوتّر الملاحظ مرّة أخرى. نتبيّن ذلك في كلمة رئيس الحكومة الليبي عبد الحميد الدبيبة يوم 27 أوت التي حملت ردا مبطنا على اتهام ليبيا كمُصدّر للإرهاب حيث صرح قائلا “لن نقبل باتهامنا بالإرهاب.. أنتم من جلب لنا الإرهابيين وحاسبوا أنفسكم قبل الاتهام. نحن شعب حر ولا يمكن أن نقبل اتهامنا بالإرهاب“.كما أردف بأن “بعض الدول الجارة اتهمتنا بأننا إرهابيون..لكن العشرة آلاف إرهابي الذين دخلوا بلادنا من أين أتوا؟ أنتم الذين جلبتوهم لنا.. الإرهاب جاءنا من الخارج وخصوصا من بعض الدول الجارة“.

أتت كلمة الدبيبة تلك بعد زيارة وفد ليبي رفيع المستوى إلى تونس يوم الخميس 26 أوت ترأسه وزيرة الخارجيّة الليبية نجلاء المنقوش ويضم وزراء الداخلية والمواصلات والعمل ووكيل وزارة الصحة، حيث التقى الوفد ببعض المسؤولين التونسيين يترأسهم وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج عثمان الجرندي. وقد تطرق الحوار حينها إلى التسريع في حل مشكلة الديون المتخلدة لدى الجانب الليبي تجاه المصحّات التونسية وضمان مشاركة المؤسسات التونسية في برامج إعادة الإعمار وضرورة السهر على حقوق العمال التونسيين داخل ليبيا، إضافة إلى مشكلة غلق المعابر الحدودية. ويبدو أنّ عدم التوصّل إلى اتفاق حيال النقطة الأخيرة بالذات هو ما حدا الدبيبة إلى اتخاذ هذا الموقف الاستفزازي الذي سعى إلى تداركه في اليوم الموالي عبر تغريدة له تؤكد على متانة العلاقات الأخوية بين البلدين، بما يشبه الإعتذار.

لم تمرّ تلك الكلمة دون موقف رسمي تونسي، عبّر فيه وزير الشؤون الخارجيّة عثمان الجرندي عن رفض تلك التصريحات واستغرابه منها ووصفها “بالمجانبة للحقيقة”، مع التذكير بالدور التونسي المساهم في “استتباب الأمن والاستقرار في ليبيا وفي دول المنطقة”، مشيرا إلى أن تونس هي “الصوت المدافع  على ليبيا في المحافل الإقليمية والدوليّة وخاصّة في مجلس الأمن”.وقد أتى هذا التصريح إثر اجتماع للجرندي بوزيرة الخارجية الليبية في الجزائر أثناء انعقاد مؤتمر وزراء خارجية الجوار الليبي في الجزائر أواخر شهر أوت.

كانت كلمة الدبيبة بحسب عديد المراقبين، محاولة لجلب شعبيّة داخلية طالما سعى إلى مغازلتها بكل الوسائل قبل حلول موعد الانتخابات الليبية المنتظر في 24 ديسمبر المقبل، حيث يواجه رئيس الحكومة الليبيّة ضغطا داخليّا في الملف الصحّي، خاصة مع مشاكل كبيرة تتعلق بالتزويد بالأدوية وعلاج الأورام، وهي مجالات اعتاد الطرف الليبي أن يتعاون فيها مع الشريك التونسي. وربّما يكون ذلك الموقف سببا في تأجيل زيارة الدبيبة إلى تونس.

إلى الآن لا يوجد جديد في حلحلة الأزمة، إذ لم يخرج اللقاء الذي ضم المندوب الأمني الليبي بتونس العميد إبراهيم البوعيسي بالمدير العام للشؤون الخارجية والتعاون الدولي بوزارة الداخليّة التونسية يوم 3 سبتمبر، حول مسألة إغلاق الحدود عمّا تم نقاشه سابقا، مع تأكيد الطرف التونسي أن اللجنة العلميّة بوزارة الصحة ستبت في الموضوع قريبا وتواصل توحيد الجهود والمعلومات الأمنية المتبادلة لمكافحة الإرهاب.

يُدرك الطرف الليبي جيّدا أن الوضع الصحي ليس السبب الوحيد الذي يدفع الجانب التونسي إلى مواصلة العمل بغلق الحدود، وإنما هناك أسس أخرى لهذا الموقف، لعلّ من بينها تخوّف أمني تونسي من تطوّرات عسكرية في ليبيا خلال الفترة القادمة تدعمها خريطة تحالفات جديدة بصدد التشكل هناك. ولكن في الأثناء يبقى النسيج الاجتماعي والاقتصادي في البلدين الخاسر الأكبر من تواصل غلق الحدود، حيث تعاني مئات المؤسسات الاقتصادية التونسية من صعوبات لانسداد السوق الليبية أمامها في هذه الفترة عدا عن حالة الترقب في المناطق الحدودية، التي قد تتحول بسهولة إلى احتقان في صورة استمرار الوضع على ما هو عليه.