يسوق الرئيس قيس سعيد البلاد، وحيدا نحو وجهة أصبحت معلومة منذ بضعة أشهر، وهي تحقيق مشروعه القائم على تغيير النظام الانتخابي وصياغة دستور جديد يضمن له مظلة قانونية عليا تُسكت الأفواه التي تنتقد مساره. وباقتراب موعد الاستفتاء الذي حدده يوم25 جويلية القادم، انصاع قيس سعيد إلى الانتقادات الخارجية التي استنكرت تغييرا سياسيا دون حوار وطني. لكنّ سعيّد اختار أن يكون الحوار مع المنظمات التقليدية بطريقته، فضمن الولاءات عن طريق لجان ستشرف على تركيز “أسس الجمهورية الجديدة” كما يسمّيها سعيّد، وتعيين شخصيات داخلها تمثّل المنظمات التي شاركت في الحوار الوطني في 2013، إضافة إلى منظمات أخرى داعمة للمسار الذي قاده الرئيس.

ينصّ المرسوم عدد 30 على إحداث هيئة وطنية استشارية من أجل جمهورية جديدة، تتكوّن من ثلاثة هياكل هي على التوالي: اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، واللجنة الاستشارية للشؤون القانونية، ولجنة الحوار الوطني.

تتكوّن اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعيّة من ممثّلين عن المنظّمات الوطنيّة، وهي على التوالي الاتحاد العامّ التونسي للشغل، والاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ويترأّس هذه اللجنة عميد المحامين.

ولئن رفضت أكثر هذه الهياكل تمثيليةً وثقلاً شعبياً، أي الإتحاد العام التونسي للشغل، المشاركة في الحوار، فقد قبلت بقية المنظمات المشاركة مما خلف تصدعاتٍ داخلها وإستغراباً خارجها.

سعيد ينفخ النار في أزمة اتحاد الفلاحين

في 11 ماي، استقبل قيس سعيد نور الدين بن عياد النائب الثاني آنذاك لرئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، وتحدث سعيد خلال ذلك اللقاء إلى بن عياد عن مشاركة اتحاد الفلاحين فيما أسماه بـ”اللجنة الوطنية من أجل تأسيس جمهورية جديدة”، واشترط أنه لن يمثل الاتحاد “إلا من يحمل بالفعل قضايا هذا القطاع الحيوي”.

أنبأ لقاء رئيس الجمهورية بالنائب الثاني لرئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري بطبخة ما تعدّ، وهو ما حصل فعلا. فبعد أسبوع من تاريخ اللقاء، أصبح بن عياد رئيسا للاتحاد بعد اجتماع الأعضاء لعزل رئيسه عبد المجيد الزار المحسوب على حركة النهضة، ليحل في منصبه نور الدين بن عياد، الذي صرح في إذاعة شمس أف أم يوم 19 ماي أن رئيس الجمهورية قال له حرفيا “طهروا المنظمة الفلاحية في شخص رئيسها” وأنّه مستاء من رئيس المنظمة عبد المجيد الزار، لينفي بعد ذلك في تصريح إذاعي آخر ما سبق أن صرح به عن علاقة سعيد بسحب الثقة من الزار.

غير أن قريش بلغيث، عضو اتحاد الفلاحين، صرّح لموقع نواة أنّ “ما قاله بن عياد عن أمر الرئيس بتطهير الاتحاد مدوَّن في محاضر الجلسات وأمام جميع الحاضرين في الجلسة، وأنّ صعود بن عيّاد إلى رئاسة الاتحاد واستبعاد الرئيس السابق خارج الهياكل التي تحكم المنظمة كان لإرضاء الرئيس، مضيفا أنّ وصول بن عيّاد إلى أعتاب قصر قرطاج كان بوساطة من رضا شهاب المكي المقرب من الرئيس.

جلسة 18 ماي: النقطة الفارقة

رُفعت قضايا لمنع نور الدين بن عياد الذي عيّن في “اللجنة الوطنية لتأسيس الجمهورية الجديدة” من استعمال وثائق الاتحاد حسب ما صرح به قريش بلغيث لـنواة، الذي شكك في شرعية تمثيل بن عياد للاتحاد بسبب صعوده إلى منصب الرئيس دون توفر النصاب الكافي حسب قوله. وهو ما ينفيه عضو الاتحاد معز بن زغيدان، الذي ساند سحب الثقة من الزار وفق ما قاله لموقع نواة. حيث اعتبر أن الرئيس السابق لاتحاد الفلاحين تتعلق به شبهات فساد وأن رئاسة الجمهورية قد تكون اطلعت على إثباتات تؤكد التجاوزات التي ارتكبها داخل الاتحاد وخارجه. وأضاف بن زغيدان “في آخر جانفي، بدأ الحديث عن شبهات فساد متعلقة بأنشطة عبد المجيد الزار في الاتحاد وفي أنشطته الفلاحية والتجارية، ولم نحسم حينها كيفية التعامل مع ذلك الوضع. وحين فتحت الرئاسة الحوار مع اتحاد الفلاحة، طرحت مسألة التطهير وتبين أن رئاسة الجمهورية لديها تحفظ بخصوص رئيس المنظمة، وهو أمر مشروع لأن اتحاد الفلاحين يتمتّع بدعم مالي من الدولة التي يجب أن تراقب كيفية صرف أموال الشعب”.

يخوض الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري معارك قضائية لإلغاء قرار تنحية الزار وشرعية رئاسة نور الدين بن عياد من جهة، ومن أجل فرض قرارات جلسة يوم 18 ماي من جهة أخرى، التي أصدر الاتحاد بيانا في شأنها واعتبرها لاغية لأنّها مخالفة لنظامه الأساسي، في حين يعتبرها معز بن زغيدان قانونية لأنها احترمت القانون الأساسي واعتمدت على فصله 80، الذي يحدّد النصاب الواجب توفّره. في المقابل، حسم الرئيس قيس سعيد في شرعية من يمثل اتحاد الفلاحين حين صدر اسم نور الدين بن عياد في الرائد الرسمي بصفته ممثلا عن الاتحاد، وهو ما يرجح صحة التصريحات القائلة بتدخل الرئاسة في فرض رئيس جديد مقرّب ومتماهٍ مع ما سيسطره سعيد.

هيئة المحامين في صفّ الرئيس

في 4 ماي، استقبل الرئيس قيس سعيد الخبير القانوني الصادق بلعيد، وطرح أمامه فكرة تشكيل لجنة وطنية لتأسيس جمهورية جديدة. وقال سعيد صراحة إن المشاركة في عضوية اللجنة ستكون لمن ساندوا ما سمّاه بمسار التصحيح. بدا سعيد مصمما على أن يكون محاطا بمن  يساندونه حتى يحصن مشروعه إلى النهاية. فبعد أن ضمن إزاحة عبد المجيد الزار عن رئاسة الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، هاهو يكافئ عميد المحامين إبراهيم بودربالة بمنصب رئيس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية الذي يقضي آخر شهر من عهدته على رأس هيئة المحامين، مجالسا رئيس الجمهورية لوضع اللمسات الأخيرة على تزيين مشروع الرئيس قيس سعيد للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، رغم أنه لم يكن لعميد المحامين أي رأي يؤخذ به، شأنه شأن بقية أعضاء لجنة الحوار الوطني واللجنة الاستشارية القانونية.

فبودربالة عُيّن على رأس لجنة من المفترض أنها ستقود إصلاحات اقتصادية واجتماعية، رغم قلة حيلته في المجال الاقتصادي على الأقل، فمنصبه كان مكافأة على بيان مساندة من عمادة المحامين مذيّل بإمضاء العميد جاء فيه أنّ الهيئة الوطنية للمحامين تساند مساندة مطلقة قرارات قيس سعيّد. ودعا البيان إلى عدم الحوار مع الفاسدين وإلى “تعديل القوانين الانتخابية والنظام السياسي بما يمكن من استئناف الحياة السياسية على قاعدة مطالب الشعب التونسي لتجاوز الأزمة وإرساء منوال تنموي جديد يراعي مصلحة الشعب التونسي”.

حقق الرئيس قيس سعيد أهم مطالب العمادة وهو حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وبالتالي فإن رد الجميل هو قبول الجلوس في منصة صورية لتزيين مخرجات الاستفتاء والإصلاحات التي يحاول سعيد أن يضفي عليها صفة التشاركية. أما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فواجهت بدورها انتقادات بقبول مشاركتها في الحوار وفي اللجنة الاستشارية للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.

موقف غير موحّد لرابطة حقوق الإنسان

يرفض بسام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التعليق على مشاركة الرابطة في اللجان التي ركزها قيس سعيد رغم أنها لجان صورية، ويقول في تصريح لموقع نواة

الأمر المؤكّد هو وجود اختلاف داخل الرابطة بخصوص سياسة قيس سعيّد. فهناك من يوافقه كليا وهناك شق سانده إلى حين صدور المرسوم عدد 117، وشق آخر سانده إلى حين صدور المرسوم عدد 30 الذي ينص على الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة، وهي خلافات يمكن أن تعيشها أية منظمة. لا أريد الحديث عن مطبخنا الداخلي ولا التطرق إلى المسألة بالتفصيل، لكن المشكل الأساسي ليس في الاختلاف بل في كيفية إدارته وحوكمته حتى نصل إلى حل يوازن بين كل المواقف المختلفة.

في 23 ماي، أصدرت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بيانا تبريريا لقبول مشاركتها في الحوار الوطني، لتبين أن قرار المشاركة جاء بأغلبية الأصوات، فيما أعلنت تحفظها على “ضيق الحيز الزمني لعمل اللجان وعدم وضوح المهام والمنهجية الموكولة لأعمال اللجان والإمكانيات الموضوعة على ذمتها” وطالبت بتشريكها في اللجنة القانونية المكلفة بصياغة الدستور.

تحتفظ الرابطة بحقها في إبداء موقفها من تمشي الحوار في حال عدم تطابقه مع مقترحاتها وثوابتها، وهو ما انتقده قدماء أعضاء الهيئة المديرة بسبب ما وصفوه “غيابا ملحوظا واستقالة شبه تامّة أمام عديد التجاوزات الخطيرة المخلّة بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان في شموليتها وترابطها وبدولة القانون والمؤسسات، خاصة منذ 25 جويلية 2021، وانتهى الأمر إلى موافقة الهيئة المديرة للرابطة بأغلبية التصويت الدخول في حوار صوري لا يستجيب لأدنى ضمانات الشفافية والديمقراطية ومعروف النتائج مسبقا”.

وإن كان الحديث عن نظرة الرئيس السلبية للأحزاب والمنظمات غير جديد، باعتبارها أجساما وسيطة بين الشعب والسلطة تجاوزها الزمن، فإن التدخل المباشر في صراعاتها يبقى مغامرة غير محمودة العواقب، يوصم فيها الفريق المنتصر “بجماعة القصر” وإن كانوا على حق، مما يدخلها في صراع شرعية يُفقدها فاعليتها وثقلها. فهل سيواصل قيس سعيد تكتيك التطويع/الاحتواء في تعامله مع المنظمات الوطنية؟ أم أنّ سياسته تتغير من منظمة إلى أخرى في علاقة بمحطات الحوار الوطني و بناء حزام أمان جمعياتي جديد؟ أم تبقى كلها تجارب تمهيدية وبالونات اختبار في انتظار مواجهة ثقل المنظمة الشغيلة التي اختارت عدم المشاركة في الحوار الوطني؟