منتصف أكتوبر الماضي، عاش الحي احتجاجات أججتها وفاة الشاب العشريني مالك السليمي، بعد أن طاردته عناصر من الشرطة ما أدى إلى سقوطه ووفاته بعد شهر متأثرا بإصابات بليغة. عقبت تلك الاحتجاجات حملات اعتقال عشوائية استهدفت عددا كبيرا من أبناء الحي.

لا يمكن حصر عدد الموقوفين على خلفية الاحتجاجات الأخيرة في حي التضامن، لكن يقدر بسام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في تصريح لموقع نواة، ذلك العدد بما يقارب 40 شخصا، ويقول “لا أحد يمكنه تحديد العدد الصحيح للموقوفين خلال احتجاجات حي التضامن الأخيرة. أنوب حاليا موقوفين والبعض أطلقت سراحهم المحكمة وآخرون تم الاحتفاظ بهم”.

 

صدمة عائلات الموقوفين

 

أمام باب المحكمة، وقفت عائلات الموقوفين، وتحدث والد أحدهم بغضب شديد

ابني يبلغ من العمر 35 عاما. أوقف سيارته قرب الصيدلية في حي النصر بالمنيهلة، من أجل شراء أدوية لابنته لكن اعتقلته الشرطة خلال حملاتها التي شنتها ضد أبناء الحي طيلة أيام الاحتجاج الليلي. لا نعرف ماهي التهم لكن ابني بريء فهو رجل مسؤول ولا يمكن أن يخاطر بالاعتداء على الشرطة أو الحرق وهو في سيارته التي يقارب ثمنها ثمانين ألف دينارا.

قاطعه ريان البالغ من العمر 19 عاما، الذي مثل أمام القاضي في حالة تقديم، ويقول:
“كنت عائدا من مقهى الحي والتقطتني سيارة الشرطة دون سبب، رغم أنني كنت بعيدا عن مكان الاحتجاجات”.

تُجمع شهادات العائلات التي تجمعت أمام المحكمة الابتدائية بأريانة أن عمليات اعتقال أبنائها حصلت قرب منازلهم. تقول والدة أحد الموقوفين:

كان ابني معي في المنزل. وفجأة اقتحم محتجون هاربون من الشرطة منزلنا خوفا من القبض عليهم، وحين قدم عناصر من البوليس اعتقلوا كل الشبان الذين لجؤوا إلى منزلنا وكان من ضمن المعتقلين ابني رغم أنه لم يغادر المنزل أبدا.

تشابهت شهادة الأم مع رواية والدة موقوف ثان قالت لنواة إن ابنها أُوقف أمام المنزل دون أن تعرف سبب اعتقاله، وتضيف:

ابني تعرض لحادث في السابق وأصيب في ساقه ولا يمكنه التحرّك بسهولة ومن المستحيل أن يتورط في أمر كهذا.

يقول والد موقوف ثالث إن عناصر الشرطة اعتقلت ابنه بعد خروجه من الصيدلية، وكان بيده كيس دواء السكري الذي اقتناه من أجل أمه.
اشتكى أقارب الموقوفين ممّا سمّوه معاملة سيئة لقوات الشرطة خلال زيارتهم لمراكز إيقاف أبنائهم، تقول أم أوقف ابنها خلال حملة اعتقالات أبناء الحي، إنها جوبهت بالسب والشتم صحبة أقارب موقوفين آخرين حين توجهوا بالسؤال عن مصير أبنائهم في منطقة الحرس الوطني بحي التضامن وتضيف في شهادتها لنواة:

كل ما طالبنا به هو محاكمتهم أو إطلاق سراحهم إذا لم يكن بحوزة الشرطة أدلة على تورطهم في جرم ما، لكنّ جواب بعض عناصر الشرطة لنا كان الشتم والطرد.

أججت الاعتقالات العشوائية غضب سكان حي التضامن، بعضهم يعتقد أن إفلات عناصر الشرطة من العقاب رغم ارتكابهم لتجاوزات متكررة ضد سكان الحي هو السبب الرئيسي لاندلاع الاحتجاجات في مناسبات كثيرة.

 

لعنة الحي الهامشي

 

تبلغ مساحة حي التضامن قرابة خمسة كيلومتر مربع ويحمل على رقعته ما يقارب مائتي ألف ساكن. بُنيت النواة الأولى لحي التضامن في العام 1966، وكانت مجمعا متكونا من 132 مسكنا اجتماعيا، تبعد قرابة 6 كيلومترات عن وسط العاصمة، بنتها الدولة على أرض عمومية استفاد منها محدودو الدخل وقُدّر عدد سكان الحيّ آنذاك بـ800 نسمة. سرعان ما توسعت رقعة المكان لتزرع المساكن حوله ويتزايد عدد سكانه بنسق سريع، حاملا معه السمة المميزة لنواته الأولى وهي الفقر والتهميش.
انتزعت الأحزمة المحيطة بحي التضامن، التي توسعت بسرعة في ظرف عقد من الزمن، اعترافًا من الدولة بعد الانتفاضة التي شهدتها البلاد في العام 1978، والتي شارك فيها متساكنوه. سنة 1980، بنيت بعض المدارس ومعهد ثانوي ثم أحدثت بلدية بعد أربع سنوات.

حين يتجول الغرباء عن حي التضامن على طول شارع ابن خلدون الذي يشق الحي طولا، لن يكون من الصعب عليهم تخيل حاله حين تشكلت نواته الأولى في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، لا يبدو أن شيئا قد تغير منذ ذلك العام ما عدى الارتفاع الجنوني في عدد السكان.
تُذكّر مشاهد المقاهي المكتظة بلاعبي الورق وبالحرفاء، الّذين يعلو وجوههم تجهم واضح، بلقطات دعائية لنظام بن علي خلال الاحتفال باستحواذه على السلطة، كانت التلفزة الرسمية تبثها في تلك المناسبة وتصور أشخاصا يبدو اليأس على ملامحهم في المقاهي خلال آخر فترة حكم بورقيبة. لم تتغير تلك الملامح رغم تعاقب الحكومات والأنظمة، وهي التي غالبا ما تنذر بانفجار الشارع في أية لحظة.
يقول عصام بشيء من اليأس:

لا أمل ولا طموح لسكان الحي. عمري 47 عاما، ورغم ذلك أصبحت أفكر في “الحرقة”. مشاكلنا مشابهة لبقية الأحياء في تونس وهي النقل والصحة، ولكن سكان الحي اختاروا تعبيرا وحيدا عن غضبهم من لامبالاة الدولة ومن الظلم المقنن الذي تمارسه الشرطة على أبناء الحي، وهي الاحتجاجات ليلا حتى نجذب انتباه المسؤولين.

لامبالاة السلطة

 

تبلغ نسبة الفقر في حي التضامن 12.4 بالمائة حسب تقرير أعدّه المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي صدر سنة 2020 بعنوان “خارطة الفقر في تونس” وهي نسبة مرتفعة مقارنة ببقية معتمديات ولاية أريانة، في حين تصل نسبة الانقطاع المدرسي في مستوى التعليم الثانوي 8.3 بالمائة حسب التقرير ذاته.
يقول وائل وهو شاب يبلغ من العمر 29 عاما :

واجه أبناء حي التضامن لامبالاة الدولة بالاحتجاج وغالبا ما تكون الشرطة هي ممثل الدولة الذي يتصادم معه أبناء الحي المحتجين.

لم تردّ ولاية أريانة على مراسلة إلكترونية من موقع نواة للاستفسار عن عدد المشاريع التي استفاد منها الحي، المنجزة منها والتي في طور الإنجاز منذ العام 2011.

يقول عاطف الدريدي المستشار البلدي ببلدية حي التضامن إن عدد المطالب المودعة بالبلدية قد نقُص بسبب يأس سكان الحي من تجاوب السلطات المحلية والجهوية لحاجياتهم، مضيفا في تصريح لنواة:

لا وجود لمشاريع تنموية في الحي، فجميعها مشاريع للبنية التحتية. تصوّروا، في حي التضامن لا توجد أماكن حتى لدفن الموتى بعد أن امتلأت المقبرة الوحيدة بالحي، لذلك نضطر إلى دفن موتانا في مقبرة دوار هيشر. منذ أن انقسم ما كان يعرف بحوض التضامن الذي تكوّن في السابق من دوار هيشر والمنيهلة، أصبحت المنطقة الصناعية تابعة لدوار هيشر. أما ما يعرف بالأراضي البيضاء فهي تتبع المنيهلة ولم يبق من حي التضامن سوى مساحة تبلغ قرابة 5 كلم مربع بكثافة سكّانية تناهز مائتي ألف ساكن.

ينتقد عاطف الدريدي المستشار، البلدي عن حزب التيار الديمقراطي، تجاهل السلطة الجهوية وعدم إنجازها مشاريع يستفيد منها سكان الحي ويقول:

في حي يسكنه قرابة 200 ألف ساكن، لا يوجد ملعب ولا توجد دار ثقافة بالمعنى الصحيح للكلمة. سنة 2020، رصدت ولاية أريانة ميزانية للمركّب الشبابي بالتضامن، لكنّ هذا المشروع لم ينجز، ولا وجود لمسؤول لإدارته أو حتى لحراسته. سنة 2021 طرحنا معضلة النقل في اجتماع مع والي أريانة والمدير الجهوي، وتلقّينا وعودا بحل المسألة ولم ينجز شيء إلى الآن. طرحنا حلا وهو إحداث خط جديد ومسار جديد يضاف إلى خطي الحافلات 514 و3 ث، لكن لم يحدث شيء إلى الآن.

ويواصل محدّثنا:

في المقابل هناك مشاريع رصدت لها ميزانية أكبر من كلفتها الحقيقية مثل النافورة التي تكلفت 200 ألف دينار وهو مبلغ ضخم، إضافة إلى بناء مدرّجات منتزه الحي بكلفة 270 ألف دينار وهي مصاريف ضخمة مقارنة ببناء ستة مدارج.

سنة 2019، خُصّصت منحة لأبناء حي التضامن الراغبين في بعث مشاريع صغيرة ومتوسطة ضمن برنامج التنمية المندمجة، قُدّرت بـ 3 مليون دينار في شكل قروض، لكن لم يُنفَق منها سوى مبلغ يقارب 200 ألف دينار حسب المستشار البلدي، بسبب بيروقراطية البنك التونسي للتضامن الذي كان من المفترض أن يكون دوره وسيطا، حسب قوله. ويضيف الدريدي:

كيف يمكن لمواطن أن يثق في مسؤولين يتجاهلون مطالبه الأساسية، وهو يعلم أن ميزانية بلدية حيه تقدر بمليون دينار، تخصص نسبة 52 بالمائة منها لخلاص أجور170 عون، وأن استهلاك البنزين تراوح بين 270 و500 ألف دينار؟ كل سّكان حي التضامن يعلمون أن وظيفة المسؤول المحلي الوحيدة هي ضمان السلم الاجتماعي، وليس التفكير في حلول تنموية.

يصف وائل وهو شاب من سكان الحي اقتراب حلول فصل الشتاء في حي التضامن بأنه الشرارة الأزلية التي تلهب دائما الشارع، حيث يتكرّر السيناريو ذاته في كل مرة بين السنة والأخرى منذ سقوط نظام بن علي: احتجاج وغاز مسيل للدموع وعجلات مطاطية ثم حملة الايقافات العشوائية المعتادة التي تقوم بها الشرطة عقب الاحتجاجات.
في كل مرة تنطفئ نيران العجلات المشتعلة وتتلاشى رائحة الغاز الخانق المسيل للدموع، لكن الغضب يخمد إلى حين سقوط ضحية أخرى.