جمعت الشوارع المترشحين الثلاثة، مثلما جمعتهم، على غير العادة، شبه هدنة مع رأس الدولة المُمثّل في شخص رئيس الجمهورية. مر بلال المشري وفوزي دعاس إلى الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، في حين لم يتمكن أحمد ساسي من تحصيل الأصوات اللازمة للفوز بمقعد في البرلمان أو المرور إلى الدور الثاني. ورغم اختلاف طريقهم الذي حكمت به النتائج، يخوض المترشحون الثلاثة جدلية النضال والبقاء في الشارع الذي ساند مطالبهم من جهة، والمشاركة في الحكم عن طريق برلمان سطره الرئيس قيس سعيد على مقاس برنامجه الانتخابي، من جهة أخرى. جدلية خاضها معهم شكري البحري الذي ترشح للدور الثاني عن دائرة عقارب والذي حسم الكفة للشارع على حساب البرلمان.
إنا من الشارع وإنا إليه راجعون
في شهر فيفري 2021، علا صوت بلال المشري الناطق باسم تنسيقية صغار الفلاحين بقرية أولاد جاب الله من ولاية المهدية، ضمن حشود أبناء القرية الذين انتفضوا بسبب غلاء سعر الأعلاف. وكان المشري شاهدا على مداهمات الشرطة للمنازل هناك، متقاسما مع أبناء قريته حينها، وابلا من الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، شاركهم غضبهم وردّهم بوابل من الحجارة على تعامل السلطة مع مطالبهم بالغاز والاعتقالات، واقتحامهم منازل عائلات من القرية.
بعد مرور عام ونصف تقريبا ممّا أطلق عليه انتفاضة الفلاحين في قرية أولاد جاب الله، اختار بلال المشري طريقا جديدا، أن يكون صوتا تحت قبة البرلمان عن دائرة الشابة سيدي علوان ملولش بولاية المهدية. يرفض المشري أن يكون ترشحه للانتخابات خيانة للشارع أو مهادنة للسلطة، ويقول في تصريح لموقع نواة:
بدأت من الشارع والشارع سيبقى المحدد والفيصل مهما كانت المحطات. لم أكن مقتنعا بالترشح للانتخابات التشريعية، ما دفعني لذلك هو سؤال منطقي غالبا ما أطرحه صحبة رفاقي وهو لماذا لا نقطع الطريق على كل من ركب ومن سيركب على تحركاتنا في أولاد جاب الله؟
يخفي بلال المشري مساندته لقيس سعيد ولمشروعه رغم أن تقييمه صعب لأنه ”ما يزال في بدايته“ حسب قوله. لكنّ مساندته للمسار تُختزَل في شخص سعيد، في حين ينتقد حكومته ووزراءه، ويقول المشري:
الرئيس قيس سعيد وطني وصادق، لكنّ حكومة نجلاء بودن هي حكومة ليبرالية ولا تختلف عن سابقاتها. المسار يقوده الرئيس قيس سعيد بإرادة سياسية ضعيفة شيئا ما والبرلمان سيكون قاطرة إسناد لتلك الإرادة السياسية لتكون أقوى.
لم يقدم بلال المشري المترشح عن دائرة الشابة سيدي علوان ملولش، وهي الدائرة التي نافس فيها عاطف بن حسين أكبر مؤيدي قيس سعيد وأحد مفسري برنامجه، وعودا انتخابية. لكنّه حدد نقاطا سيعمل على الدفاع عنها في حال فاز بمقعد في البرلمان، مثل السيادة الغذائية حسب قوله. المشري لا يتردد في إعلان إخلاصه لحراك الشارع حتى وإن تحصل على صفة نائب. قائلا:
الحراك من أجل الدفاع عن القضايا الاجتماعية سيتواصل، وهو الذي سيتولى فرض مطالب المحتجين على السلطة، والبرلمان سيكون صوت الحراك الاجتماعي.فالحراك هو محدد التغيير في فرض تلك المطالب. الرئيس قيس سعيد يحكم منذ سنة ونصف بحكومة مبتورة تتقاطع مع مصالح رجال الأعمال، وخطأ سعيد هو الحفاظ على تلك الحكومة، لذلك سيكون البرلمان هو الفصل بإسناد من الشارع.
يراهن بلال المشري، في حال فوزه في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، على جملة من النقاط التي سيدافع عنها في البرلمان أهمها إلغاء الديون وتعليقها، مطلب وطني أساسي لأن التنمية لن تتحقق دون إلغاء الديون حسب قوله. يثق المشري في صعود مترشحين يمكن التحالف معهم ضمن كتلة برلمانية وطنية حسب توصيفه، ويضيف: ”هناك تطلّع لصعود كتلة ثورية يمكن أن نعمل معها على تحقيق النقاط التي حصل على قاعدتها التغيير السياسي بقيادة قيس سعيد. وفي كل الحالات سوف تكون المقاومة سلاحنا داخل المجلس، وإذا لم نفلح سيكون الشارع هو الفيصل. نثق في صدق سعيد لكن إذا اصطدمت استحقاقات الرئيس مع استحقاقات الشعب فالانتصار سيكون حتما إلى الشعب عن طريق الشارع“.
”لن نكون النار التي تطبخ لغيرنا“
سنة 2015، أطلق مجموعة من الشباب حملة ”مانيش مسامح“ ردا على مشروع قانون المصالحة الذي طرحه الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في ذلك العام، توسعت الحملة لتصبح قوة ضغط في الشارع ضد ذلك القانون. ووسط ذلك الجمع من المحتجين الذين تعودت شوارع العاصمة على شعاراتهم، ظهر أحمد ساسي ضمن مئات الوجوه التي كانت وفية لحراك حملة ”مانيش مسامح“ التي أزعجت السلطة والشرطة على وجه الخصوص. في تلك الفترة، أسس أحمد ساسي ابن حي الكبارية بالعاصمة، صحبة مجموعة من الشبان جمعية جيل ضد التهميش التي نشطت من أجل تقديم خدمات لأبناء الأحياء الشعبية ورصد ما تعانيه تلك الأحياء إضافة إلى حث السكان على المطالبة بحقوقهم. وطيلة سبع سنوات تقريبا، تحرك أحمد ساسي بين أزقة الكبارية ضمن نشاطه في الجمعية وفي شوارع العاصمة خلال مسيرات نشطاء مانيش مسامح، ليقرر بعدها خوض مسار جديد بعد عشر سنوات عجاف.
يقول ساسي الذي أزيح من سباق الانتخابات، في تصريح لموقع نواة إن أغلب أنشطته في حي الكبارية كانت ضد حركة النهضة ونداء تونس وضد الأحزاب عموما التي تحولت إلى أداة تهميش للشباب حسب قوله. ويضيف:
وقفنا ضد الأحزاب لأنها فرضت طرحا سياسيا رفضه الشباب بما في ذلك تحالفاتها ومقارباتها الاقتصادية والاجتماعية، لذلك ساندنا لحظة 25 جويلية التي قطعت مع تلك المنظومة. أساند لحظة 25 جويلية ولا أساند المسار برمته. أتقاطع مع التغيير السياسي الذي قاده سعيد لكني أختلف معه في كل ما هو سياسي وتنظيمي.
يعتبر مرشح الكبارية أن سعيد كان الطلقة التي أطاحت بمنظومة قاومها مجموعة من التونسيين طيلة سنوات، ويضيف:
قبل 25 جويلية بسنوات، دعونا للتفكير في مسألة الديمقراطية التمثيلية ودافعنا عن فكرة تركيز ديمقراطية مباشرة. كانت تونس تعيش أزمة سياسية تطلبت إعادة التفكير في شكلها، لكن تمشي سعيد كان أحاديا دون الأخذ بعين الاعتبار بالمقترحات والقوى الفاعلة في الشارع. باختصار قيس سعيد قدم نفسه بصفته الإنسان الخارق. وانساق الكثير من الرفاق وراء فكرة قيادة رجل واحد التغيير، وأنا شخصيا أعارضها.
يرفض أحمد ساسي تصنيفه مساندا لقيس سعيد، بدليل مشاركته في حركات احتجاجية ضد مسارات اتخذتها الحكومة الحالية. ويختزل علاقته بالسلطة بالقول:
نحن نطرح البدائل ونقاوم، وهي أساس ترشّحي للبرلمان. أتحفظ على عدة مراسيم أصدرها سعيد مثل المرسوم عدد 54 والأمر الرئاسي عدد 117ومرسوم الشركات الأهلية لكننا لا نتحفظ على مبادئ مثل سحب الوكالة من النائب أو أصغر الدوائر. شاركت في الانتخابات لأن المسار لم يخلقه سعيّد بل أسسته قوى المجتمع المدني ومجموعات داخلية ومحلية. فلماذا نكون مثل النار التي تطبخ لغيرنا؟ هذا هو الأساس الذي حسم قراري بالمشاركة في الانتخابات التشريعية.
يؤمن أحمد ساسي بأن قيس سعيد لا يحكم وحده بل تسنده منظومة خاصة به، وينتقد خياراته المتعارضة مع مبادئه، وهو على ثقة بأنّ تلك المنظومة لا تتلخص في شخص الرئيس، بل تشمل كبار المحتكرين والعائلات المالكة الكبرى التي تغلغلت في تلك المنظومة، والتي يخوض الرئيس حربا ضدها.
قبل أن يستبعده الصندوق عن مسار الانتخابات، سطر أحمد ساسي برنامجه بسن قوانين تعزز الحق في النفاذ إلى المعلومة ومناهضة التعذيب ودعم السيادة الغذائية وإلغاء المرسوم عدد 54 الذي سنه الرئيس. يقول ساسي:
الرئيس لم يكن حازما في أدائه وهو ما تسبب في أزمة اقتصادية وسياسية، إذ كان عليه القطع مع المنظومة السابقة لا بمكوناتها فحسب بل بخياراتها الاقتصادية، لذلك بقيت خطاباته مجرد شعارات وحبرا على ورق. الدولة تعيش حالة انفصام بين الرئاسة والحكومة وتضادّ بين ما يقوله الرئيس في خطاباته وبين ما تقره حكومته.
وقبل أن يبتعد عن سباق الانتخابات، خطّط أحمد ساسي ألا يترك سعيد أو غيره الفاعل الوحيد في الحياة السياسية وألا يكون من حكموا قبله بديلا له في الحكم.
قبل أن يقلب هاتفه ليخفي شاشته بعد تكرر المكالمات دون رد عليها، أسرّ أحمد ساسي أن أحد المترشحين الّذين مرّوا إلى الدور الثاني في دائرة الكبارية والمعروف بمساندته للرئيس قيس سعيد ألح في الاتصال به ليطلب منه نقل الأصوات التي تحصّل عليها لفائدته حتى يضمن صعوده للبرلمان. يقول أحمد ساسي: ”عرفت بدعمي للحظة 25 جويلية لكنني لم أدخل تحت سقف دعم أنصاره لي في الانتخابات، وهم يعلمون أيضا أنني سأكون دائما في الشارع من أجل دعم كل المطالب الاجتماعية مثلما كنت دائما“.
الابن الوفي للرئيس
منذ سنة 2019، ظهر فوزي دعاس المترشح عن دائرة الحامة والحامة الغربية كأحد أبرز الوجوه الّتي قادت الحملة التفسيرية للرئيس قيس سعيد، مثلما كان أشرس المدافعين طيلة قرابة العشر سنوات عن ملف شهداء وجرحى الثورة، كما شارك في مسيرات ضمن حملة ”مانيش مسامح“ ضد قانون المصالحة. يقول فوزي دعاس في تصريح لنواة، إنه لا يخفي دعمه لمسار 25 جويلية الذي جاء بناء على حتمية إيجاد حلول لمسائل عالقة منذ 2010 وهي أساسا الاستحقاقات الاجتماعية، من أجل الوصول إلى سقف المطالب التي جاء بها مسار الثورة، ويضيف الدعاس:
لا يمكن الحكم بصفة قطعية على مسار الرئيس سعيد لأنه ما يزال في مرحلة التأسيس. 25 جويلية جاء في لحظة إنهاك للدولة بسبب خيارات من كانوا قائمين على الحكم، والمسار هو وليد انتظارات شعبية تبحث عن تحقيق مطالبها، فكانت لحظة 25 جويلية إجابة سياسية لتلك الانتظارات. هناك رؤى نقدية معقولة للمسار وأنا ممّن يدعون للمحافظة عليه، لأنّه لحظة تأسيس أولى.
لا يبدو فوزي دعاس متحمسا للشارع على العكس من بلال المشري وأحمد ساسي. فهو يرى أن الاحتجاجات تجوب البلاد منذ 2011، وهي احتجاجات مشروعة إذا كان أساسها مطالب اجتماعية حسب قوله، ويضيف ”رغم ان الشارع ما يزال متحركا إلا أنني أعتقد أنه توجد طرق أخرى للاحتجاج أيضا“.
لم يقدم فوزي دعاس وعودا انتخابية لكنّه شخص بعض المشاكل بالتفاعل مع ناخبي دائرته والتي كانت أساس برنامجه الانتخابي حسب تصريحه لنواة. في المقابل، يلخص مطلب الناخبين في جملة واحدة وهي، ”الصدق والنزاهة وما يحتاجونه هو شخص يكاشفهم بالحقيقة“.
يعتقد فوزي دعاس أنّ قبة البرلمان مكان يتسع للمطالب التي سيرفعها الشارع لذلك يمكن أن يكون بديلا، مستنكرا ما يُقال حول محدوديّة صلاحيات البرلمان ويقول: ”البرلمان قادر على مساءلة الجميع بما في ذلك رئيس الجمهورية من خلال مساءلة حكومته، والقول إنّ البرلمان محدود الصلاحيات بسبب عدم مساءلته رئيس الجمهورية لا أساس له من الصحة“.
يسير المترشحان بلال المشري وفوزي دعاس نحو طريق يقود إلى أبواب البرلمان، طريق قد يعيدهم إلى مسارين مختلفين، الأول إلى الشارع والثاني نحو منابر الدفاع عن الرئيس قيس سعيد، رغم أنهما تقاسما الشعار نفسه وهو بيت من قصيد لمحمود درويش ”سينتصر الخيالي الخفيف على الواقعي الفاسد“.
iThere are no comments
Add yours