في عصر ”زيت الكاز“ كما يصفه الشاعر السوري نزار قبّاني، تحوّل الثقل السياسي إلى شبه الجزيرة العربيّة وممالكها وإماراتها المستقلة حديثا والتي استثمرت عائدات النفط الهائلة لانتزاع دور إقليمي. ومع موجة الانتفاضات والثورات العربية ابتداء من تونس في شتاء 2010-2011، كانت هذه الدول ترقب بحذر وتوجّس التغيّرات السياسية وتصاعد النفس الثوري والتحرّري في المنطقة. لتشهد علاقتها مع تونس موجات مدّ وجزر طيلة 14 سنة، كانت سمتها الأبرز التلويح بجزرة المساعدات لحكومات تختنق اقتصاديّا مقابل شراء المواقف وبناء التحالفات والتأثير على توازنات المشهد الداخليّ. في المقابل كانت تلك الحكومات الفاشلة التي مرّت بتونس طيلة عقد ونصف تقريبا، مستعدّة لإغماض أعينها عن أي نوع من التجاوزات التي قد تطال مواطنيها هناك أو تنال من سيادتها، مقابل ”المساعدات المالية السخيّة“ من نظام آل سعود.

هنديّا كنت أو تونسيّا، المعاناة واحدة

هنديّا كنت أو تونسيّا، المعاناة واحدةنقل فيلم ”حياة الماعز“ الصورة القبيحة لمنظومة الكفيل وحجم معاناة العمالة الأجنبية في المملكة العربية السعودية التي بنت مدنها وأبراجها وصنعت ”الأنتليجينسيا“ الخاصة بها بسواعد وعقول الوافدين عليها من الشرق ومن الغرب، بحثا عن تأمين مستقبل أفضل بعيدا عن أوطان تمّ تفقيرها من ”أولي الأمر“. هذا الفيلم وإن كان هنديا، فإنّه يعكس واقع عمالة متنوّعة تتشارك المعاناة وإن بدرجات مختلفة. فالتونسيات والتونسيّون، لم تشفع لهم ”عروبتهم“ في أن يلقوا معاملة أفضل. عشرات الشهادات ومن ضمنها تحقيق على موقع ميدل إيست آي، رصد الظرف اللا إنساني الذي يواجهه التونسيون والتونسيات هناك، مجبرين وفق قواعد نظام الكفالة على تجرّع الذلّ والأذى بصمت. لم يقتصر الأمر على الظروف المهنية، حيث حُكم على مهدية المرزوقي، الطبيبة العاملة في المملكة العربية السعودية بالسجن 15 عاما فقط لمجرّد إعادة نشر تدوينة.

تدوينة تمثّل خطّا أحمر بالنسبة لنظام ملكي يعتبر حزب الله اللبناني حركة إرهابية، ويكفي أن تعلن مساندتك له ولو افتراضيا، لتقضي 3 سنوات سجنا قبل أن يتمّ الافراج عن الطبيبة التونسية في أفريل 2023.

لكنّ السؤال الأهمّ، أين هي مختلف الحكومات التونسية وكيف يمكن أن تصمت دولة عن التنكيل بمواطنيها ومقابل أي ثمن؟

25 جويلية 2021؛ ”بُشرة خير“

رغم أنّ علاقة المملكة العربية السعودية قد توطّدت مع قرطاج إثر وصول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الجمهورية، إلاّ أنّ لحظة 25 جويلية 2021، منحت دفعا أكبر للعلاقة مع الوافد الجديد قيس سعيّد.

كانت حالة الاحتقان الكبيرة التي تسود الشارع التونسي خلال اشتداد موجة الكوفيد بين شهري جوان وجويلية 2021، وتلكأ السلطات التونسية في جلب اللقاحات، لحظة ذهبية بالنسبة لرئاسة الجمهورية وللمملكة العربية السعودية للاستثمار في عجز حكومة المشيشي ومن ورائه الأحزاب المتحالفة معه وعلى رأسهم حركة النهضة. لتخرج الصحف السعودية أو المرتبطة بالمملكة في 12 جويلية من نفس السنة بعنوان عريض: ”السعودية ترسل مليون جرعة لقاح كورونا إلى تونس، تأتي المساعدات الطبية بعد يومين من اتصال قيس بن سعيد بالأمير محمد بن سلمان“. بدا الأمر وكأنّ رئيس الجمهورية هو الوحيد القادر على الأخذ بزمام الأمور وإنقاذ أرواح التونسيّين انعكاسا لمكانته لدى عدد من الدول. بعد أقلّ من أسبوعين، يقرّر سعيّد اتخاذ ما أسماه حينها ”التدابير الاستثنائية“ وتعليق عمل البرلمان وحلّ الحكومة، ليتواصل ”السخاء“ السعوديّ مع من يسعى لإنهاء آخر تجربة ديمقراطية في العالم العربي بعد تهاويها في مصر وانزلاق انتفاضات شعوب أخرى نحو حروب أهلية وتدخّلات عسكرية أجنبية. ”سخاء“ تُرجم بإرسال دفعة جديدة مكونة من 600 ألف جرعة من اللقاحات في 25 أوت 2021.

30 جويلية 2021 قصر قرطاج، 5 أيام بعد تجميده البرلمان، الرئيس سعيد يستقبل وزير الخارجية السعودي – رئاسة الجمهورية

الهبّة السعودية نحو ساكن قرطاج لم تقتصر على المساعدات الطبيّة، بل انتقلت إلى المستوى السياسي. حيث طار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بن عبد الله يوم 30 جويلية إلى تونس ليلتقي رئيس الجمهورية ويعلمه ب ”موقف المملكة الداعم لأمن واستقرار تونس والوقوف بجانب كل ما يحقق الرفاه والازدهار للأشقاء في تونس“، إضافة إلى ”ثقة المملكة في القيادة التونسية في تجاوز هذه الظروف وبما يحقق العيش الكريم للشعب التونسي الشقيق وازدهاره“. موقف تطوّر باستدعاء السفير التونسي في المملكة، هشام الفوراتي لمقابلة وزير الخارجية السعودي في 09 أوت 2021 لتناول تطورات الأوضاع في تونس ليعقبه لاحقا في 20 أوت 2021، اتصال هاتفي من ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز إلى الرئيس قيس سعيّد ليعلن له ”مباركة“ المملكة لما حدث يوم 25 جويلية.

وإن كان الدعم السياسي واضحا وحاسما من قبل السعودية لإنهاء حقبة ما قبل 25 جويلية، إلاّ أنّ الدعم المالي كان أحد أهمّ أدواتها لترجمة موقفها. حيث بلغت قيمة مساعداتها المالية 507 مليون دولار بين سنوات 2021 و2023 عبر الصندوق السعودي للتنمية، إضافة إلى تسهيل حصول تونس على قرض بقيمة 1.2 مليار دولار من قبل المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة الكائن مقرّها بالرياض. لكنّ الورقة الدعائية الأهمّ بالنسبة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد كانت مشروع المدينة الطبية في القيروان والذي تمّ الإعلان عن توقيع عقد الشروع في بناء المستشفى الجامعي الملك سلمان بن عبد العزيز بالقيروان بوزارة الصحة، بحضور وزير الصحة مصطفى الفرجاني وسفير السعودية بتونس عبد العزيز بن علي صقر في 5 سبتمبر الجاري. تأخير طال لأكثر من 7 سنوات منذ توقيع مذكّرة التفاهم حول المشروع في سنة 2017، قبل أن يحوّله سعيّد إلى تعهّد شخصي منذ سنة 2020.

في المقابل، وإضافة إلى شراء الصمت الرسمي تجاه المظلمة التي تعرضت لها الطبيبة التونسية مهدية المرزوقي وغيرها من الانتهاكات التي طالت التونسيين في المملكة، أثمر السخاء السعودي في دعم منظومة ما بعد 25 جويلية 2021، عن دعم خارجي تونسي في أكثر من مناسبة. دعم تجلّى في مساندة تونس للمبادرة السعودية لوقف الحرب في اليمن في مارس 2021، متناسية تسبّب المملكة في الحرب ودعمها للاقتتال الداخلي وتدخّلها العسكري المباشر هناك وصمتها طيلة سنوات عن الجرائم والمجازر التي ارتكبت في حق الشعب اليمني. كما انحازت تونس بشكل حاسم لموقف السعودية من قرار مجموعة ”أوبك+“ بشأن خفض إنتاج النفط رغم الارتدادات السلبية المنتظرة على الاقتصاد التونسي نظرا للارتفاع المرتقب لأسعار النفط في السوق الدولية. بل ومثّل هذا الموقف وبيان وزارة الخارجية التونسية صدمة للأمريكيين الذين رفضوا القرار ووجّهوا انتقادات حادة للمملكة العربية السعودية.

جزرة ”البترو دولار“ حاضرة في عهد منظومة التوافق

مثّلت موجة الثورات العربية سنة 2011، كابوسا للملكة العربية السعودية، وهو ما دفعها إلى التدخّل عسكريا في البحرين لقمع انتفاضة الشعب البحريني سنة 2011 عبر قوات درع الجزيرة. لكنّ نجاح التجربة في تونس ووصول حركة النهضة برئاسة الغنوشي إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011، أثار امتعاضها نظرا للتاريخ الشائك والعدائي بين زعيم النهضة ونظام آل سعود. حيث منعته السلطات السعودية من أداء مناسك الحج سنة 2007، كما مثّلت تصريحات الغنوشي عند زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2011، والتي توقّع فيها أن الثورات العربية ستنتقل إلى الملكيات العربية وستنهيها بحلول عام 2012، مصدر غضب سعودي كبير.

موقف المملكة من الإسلاميّين في تونس تجلّى في اندفاعهم لتقديم الدعم إلى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عند وصوله إلى رئاسة الجمهورية نهاية سنة 2014. لتعود العلاقات ”دافئة“ بين الرياض وقصر قرطاج فقط، وليعود السعوديّون إلى استخدام جزرة الدعم المادي لشراء المواقف أو كسب التحالفات مع طرف ضد آخر.

مقاتلة أف 15 للطيران الحربي السعودي خلال مناورات مشتركة مع تونس – وزارة الدفاع السعودية

التدثّر بالعباءة السعوديّة تجلى بشكل واضح كخيار سياسيّ تونسي صريح منذ سنة 2014، لينعكس من خلال عديد المحطّات والتّي كان أهمّها زيارة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إلى السعوديّة في 22 ديسمبر 2015 بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود. هذه الزيارة التّي تلت الإعلان في العاصمة السعودية الرياض عن تشكيل تحالف ”إسلامي“ عسكري من 34 دولة من ضمنها تونس لمحاربة الإرهاب، فتحت باب التعاون العسكريّ بين البلدين بعد منح السعودية لتونس هبة من 48 طائرة مقاتلة أمريكيّة الصنع من طراز F5، والتّي تم إنتاجها في ستينات القرن الماضي، بعد أن خرجت فعليا من الخدمة في السلاح الجويّ السعودي منذ أكثر من عقدين. مساعدة عسكريّة استتبعتها حزمة من القروض ناهزت المليار دولار. في المقابل، كان على الطرف التونسي أن ينساق بشكل كامل وراء المواقف السعوديّة إزاء عدد من القضايا الإقليميّة انطلاقا بالانضمام إلى “التحالف الإسلامي“ الموجّه ضدّ إيران وحزب الله والنظام السوري في سبتمبر 2015، وغضّ الطرف عن تصنيف حزب الله كمنظّمة ارهابيّة، والتعامي عن العدوان السعوديّ على اليمن والمشاركة في المناورات العسكريّة المشتركة للتحالف الإسلامي ”رعد الشمال“ في فيفري 2016. إضافة إلى المصادقة على البيان الختامي للقمة العربيّة سنة 2016، الذّي تضمّن تهديدا صريحا لإيران. بل وصل النفوذ السعوديّ إلى دفع الحكومة التونسيّة إلى إقالة وزير الشؤون الدينيّة في 04 نوفمبر 2016 عقابا له على تصريحات اعتبرها هؤلاء مناهضة للمملكة. أمّا أحد أهم محطات التعاون خلال حقبة الباجي قائد السبسي فتمثّلت في إطلاق مناورات عسكريّة مشتركة للقوّات الجويّة في 03 أكتوبر 2018 في تونس لأوّل مرّة في تاريخ البلدين، وبعد 5 أيّام فقط من قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التمديد للجنة الأمميّة للتحقيق في ارتكاب جرائم حرب في اليمن والتّي ترأسها آنذاك كمال الجندوبي.

كان الصوت الرسمي عاليا خلال العدوان الصهيوني المستمّر على قطاع غزّة مدينا قتل الأطفال وتجويعهم. لكنّ نفس الصوت الرسمي لم يفكّر ولو لحظة في مسائلة نظام قصف طيرانه يوم 9 أوت 2018 حافلة مدرسية في صنعاء وتسبّب في مقتل 29 طفلا. نفس هذا الصوت المدافع عن السيادة واستقلالية القرار والداعي إلى محاربة الامبريالية، لا يرى حرجا في الاصطفاف وراء نظام ملكي دموي يسمح لنفسه بقتل معارضيه في سفاراته في دول العالم، ويوظّف عائداته النفطية لتأسيس ما يمكن تسميته سياسة شراء المواقف، والتعدّي على حرمة دول كاليمن أو لبنان أو البحرين أو قطر أو مصر. ليصدق الشاعر السوري نزار قباني مرة أخرى حين قال: ”هجم النفط مثل ذئب علينا، فارتمينا قتلى على نعليه، وقطعنا صلاتنا.. واقتنعنا، أنّ مجد الغني في خصيتيه.“