د. منصف المرزوقي
الثلاثاء 2 كانون الثاني (يناير) 2007.

عندما يتمكن دكتاتور من مقاليد الحكم في مجتمع ما، فالوضعية شبيهة بتمكن فيروس قاتل من جسم كان معتلا بحكم تقبله للكائن الخبيث ، لكنه أصبح مؤهلا الآن لتفاقم مفزع للمرض قد يهدد حياته.

كم من شعوب كادت أن تفنى بحكم تسلط مجنون على مقاديرها وآخرها الشعب العراقي الذي ما كان يعرف الوضع الرهيب الحالي لولا شخص اسمه صدام حسين . نفس الشيء عن المآسي التي عرفتها ألمانيا تحت هتلر وإيطاليا تحت موسوليني ورومانيا تحت شاوشسكو الخ . لكن الفعل التدميري للفيروس يمكن أن يأخذ أشكالا أقل عنفا من الجرّ إلى الحروب المهلكة.

فالدكتاتور عدو لدود لكل التنظيمات الاجتماعية الفعالة والمستقلة لأنها تفلت من قبضته وتستطيع أن تشكل خطرا على هوسه بالسلطة الربانية المطلقة . لذلك هو لا يتنفس الصعداء إلا بعد التحكم فيها وتطويعها لمأربه الخاصة وهي التأله والتأبيد في السلطة … الشيء الذي يؤدي إلى خراب هذه المؤسسات فخراب المجتمع بأسره.

أنظر كيف دمّر الدكتاتور الذي يتحكم في رقابنا كل مؤسساتنا أو منعها من التطور الطبيعي نحو مزيد من الفعالية والاستقلالية. هو دمّر المؤسسة الأمنية نفسها عندما جعلها جهاز حماية العصابات من المجتمع لا حماية المجتمع من العصابات. هو دمر الجمارك عندما جعل منها أداة لحماية التهريب بدل محاربته. هو دمّر القضاء عندما جعل منه غطاء الظلم بالقانون. هو دمّر الثقافة عندما فرض الرقابة المطلقة . هو دمّر الإعلام عندما حارب حربا لا هوادة فيها حرية الفكر والتعبير . هو دمّر منظومة القيم عندما جعل الفساد والقمع والتزييف ممارسات السلطة والنموذج المقدم للمجتمع …. ولا أتحدث عن تدميره للسياسة عندما جعلها مرادفا للكذب المتواصل والبذاءة وأساليب المليشيا.

هكذا تجد تونس نفسها بعد عشرين سنة من الإصابة بالفيروس الخبيث دون أمن حقيقي وقضاء حقيقي وإعلام حقيقي وقيم حقيقية وثقافة حقيقية وسياسة حقيقية .

قد أفاجئكم إن قلت إن كل هذا مجتمعا لا يزن شيئا بالمقارنة مع الجريمة العظمى للدكتاتور : تخريب التعليم .

كلنا سمعنا بالنمور الآسيوية – كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة – التي فاجأت العالم في بداية التسعينات بتقدمها الاقتصادي المذهل والحال أنها انطلقت من نفس مستوى التخلف لكل بلدان العالم الثالث. لكن قلّ من يعرف أن دراسات غربية( لفهم ظاهرة أزعجت الغرب كثيرا) بيّنت أن السبب الرئيسي لهذا التقدم هو اعتماد سلطات هذه البلدان في بداية الستينات سياسة تعليمية راهنت على الجودة والتعميم وخصصت لها كل الإمكانيات المطلوبة. هذه السياسة هي التي أثمرت الجيل الذي صنع المعجزات.

والحق يقال أن بورقيبة – رغم كل مآخذنا عليه وأهمها أنه هو الذي ترك لنا هذا الدكتاتور وهذا النظام – أدرك الأهمية القصوى للتعليم، فخصّص له طوال عقدين من الزمن ثلث ميزانية الدولة فكانت النتيجة بحجم التضحيات. قلّ من يربط بين الرخاء النسبي الذي عرفته تونس في التسعينات- والذي صادره الدكتاتور لصالحه وهو منه براء- وبين ما غرس في السبعينات والثمانيات . قلّ من يعي أن ما ستعاني منه تونس في العقدين المقبلين من فقر وتخلف وصعوبات جمة ،حتى في ظل نظام ديمقراطي، سيكون نتيجة عيشها على الثمار المرّة ،أساسا في ميدان التعليم، التي زرعها الدكتاتور بخياره المدمّر: من جهة استعمال التعليم في خدمة هدفه السياسي الوحيد أي البقاء في السلطة أطول وقت وبأي ثمن ، ومن جهة أخرى التعامل معه باعتباره مشكلا أمنيا قبل كل شيء آخر.

* لإعداد هذا المقال حول كارثة التعليم ببلادنا ( ولا أظن الأمر جد مختلف في بقية أقطار الوطن العربي الموبوءة مثلنا بعاهة وآفة الاستبداد) ، وفي غياب دراسات موضوعية يمكن الثقة فيها ، اعتمدت على تجربتي كمربّي مارس التعليم ربع قرن في الجامعة التونسية وعلى استجوابات معمقة لعشرات المربين في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي وكذلك مع بعض الطلبة . وفي كل بداية نقاش كنت أركّز على أنني لا ابحث عن أحكام مسبقة وإنما عن معلومات ثابتة تمكن من تكوين أقرب صورة عن واقع كنت أعلم بالتجربة أنه مأساوي، لكن لم أكن أتصوّر إلى أي درجة.

الاستنتاج الأول أنني لم أجد مربيا واحدا يدافع عن إنجازات” العهد الجديد” في الميدان، وقد يكون من المفيد لوضوح الرؤية أن يكتب عالم عميل أو أي مكلف بمهمة، مقالا للردّ على مقالي هذا ليبين لنا ظلم نقدنا وتجنيه على الحقيقية.

الاستنتاج الثاني الذي وصلت له بعد كل هذه النقاشات أن هناك وعي ، ليس فقط داخل الأسرة التعليمية ، وإنما داخل المواطنين بان انهيار مستوى التعليم ،الذي أصبح لا يخفى على أحد،هو النتيجة المباشرة لسياسة النظام. ممّا أذكره قول أحد المربين أن امرأة من عامة الشعب صرخت في وجهه بعد ظهور نتائج الباكلوريا بنسب النجاح الهائلة المعتادة ” شنوّة ، نجّحتوهم كلهم على خاطر ثمة انتخابات رئاسية !”

لا شكّ أن هذه المرأة تعكس ذكاء العامة الذي يستهين به المتسلطون والمعارضون على حدّ السواء، والحال أننا أمام شعب ينظر ويسمع ويحلل ويفهم….وينتظر ساعته. هذه المرأة وضعت الإصبع على مكمن الداء الذي شخصه كل من حاورتهم وهو أن الدكتاتور يحاول اكتساب شعبية ،عجز عن اكتسابها بإعطاء القدوة والمثال واحترام حقوق التونسيين وحرياتهم ، عبر جملة من الوسائل الديماغوجية والشعبوية وعلى رأسها تحقيق أعمق رغبة عند العائلة التونسية: النجاح المدرسي لأطفالها بما هو الطريق الملكي وأحيانا الوحيد للنجاح الاجتماعي. لكن عوض أن يكون رفع نسبة هذا النجاح بالوسائل الشريفة ،أي التأهيل والتكريم للمربي، والجهد الجهيد من التلميذ، والتمويل الكافي من الدولة ،اختار الدكتاتور أن يكون كالعادة …بالتزييف.

وهذا رجل شبيه بالملك ميداس الذي كان لا يلمس شيئا إلا وجعله ذهبا، مع الفارق أنه لا يلمس شيئا إلا وجعله ذهبا مزيفا. لنفكّك عملية الإنجاح على طريقة الدكتاتور.

أول ضحية تلميذ الابتدائي، فالارتقاء من السنة الأولى إلى السنة الثانية ومن السنة الثالثة إلى الرابعة و من السنة الخامسة إلى السنة السادسة ٍ آلي أي مهما كان مستواه. لقائل أن يقول هناك امتحان في نهاية كل سنتين. صحيح، لكن اسألوا المعلمين وسيقولون لكم أن التعليمات تجعل منه شيئا صوريا حيث يجب أن تبقى نسبة الرسوب هامشية.هكذا يمكن القول أنه لا يوجد أي امتحان جدّي للتلميذ طوال السنوات المصيرية الأولى، خلافا للقواعد المعمول بها منذ بداية التاريخ وفي كل مدارس العالم ،لحث التلميذ على الاجتهاد وتعلم الجهد والتنافس النزيه. لا غرابة في الكارثة التي يعرفها الكثير من المعلمين وهي أن هناك تلامذة يصلون السنة السادسة وهم يجهلون تماما القراءة والكتابة لأن حظهم العاثر شاء ألا يكون لهم أولياء متفطنين لما يحدث ويتداركون الأمر بالمتابعة في البيت أو بما يسمى ساعات الدعم. هذه أيضا كارثة أخرى من تبعات الخيارات المجرمة جعلت من المدرسة سوقا ومن المربين تجارا وصلت ببعضهم الدناءة حدّ إعطاء تمارين هذه الساعات في الامتحان العام حتى يعلم الجمع أنه لا نجاح إلا لمن يدفع.

زد على هذا مأساة السنة التاسعة التي كان من المفترض أن تكون بوابة تمكن من توجيه من لهم الحد الأدنى من المؤهلات لمواصلة تعليمهم الثانوي في الوقت الذي يوجه فيه البقية لتعليم مهني جيّد . حتى هذا الامتحان ألغي لتربية التلامذة على حقهم غير القابل للتصرف في باكلوريا الجميع.

نصل هنا لقمة المهزلة والمأساة. هنا يقع الفوز برضا التلاميذ والعائلات عبر أغرب تنظيم للأعداد تمخض عنه عقل التزييف. فعوض الامتحان الوحيد بنتائجه التي تحكم على المستوى الحقيقي اخترعت وزارة التجهيل العمومي قاعدة مزج معدل السنة -وتتدخل بنسبة 25% في العدد النهائي – ومعدل الامتحان النهائي . الظاهرة التي لاحظها الجميع هو أن أعداد امتحان الباكلوريا رغم أوامر رفعها هي دوما في الحضيض لأنها تقيس المستوى الحقيقي للتلامذة.،أما أعداد السنة دراسية فهي دوما جدّ مرتفعة نظرا للتعليمات والفساد وحتى لتهديد التلامذة لأساتذتهم .

بهذه الطريقة أصبح من العادي إنجاح %80 من التلامذة ( منهم من نجح كما قال لي أحد الأساتذة ب22 على 20 ) جلهم سيتكدسون في ” جامعات” ليس لها من الجامعات إلا الاسم .

بالطبع ليس لكل هذا أي علاقة بمحاولة جادة لتخفيض من نسبة الرسوب والتعامل مع الأسباب العميقة للظاهرة ، وإنما كل ما في الأمر شراء ذمة التلميذ والعائلة وتعويم مشكل البطالة وتأخير الانفجار.

كل هذا يجب وضعه في الإطار العام أي استشراء الاستقالة والإحباط في سلك المربين الجديين ، وتسلل الانتهازيين لمراكز القرار في إطار القانون الذي يحرك كل دكتاتورية أي الولاء قبل الكفاءة ، والنقص المتواصل في تمويل المؤسسة التعليمية نظرا للخيارات الاقتصادية الليبرالية، وأولى ضحاياها في كل أنحاء العالم التعليم العمومي والصحة العمومية.

حتى يأخذ القارئ فكرة عن مستوى هذا التمويل، ليتصوّر مدرسة ابتدائية فيها 14 قسما. مثل هذه المدرسة تأخذ دينارين من كل تلميذ للضمان وملفات القسم ويبقى لها منها بالكاد 500 دينار للمصاريف العامة. أضف إليها 300 دينار تتلقاها من الوزارة.المجموع 800 سنويا للطباشير والأوراق والإصلاحات الضرورية والنظافة الخ . تصوروا ما الذي يمكن أن تفعله مدرسة بمثل هذا الاعتماد. وبالمقارنة تخيلوا الأموال التي تصرف على شراء الصحفيين الأجانب وتمويل احتفالات ذكرى الانقلاب الطبي ولا أتحدث عن الثروات المسروقة أو عن تكلفة جهاز ” الأمن”.

آه على فكرة . قمت بعملية حساب بسيطة لما تكلفته طيلة شهر الاعتصام عملية المرابطة أمام بيتي من طرف 13 عون،لا يفعلون شيئا 24 ساعة على 24 سوى إزعاج الجيران ولم يستطيعوا لحظة وقف نشاطي السياسي ولا منع زائر مصمم على دخول بيتي. افرض أن معدل راتبهم 400 دينار شهري . يكون الحاصل 5200 دينار.أضف تكلفة الأكل المقدم للمساكين و المتطلبات المختلفة للأربع سيارات المستنفرة ليلا نهارا في الجري وراء زواري والتسكع للمصالح الخاصة .هي لا تقل حسب تقدير أولي عن 40 دينار يوميا ، أي 1200 دينار شهريا. مما يجعل تكلفة مراقبة معارض واحد لمدة شهر واحد6400 دينار…. ويخصّصون 800 دينار سنويا لصيانة مدرسة فيها 14 قسما .

هذا ما يقودنا إلى المكوّن الثاني للجريمة أي التعامل مع التعليم كقضية أمنية في الأساس. ثمة في البداية “ملحمة” مادة التربية الإسلامية، وهي منذ ظهور مفهوم تخفيف البرامج (تجفيف المنابع) بصريح العبارة رهان أمني داخلي وخارجي.لكن يا لسذاجة الاعتقاد بأن التلاعب بمادة في المدرسة قادر على صياغة العقول والقلوب دون الأخذ بعين الاعتبار صورة الساهرين على التوجيه والتناقض الفاضح بين أقوالهم عن الديمقراطية وأفعالهم ، ودور العائلة والأعلام ،وحرية الأشخاص وذكائهم ! يا لسخافة الاعتقاد بأن التحكم في هذه المادة – مثل التحكم في خطبة الجمعة – سيحدّ من ظاهرة التدين، والحال كما يعرف الكلّ أن العكس هو الذي حصل، وهذا عقاب من لا يحترم ذكاء الناس !

ما يجب أن يسترعي العملية ليست نتائجها لأنها معدومة بل وعكسية كما قلت، وإنما أن برامج تعليمنا، التي تضعها نظريا وزارة تونسية ، لم تعد تخضع لمتطلبات مجتمعنا وإنما لمتطلبات مجتمعات أخرى..لمتطلبات قوى الهيمنة في نسق مع سياسة قديمة تريد السيطرة على الأذهان كشرط تمهيدي للسيطرة على الأبدان..

يوم الثلاثاء الماضي قدمت قناة Arte الفرنسية برنامجا وثائقيا رائعا عن دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA في الخمسينات في الحرب الثقافية وكيف موّلت صحفا وأفلاما وكتبا ومعارض فنية بالمئات، وكيف استخدمت مثقفين كبار من نوع Raymond Aron ، واستعملت أخس الوسائل لمنع جائزة نوبل للآداب عن الشاعر اليساري الكبير Neruda …. كل هذا لمواجهة أفكار الشيوعية .

تيقنوا أنها نفس الأساليب المستعملة اليوم لمحاربة الإسلام وأنه سيأتي يوم نكتشف فيه كم قبض هذا الإعلامي وذاك المثقف وأن برامج التربية الإسلامية في تونس والعالم العربي الإسلامي كانت توضع أساسا في واشنطن وربما في باريس ولندن…وأن النظام يقايض بهذا التجاوب مع “الأوامر العلية ” تأبيده في الحكم عبر الدعم الغربي لنصير ضدّ ” الإرهاب”.

لكن التحكم في البرامج وتطويعها لأغراض أمنية ليست التقنية الوحيدة التي يستعملها الدكتاتور للبقاء في السلطة . .نحن ننظر للجامعات على أساس أنها ….جامعات، أي مكان يتجمع فيه أساتذة وطلاب للدرس والتكوين والبحث تلبية لحاجيات مجتمع عصري . لكن من وجهة تقني القمع الذي يتحكم فينا ، هذه مجموعات بشرية كثيفة وهو لا يتحمل إلا أفرادا معزولين يسهل مراقبتهم والتحكم فيهم .ثمّ أليس تاريخنا المعاصر حافلا بالتحركات الطلابية وهل هناك أخطر من الشباب المتجمع ؟ يفرض العقل البوليسي إذن محاصرة هذه الجموع الخطرة ومراقبتها الدائمة من الداخل وإقصائها خارج وسط المدن وتذريرها على ما لا يحصى ولا يعد من” الجامعات” بحجة اللامركزية وتقريب الخدمات.

ثمة أيضا تقنية تفريقها بكل الحجج ولأطول فترة ممكنة عبر ” العطل”. ربما لا يوجد بلد ” يتمتع” فيه الطلبة و التلامذة بالكم الهائل من هذه العطل قدر الشباب التونسي. فكل حدث ذريعة لتفريق الجماهير الخطرة : قمة عربية ! نهاية كأس أفريقيا ! الخ. طلبت من أحد المربين حساب العطل التي تعرّض لها تلامذة الثانوي السنة الماضية فاكتشف هو نفسه مذهولا أن السنة الدراسية لا تتجاوز سبعة اشهر فعلية في أحسن تقدير، مما يعني سنويا خمسة أشهر تسكع وملل وبطالة مقنعة. في اليابان لا تتجاوز العطل 5 أسابيع سنويا . وتسألون عن سبب فقرنا وتخلفنا.

* كل هذا ساهم بقدر كبير في الانحدار الرهيب للتعليم ونتيجته كارثة وطنية على مستويين . الأول هو المستوى الأخلاقي . نحن أمام أجيال تعلمت الحصول على درجات لا تستحقها بجهدها وتربّت في جوّ خانق وموبوء قوامه التكاسل والخديعة والكذب،ناهيك عن بروز ظاهرة شراء المناظرات وحتى تهديد الأساتذة للحصول على شهادات لن تسوى قريبا الحبر الذي طبعت به.

من المضحك المبكي أن نرى اليوم أن كثيرا من الاضطرابات التلمذية وحتى اضرابات الطلبة تتعلق بالمحافظة على ” الحقوق المكتسبة” كلما حاولت الإدارة تدارك شيئا من الأخطاء والخطايا التي تسببت فيها خيارات مجرمة.

الثاني هو المستوى المعرفي حيث نحن أمام أجيال وقع تجهيلها ولا يمكن بالتالي أن تكون أداة أي تقدم اقتصادي واجتماعي وعلمي وثقافي وستبقى زمنا طويلا معوقا أساسيا لتطور البلاد. هذه الأجيال الجاهلة هي الخزّان الذي تغرف منه الحركات المتشددة رجالها ونساءها بعد أن انقلب السحر على الساحر وأدى مشروع تجفيف المنابع من جهة لخلق فريق من المستقيلين والمتميعين ومن جهة أخرى لزيادة رهيبة في إنتاج المتطرفين.

هذه الأجيال هي التي قد تتظاهر يوما ضد الدولة الديمقراطية وهي تحاول إعادة الاعتبار للجهد الشخصي والقيمة للدبلوم وللتعليم دوره وهيبته مع ما يتطلبه الأمر من تضحيات جبارة من قبل الجميع.

ما الحلّ؟

ثمة الأسهل وهو أن نقبل نهائيا بوجود ثلاثة طبقات تعليمية : تلك التي تدرس في الإرساليات الأجنبية وفي جامعات ما وراء البحار، وتلك التي تستجير بالتعليم الخاص الذي يعرف الجميع انتشاره الرهيب، وأخيرا الطبقة الفقيرة التي لا خيار لها غير التعليم العمومي بفقره وانحطاطه المتسارع وترقيته الآلية وشهاداته التي لن يعترف بها قريبا حتى المشغّل المحلّي، وأخيرا المصير المحتوم لأغلب خريجيه من فقر وبطالة ويأس وجريمة وانتحار وهجرة سرية محفوفة بكل المخاطر خاصة بعد أن أصبح اجتياز الحدود سرا جريمة يعاقب عليها بعشر سنوات سجن ( إرضاء للعراب الأجنبي طبعا).

وفي حالة تسليمنا بهذا الخيار فإنه يجب أن نقبل أن تونس بلد في طريق التخلّف، أننا نتقدم إلى الوراء وأن عصرنا الذهبي خلفنا. إما إذا تمردنا على هذا الخيار فلا وسيلة أمامنا غير إنهاء النظام الدكتاتوري الذي تسبّب في هذه الكارثة الوطنية ومحاسبة كل المسئولين عنها وخاصة كل وزراء التعليم الذين تتالوا على القطاع وساهموا في الكارثة . فبالمقارنة يمكن القول أن الضرر الذي تسبب فيه المفسدون والجلادون، كلاشيء لأنه ظرفي ومحلي وقابل للتدارك ، أما هم فقد دمروا مستقبل البلاد لا أكثر من هذا ولا أقل.

إن على الشباب وكل رجال ونساء التعليم التجند لإنقاذ شرفهم الشخصي والمهني ومصالحهم ورسالتهم في المجتمع . هذا غير ممكن اليوم إلا عبر الانخراط الحازم في المقاومة الديمقراطية السلمية لإنهاء هذا العهد المظلم في أقرب وقت ممكن والدخول في أشق عملية ستواجهنا جميعا للأسف في كل الميادين : إعادة التأسيس . كم سيكون الطريق شاقا طويلا لكي تتمتع تونس بالتعليم القادر على تجدّد ها. ومن ركائزه العودة لهدفي الدستور: المجانية،الإجبارية …. والعودة لمتطلبات لمجتمع من تكوين الشخصية المستقيمة المحبة للجهد والمتعودة عليه ، الممتلكة للّغة والأدوات الفكرية والثقافة العامة… والعودة لمتطلبات التنمية من توافق بين المدرسة والمجتمع و التخصص في الوقت الضروري و البحث العلمي…. وتحت راية الصدق والمسؤولية والتقييم الدائم والإصلاح الشجاع المتواصل.

سوسة 1-12 – 2006

http://cprtunisie.net