ugtt-utica-nobel-prix

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

الحدث الأبرز على الصعيدين المحليّ والدوليّ خلال الأسبوع الفارط، كان تحصّل الرباعيّ الراعي للحوار الوطني على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015 يوم الجمعة 09 أكتوبر الجاري.

وقد منحت لجنة نوبل الجائزة للمنظّمات المكوّنة لرباعي الحوار الوطنيّ تقديرا على جهودها في منع انزلاق البلاد نحو الفوضى والعنف عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويليّة 2013، ورعاية حوار وطني شامل أمّن الوصول إلى توافق الأحزاب السياسيّة في تونس وتنظيم الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة نهاية سنة 2014.

رحلة صنع “السلام” تخلّلتها العديد من الصراعات خصوصا في الملفّ الاقتصادي الذّي لم يحسم بعد، وهو ما قد يجرّ صنّاع السلام إلى معركة مستقبليّة تفرضها التناقضات الكبرى بين الطرفين الأقوى في الرباعي الراعي للحوار، أي أتحاد الشغل و منظمة الأعراف.

الفرحة بجائزة نوبل للسلام، ومناخ التحابب السائد خلال الأيّام القليلة الفارطة، لم يحجب التوتّر وبوادر الصراع المنتظر بين الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف حول ملفّ الترفيع في أجور القطاع الخّاص.

التوافق المرّ

الخامس من أكتوبر 2013، كان الانطلاقة الفعليّة لجلسات الحوار الوطني برعاية ما اصطلح على تسميته “بالرباعي الراعي للحوار” المكوّن من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، وأخيرا الهيئة الوطنيّة للمحامين بتونس.

الهدف الأساسي من هذا الحوار كان التسريع في المصادقة على الدستور، واستقالة حكومة علي العريّض واختيار حكومة تكنوقراط تتولّى تسيير البلاد فيما تبقّى من الفترة الانتقاليّة وأخيرا تحديد موعد نهائيّ للانتخابات والمصادقة على أعضاء الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات.

منذ البداية بدا جليّا مَن هما الطرفان الأقوى والأكثر تأثيرا في الرباعيّ ممثّلين في قطبي الإنتاج في البلاد؛ رأس المال من جهة والقوى العاملة من جهة أخرى. ورغم التباين الكبير بين رؤاهما إلاّ أنّ الضرورة السياسيّة أجبرتهما على تأجيل الخلافات والسعي لإيجاد مخرج سلميّ للمرحلة وضمان أقلّ الخسائر لجميع الأطراف السياسيّة، حكما ومعارضة.

استطاع الحوار الوطنيّ أن يستوعب الحراك الشعبيّ و أن يستغلّ الحشود في ساحة باردو وخروج بعض الجهات عن السيطرة في سيدي بوزيد وقفصة لإجبار حركة النهضة على الخروج من القصبة خصوصا وأنّ السيناريو المصريّ كان ماثلا في مخيّلة الجميع.

المرحلة الأولى من الحوار الوطنيّ اتسّمت بالتوافق بين جميع الأطراف المكوّنة للرباعي الراعي من أجل الضغط على حكومة عليّ العريّض وإجبارها على التنازل عن الحكم رغم مناورة هذه الأخيرة وتعمّدها المماطلة. ولكن الموقف السياسيّ الموحّد للاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف أدّى في نهاية المطاف إلى تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة بداية سنة 2014 برئاسة مهدي جمعة الذّي فرضته منظّمة الأعراف في الدقائق الأخيرة.

الملّف الاقتصادي وبداية التصدّع

بعد حسم المسألة السياسيّة، توجّهت منظّمة الأعراف لبحث الملفّ الاقتصاديّ بمساندة حكومة مهدي جمعة، رغم أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل كان متردّدا في الخوض في المسائل الاقتصاديّة العالقة، مفضّلا انتظار الانتخابات العامةّ والتباحث مع حكومة شرعيّة منتخبة.

حروب التصريحات انطلقت حينها بين الاتحاد ومنظّمة الأعراف، كما لوّحت منظّمة الشغيلة بالانسحاب من اللجان التحضيريّة للحوار الوطني الاقتصاديّ في أكثر من مناسبة نظرا لإصرار منظّمة الأعراف على تجاوز العديد من الملفّات الاقتصاديّة المصيريّة على غرار الإصلاح الجبائي وسياسة الترفيع في الأسعار بالإضافة إلى طبيعة الحلول المطروحة والتي اعتبرها الاتحاد ترقيعيّة لا غير.

النقاطة الخلافيّة الكبرى في الحوار الوطنيّ الاقتصاديّ آنذاك تمثّلت في موقف الاتحاد العام التونسيّ للشغل الرافض لسعي منظّمة الأعراف للانحراف بالأهداف الأساسية المتعلّقة بإيجاد حلول للمشاكل العاجلة إلى مناقشة الإجراءات الهيكليّة والاستراتيجية للاقتصاد الوطنيّ. إذ سعى الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة إلى حسم العديد من الملفّات الاستراتيجيّة كوضعيّة القطاع العموميّ ودعم المواد الأساسيّة والشراكة بين القطاعين العم والخاصّ وتأجيل النظر في مطالب الترفيع في الأجور في القطاع العام والخاصّ تحت مظلّة الهدنة الاجتماعيّة، وهو ما اعتبره سامي العوّادي، عضو المكتب التنفيذي للإتحاد، خطّا أحمرا لا يدخل ضمن صلاحيات جلسات الحوار الوطني أو الحكومة الانتقاليّة.

ولم تستطع منظّمة الأعراف في نهاية المطاف تمرير مشاريعها، ليمرّ الصراع إلى مرحلة جديدة عقب الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة في أكتوبر ونوفمبر 2014.

إعادة التموقع بعد تشكيل المشهد السياسي الجديد

بعد توضّح الصورة إثر انتخابات أكتوبر 2014، يجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه معزولا في ظلّ التقسيم الجديد للمجلس النيابيّ وحضور منظّمة الأعراف كلاعب سياسيّ أساسي في المستقبل ب21 نائبا يمثّلون 10% من نوّاب المجلس الجديد. إضافة إلى انتماء 60% من هؤلاء النوّاب لحزب نداء تونس الذّي وبحكم نتائج الانتخابات تولّى تشكيل الحكومة، ممّا يجعل من التقاء مصالح الطرفين أمرا حتميّا.

وقد انعكس ذلك عبر تناغم الرؤى بين الحكومة الجديدة ومنظّمة الأعراف بخصوص الملفّات الاقتصاديّة الكبرى المتعلّقة بمستقبل القطاع العموميّ وبرنامج الشراكة بين القطاعين الخاصّ والعامّ والتسهيلات المطلوبة للتشجيع الاستثمار كمراجعة مجلّة الاستثمار والمنظومة الجبائيّة.

الدور الجديد لمنظّمة الأعراف لم يقتصر على العمل النيابيّ، إذ انعكست رغبتها في لعب دور أكبر عبر التدخّل في عديد القضايا السياسيّة على غرار المشروع الجديد للمصالحة الوطنيّة يتمثّل في المبادرة التي أطلقتها رئيسة الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والصناعات التقليديّة في الأسبوع الأوّل من شهر جويليّة الحالي تحت عنوان “سنة لإنقاذ تونس”، والتي تضمّنت ثمانية شروط لتبدأ المنظّمة “بإنقاذ تونس” من أزمتها الاقتصادية من ضمنها مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة و المالية.

من جهته، انشغل الاتحاد العام التونسي للشغل خلال الفترة التي تلت تشكيل حكومة الحبيب الصيد بملفّ الترفيع في الأجور في القطاع العام عبر سلسلة من الجلسات والاضرابات القطاعيّة التي فاقت 150 إضرابا منذ بداية 2015 بحسب وزارة الشؤون الاجتماعيّة.
ماراطون التفاوض انتهى بتوقيع اتفاق مع الحكومة في 22 سبتمبر 2015 نصّ على الترفيع في أجور العاملين في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي للسنوات الثلاث المقبلة*.

هل يصمد “السلام” الهشّ امام الاستحقاقات القادمة؟

ظلّ القطاع الخاصّ في تونس، والذّي يعدّ ما يفوق المليوني عاملا وموظّفا، أحد الملفات المنسيّة نقابيّا، حيث تمّ هضم حقوق مئات الآلاف من هؤلاء تحت عناوين كثيرة أهمّها التشجيع على الاستثمار عبر الضغط على كتلة الأجور، أو بمعنى أوضح دفع عجلة الاقتصاد على حساب الظروف المعيشيّة للعاملين في القطاع الخاصّ. هذا التجاهل أفرز وضعا صعبا تمثّل في استفحال معضلة التشغيل الهشّ.**

الاتحاد العّام التونسي للشغل طرح بجديّة هذه المرّة وضعيّة القطاع الخاصّ، مطالبا منظّمة الأعراف بوقف المماطلة وضع حدّ للانتهاكات القانونيّة والماديّة للعاملين صلب المؤسّسات الخاصّة. وقد توتّرت الأجواء قبيل الإعلان عن الفائزين بجائزة نوبل، إذ وبعد الامضاء على اتفاقيّة الزيادة في القطاع العام، توجّه الاتحاد العام التونسي للشغل مباشرة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة ليطالبها بوقف المماطلة والجلوس إلى طاولة الحوار ومعالجة هذا الملّف.

الإجابة كانت التجاهل ومحاولة التملّص من الخوض في هذا الموضوع بدعوى صعوبة الظرف الاقتصاديّ ومراعاة الوضع الاقتصاديّ المتأزّم للمؤسّسات الخاصّة. ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل بدا مصمّا على ضرورة الحسم في ملفّ القطاع الخاصّ مهددا بإضراب عام في جميع المؤسّسات الخاصّة في سابقة تاريخيّة مثّلت استثناءا في تاريخ العمل النقابيّ. تهديدات الاتحاد تبلورت عمليا في الحشد والتحضير للإضراب العام عبر الإعلان عن 20 أكتوبر القادم كيوم للإضراب في صفاقس في أكثر من 165 مؤسّسة خاصّة.

جديّة التهديدات دفعت منظّمة الأعراف هذه المرّة إلى الردّ بحدّة على التصريحات العنيفة لعدد من أعضاء المكتب التنفيذيّ لمنظّمة الشغيلة لتعلن في بيان صادر عنها يوم 29 سبتمبر الماضي عن رفضها «للتصعيد الأخير على الساحة الاجتماعية والتهديد بإضراب عام في القطاع الخاص من طرف الاتحاد العام التونسي للشغل».
ولتؤكّد بشكل صريح «على جاهزيتها بكافة هياكلها ومنظوريها للتصدي لكل التهديدات والرد عليها، وعلى كل محاولات المساس بالمنظمة والإضرار بمصالح المؤسسة الاقتصادية».

هذا البيان الذّي حمل توقيع رئيسة المنظّمة وداد بوشمّاوي عكس حجم التوتّر بين الطرفين واستغنائها عن الأساليب الديبلوماسيّة في مناقشة القضايا الخلافيّة، وهو ما أنذر بدفع الأمور بسرعة نحو صراع حقيقيّ اكّده الاتحاد بنيّته تنظيم تجّمع عماليّ ضخم في ساحة محمّد عليّ في منتصف شهر أكتوبر لإجبار الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة على الرضوخ لمطالبه.

جائزة نوبل للسلام، لم تستطع سوى تأجيل المعركة، فبعد دعوات حكوميّة للجلوس إلى طاولة الحوار وتجنّب إدخال البلاد في اضطرابات اقتصاديّة جديدة وتحرّكات احتجاجيّة في غير أوانها خصوصا مع صعوبة الظرف الأمنيّ، حدّد الطرفان يوم 13 أكتوبر الجاري كموعد لجلسة أولى من أجل النقاش حول ملفّ الزيادات في أجور العاملين في القطاع الخاصّ في مقرّ وزارة الشؤون الاجتماعيّة.
حضر الطرف النقابيّ ولكنّ منظّمة الأعراف تغيّبت، لتنطلق من جديد حرب التصريحات والتهديدات، وكأنّ “صنّاع السلام” سرعان ما ضاقوا ذرعا بالتوافق المرّ الذّي انهار أمام حتميّة التناقضات الجوهريّة بين من يملكون ومن ينتجون.

هوامش

* وذلك بحدود 50 دينارا للعاملين و55 دينارا للمسيّرين و60 دينارا للكوادر، كما نصّ الاتفاق على اقتطاع أيام الإضراب القانوني من الأجور فقط دون المساس بالمسار المهني للأعوان وتفعيل الاتفاق المتعلق بإدماج الجزء من عملة الحضائر المنتدبين ما قبل سنة 2011 في أجل أقصاه 30 نوفمبر المقبل مع مواصلة النظر في وضعية عملة الحضائر المنتدبين بعد 31 ديسمبر 2010.

** تتجاوز نسبة المشتغلين بعقود محدّدة المدّة أو وفقا لآليات التشغيل كمنظومة تربّصات الإعداد للحياة المهنيّة SIVP والتي تتجاوز نسبة 60% من نسبة العاملين. وهي آليّات ضعيفة للتشغيل ولا يمكن أن تضمن عملا قارّا ودائما للمواطن التونسيّ وتجعل من احتمال الطرد أو عدم التجديد فرضيّة عالية ممّا لا يسهم فعليّا في الحدّ من نسبة البطالة.