تحيين بتاريخ 6 أكتوبر 2017
أصدرت رئاسة الحكومة بتاريخ 05 أكتوبر 2017 المنشور عدد 27 المتعلّق بالتزام الإدارة بواجب الحياد بمناسبة الانتخابات البلدية. وتوجّه هذا المنشور إلى الوزراء وكتّاب الدولة والولاّة ورؤساء النيابات الخصوصية والمديرين العامّين للمؤسسات العمومية والرؤساء المديرين العامّين للمنشآت العمومية بتحجير “كلّ أشكال الدعاية الانتخابية” و”استعمال أي وسائل أو موارد عمومية لفائدة قائمة مترشّحة” أو “لتعطيل قائمة مترشّحة”. كما يُلزم المنشور جميع السلط بتدابير ضمان واجب الحياد والنزاهة طوال الفترة الانتخابية مع التأكيد على ضرورة التبليغ عن أي تجاوزات تُسجّل في الغرض.

لم يتوان العديد من المتدخّلين من الأحزاب السياسية الحاضرة، يوم الاثنين 18 سبتمبر 2017 خلال اللقاء الذي نظّمته الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات للنظر في مسار الانتخابات البلدية بحضور ممثلين عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ومجلس نوّاب الشعب، في التذكير بالإخلال الكبير الحاصل في استيفاء شرط حياد الإطارات المحلية المُشرفة على النيابات الخصوصية البلدية في الفترة الانتقالية التي تسبق إجراء الانتخابات. حيث أجمعت كلّ من الجبهة الشعبية وحركة مشروع تونس وحزب التكتّل والحزب الجمهوري وأحزاب أخرى من المعارضة إلى تسييس المعتمدين المسيّرين للمجالس المحليّة وولاءاتهم للأحزاب الحاكمة، وهو ما يُمثّل خطرا على نزاهة العملية الانتخابية في مُختلف محطّاتها، ابتداء بتقديم الترشّحات وإدارة الحملات الانتخابية والاقتراع العامّ ثمّ الإعلان عن النتائج، ويشكّك في مشروعية هذا الاستحقاق الانتخابي برمّته.

التضارب بين المبدأ القانوني والعمل السياسي الحزبي

مثّل تحييد الإدارة أحد الشروط الرئيسية لإجراء الانتخابات البلدية التي لم يتمّ الالتزام بها. الأمر الذي جعلها في الوقت نفسه، أحد المطالب التي رفعها المنادُون بالانتخابات وأحد أهمّ الحجج التي تعلّلت بها الأحزاب السياسية لتأجيل موعد الانتخابات. هذا المُحدّد الذي لا يبدو جديدا، سبق ونبّهت إليه هيئة الانتخابات منذ فتح باب النقاش في مارس الفارط حول تحديد موعد الانتخابات البلدية وقبل المضي في الاستعداد لإنجازها في 2017، حيث أشار شفيق صرصار في مداخلاته حول الاستعداد للانتخابات البلدية إلى أنّه ”من الشروط الأساسية التي يجب العمل عليها هي ضمان حياد الإطارات المحلية باعتبارها أوّلا ممثّلة للدولة ولكنها تحمل في الآن نفسه قبّعة سياسية، وهنا يجب أن نكون واضحين أنّ القانون الانتخابي الحالي يعتبر أي تدخّل للإطارات المحليّة في الانتخابات، جريمة انتخابية يعاقب عليها القانون وتلغي جزئيا نتيجة الانتخابات“.

هذا ويتماشى هذا التنبيه مع مبدأي الحياد والنزاهة اللذان تخضع لهما الوظائف الإدارية التابعة للدولة بعيدا عن أي تضارب بينها وبين العمل السياسي، حيث ينصّ الفصل الثالث من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الأحزاب السياسية على أن ”تحترم الأحزاب السياسية في نظامها الأساسي وفي نشاطها وتمويلها مبادئ الجمهورية وعلوية القانون والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي على السلطة والشفافية والمساواة وحياد الإدارة (…)“ وكذلك الفصل السابع من نفس المرسوم الذي يمنع الولاّة والمعتمدين الأوّل والكتّاب العامين للولايات والمعتمدين والعمد من الانخراط في أحزاب سياسية.

في نفس هذا السياق، ذهب مجلس نوّاب الشعب نحو التنصيص على الالتزام بحلّ النيابات الخصوصية التي لا يترأسها المعتمد وتعويضها في آجال 8 أشهر قبل موعد الانتخابات ضمن جملة من التنقيحات التي أُلحقت على القانون الأساسي المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء وصادق عليها مجلس النوّاب يوم 31 جانفي 2017.

يتم الانتهاء من تعويض تركيبة النيابات الخصوصية بالبلديات التي لا يترأسها معتمد في أجل أقصاه ثمانية أشهر قبل التاريخ المحدّد لإجراء الانتخابات البلدية. الفصل 175 مكرّر من القانون المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء

ومنذ ذلك الوقت، جدّدت الحكومات المتعاقبة التزامها بهذا المحدّد، حيث تمسّك الحبيب الصيد ثمّ يوسف الشاهد بتعويض النيابات الخصوصية في الآجال القانونية، غير أنّ استيفاء هذا الشرط تُقابله على أرض الواقع تضييقات إجرائية من جهة وسياسية من جهة أخرى. فمن جهة أولى، وباعتبار أنّ عدد البلديات ارتفع من 264 بلدية إلى 350 ليفوق بكثير عدد المعتمديات، فإنّ بعض المُعتمدين مضطرّون، وفق المُحدّد القانوني السابق ذكره، إلى الإشراف على أكثر من نيابة خصوصية بلدية بالإضافة إلى المهام الاعتيادية التي تدخل ضمن مشمولاتهم بالمعتمدية. كما أنّ فترة التسيير والتي ضُبطت في حدود ثمان أشهر في النصّ القانوني سيتمّ تمديدها، وذلك بمعزل عن صعوبة تسيير كلّ هذه النيابات الخصوصية البلدية، وهو ما سيجعل الوضع أكثر تدهورا مستقبلا. ثمّ من جهة ثانية، فإنّ تحييد الإطارات المحلية اللامحورية، وخلافا لما تنصّ عليه القوانين والأوامر الحكومية والمناشير والقرارات الإدارية، لا يتطابق والتعيينات الحزبية مركزيا ومحليا.

ولهذا السبب بالتحديد، فإنّ تحييد الإدارة –دون سواه من الشروط الأخرى- يبدو صعب التنفيذ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة العلاقة التي لطالما رسمتها السلطة مع الإطارات المحليّة اللامحورية كامتداد ليد التدبير الحزبي والقرارات التنفيذية المنبثقة عن القصبة أو قرطاج. وحتّى لا يبدو هذا الحكم مفاجئا لوهلة، وجب الرجوع إلى السياقات التي أُحدث فيها التقسيم الإداري بالبلاد وتنظيم الإطارات المحلية اللامحورية والتي لم تكن سوى تفويضا عن السلطة التنفيذية تحت وطأة الحزب الواحد وتعليمات مكتب الحزب، لا حسب دواليب المصلحة العامّة في الأطراف.

التمسّك بالمنظومة القديمة والرجوع إلى الوراء

هذا التضارب بين الشروط القانونية المنصوص عليها والعمل السياسي الحزبي لم تقطع معه المنظومة الحاكمة، بل على العكس تعود إليه بقوّة، لتضرب عرض الحائط مشروعية الاستحقاق الانتخابي القادم وكلّ الاستحقاقات الأخرى التي تتبعه. فرئيس الكتلة البرلمانية لحركة نداء تونس سفيان طوبال لم ينف ولاءات بعض التسميات في سلك المعتمدين لحزبه، بل على العكس تباهى مُشيرا إلى أن ”المعتمدين الجدد من أبناء نداء تونس سيسهرون على نظافة البلديات وتسيير شؤون المواطنين، وإذا اُعتبِر هذا الأمر حملة انتخابية فنحن لا نمانع في إطلاق هذه الصفة طالما أن الأمر فيه مصلحة للمواطنين“ وأضاف أنّ حزبه سيجري اجتماعا بـ”أبنائه“ الذين شملتهم حركة المعتمدين من أجل توجيههم وإحاطتهم علما بمهامهم.

للتذكير فإنّ حركة المعتمدين الأخيرة كانت في 27 جانفي 2017 وشملت أكثر من 114 معتمد بكامل ولايات الجمهورية. وقد أثارت جدلا واسعا، ووصل الأمر إلى التقاضي أمام المحكمة الإدارية بشأن بعض التسميات. كما عبّر الاتحاد العامّ التونسي للشغل في بيان له بتاريخ 2 فيفري 2017 عن ”استغرابه من بعض التسميات التي لم تعتمد فيها مقاييس الشفافية بقدر خضوعها إلى المحاصصة الحزبية والولاءات الشخصية“ كما دعى إلى ”مراجعة بعض التعيينات حفاظا على مكانة الخطّة في خدمة المواطنين والنأي بها عن التجاذبات لغاية التأثير في الانتخابات البلدية القادمة“ مشدّدا كذلك على ”مبدأ الحفاظ على حياد الإدارة وضمان ذلك خاصّة وأنّ التونسيين مقبلون على انتخابات محليّة هامّة“.

التنبيه والتحذير والتذكير لم يمنع هذه الحصيلة الكارثية التي ستكون ثقيلة على النيابات الخصوصية البلدية. فإلى جانب طول الفترة المؤقّتة منذ آخر انتخابات بلدية في 2010 وما نجم عن ذلك من تردّي في مستوى القرارات المحليّة والخدمات، ثمّ كلّ هذه المماطلة في تركيز نظام حكم محلّي جديد ومُغاير، تعود الممارسات البالية لتزيد من الارتباك في هذا المسار.