عرف التقسيم الترابي 4 مراحل: ماقبل الحماية، تحت نظام الحماية، ثمّ بعد الاستقلال والمرحلة الرابعة التي اعتمدت تقسيما جديدا يستجيب لمبدأ التعميم الذي ينصّ عليه الباب السابع بالدستور المتعلّق بالسلطة المحليّة.

تقوم السلطة المحلية على أساس اللامركزية. تتجسد اللامركزية في جماعات محلية، تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطّي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون.– الفصل 131 من الدستور

تفاوت بين التنظيم الحضري والمناطق الريفية

خضع التقسيم الإداري قبل الحماية إلى نظام القيّاد، وللقائد وظيفة جبائية بالأساس، ويشرف على مجموعة من الشيوخ الذين توكل لهم مهمّة جمع الجباية. وقد حافظت الإقامة العامّة الفرنسية على هذا التنظيم الإداري مع تقليص عدد القيّاد قصد التحكّم في المجال لاسيما الذي استوطنه المعمّرون. ولذلك مال التقسيم الإداري منذ البداية أنّ يكون محكما في الشمال وغير مضبوط في الوسط والجنوب. وميّز نظام الحماية بين المناطق الحضرية خاصّة للفرنسيين والمناطق الريفية التي بقي نظام المشيخة قائما فيها. وتمّ إحداث البلديات حيثما تركّز نشاط فيه عائدات ويسمح بتركّز السكّان كالنشاط المنجمي والصناعي والفلاحي. ثم لم تحاول الدولة التخلّي عن هذا التمييز حتى بعد الاستقلال فبقي عدم التوازن حاضرا إلى اليوم: من جهة، انعدام التوازن الجغرافي وتمركز بمقرّات الولايات وخاصّة الولايات الشرقية، حيث لا يتجاوز الوسط البلدي 9.92% من التراب الوطني مقابل 61.01% مناطق غير آهلة، ومن جهة أخرى عدم توازن ديمغرافي، حيث يعيش 68% من السكّان في وسط بلدي و35% من سكّان البلديات يعيشون بالبلديات المتواجدة بمقرّ الولايات، ثمّ 59% من البلديات هي بالولايات الشرقية بالبلاد، وبالتالي، 76% من سكّان المناطق البلدية يعيشون بالولايات الشرقية. ما أدّى إلى خلل تنموي هيكلي يتمظهر اليوم من خلال تواجد 77% من البلديات بمعتمديات ذات مؤشّر تنمية محلّي أقلّ من 0.5، مع تفاوت مشطّ يتبع تركّز المجال الحضري ففي حين يبلغ مؤشّر التنمية الجهوية بتونس 0.76 مثلا، لا يتجاوز مؤشّر التنمية بالقصرين 0.16.

نظام المراكز والأطراف

غيّرت الدولة بعد الاستقلال الإدارة القديمة واستبدلتها بهياكل لم تقطع مع النهج المركزي الخاضع للمحدّدات السياسية قبل كلّ شيء. فتجسّد هاجس تركيز وحدة الدولة في اعتماد تقسيم ترابي وإداري يعمل من خلال إطارات إدارية محليّة تماهت مع الحزب الواحد وكانت اليد التي يحرّكها في الداخل. هذا الهاجس تماشى مع قمع أي قوّة محلية أو سلطة مضادة حيث نجحت الدولة إلى حدّ ما في القضاء على النظام القبلي من خلال الجمع بين الوحدات في الشمال أو تفكيك الوحدات القبلية وإعادة تقسيمها ضمن وحدات إدارية في الجنوب.

ومثّلت الولايات المستوى الأوّل للتنظيم الإداري، وقد تطوّر عددها تدريجيا من 13 إلى 23 في حدود 1987. وأحدثت المعتمديات في المستوى الثاني من التقسيم الإداري وتطوّر عددها من 86 معتمدية سنة 1959 لتفوق 200 معتمدية في 1987. وتقلّص نظام المشيخة إلى أنّ تمّ التخلّي عنه عام 1969 وتعويضه بالعمادات، حيث تتمّ تسمية العمدة وهو بدوره أحد الإطارات المحلية التابعة للدولة. وسرعان ما تحوّل التنظيم الإداري والترابي داخل الدولة إلى أداة لتلوين البلاد بلون الحزب الواحد من خلال التعبئة التي تفشّت على مختلف مستويات السلطة من مراكز الولايات نحو المعتمديات ثم العمادات. وتبع تركيز الإطارات المحلية الإدارية تركيز الحزب، فمثلا ارتفع عدد المعتمديات في الوسط والجنوب وفق تركّز الحزب بين 1960 و1969 وكذلك تقسيم الساحل إلى ثلاث ولايات وهي المنستير والمهدية وسوسة اثر فشل التجربة التعاضدية، وإحداث ولايات قبلي وتوزر وتطاوين اثر الهجوم المسلّح على قفصة في جانفي 1980، وتقسيم ولاية تونس الكبرى إلى 3 ولايات وهي أريانة وتونس وبن عروس بعد ثورة الخبز في 1984. وبخلاف بعض القرارات المتفرّقة التي أحدثت تحويرا في التقسيم الترابي وفق سياقات سياسية وتاريخية ظرفية لم تنجح السياسات العامّة في القضاء على “مناطق الضلّ” باعتبارها لم تستند إلى إعادة النظر في التقسيم الترابي.

بلديات تخدم المواطن أو الأحزاب الكبرى؟

تمّ إحداث أوّل بلدية في 1858، وهي بلدية تونس الحاضرة. وعرف عدد البلديات تطوّرا مستمرّا من 75 إلى 112 بلدية بين 1956 و1959 ثمّ 246 في 1987، لكنّه لم يشمل كافّة المجال ولا كافّة السكّان حيث لم يشمل النظام البلدي 3.545.083 ساكن (72%) إلى حدود 2016. وخدم التنظيم البلدي نفس المحّددات رغم ارتباطه أساسا بتقريب الخدمات من المواطنين، فمن مشمولات البلدية التنظيف والتطهير والتنوير العمومي والترصيف والتعبيد وتهيئة المدينة وتجميلها. ولطالما خضعت البلديات لسلطة الوالي ووزارة الداخلية رغم أنّ مجالسها منتخبة. هذا الخطّ المحوري صلب مركزّية الدولة وتبعيّة الهياكل انعكس مباشرة على مستوى الخدمات ومنه على مشاركة المواطن. كما فتح ترأّس المعتمدين للنيابات الخصوصية بعد 14 جانفي 2011 المجال للخلط بين صلاحيات كلّ من السلطتين.

ولم يعتمد التقسيم الترابي للبلديات وحدة المساحة ولم يلتزم بمعدّل عدد السكّان، وإنّما وازن بين المراكز مع إلحاق الأطراف بالمراكز الأقرب منها. وتمّ التحوير في المناطق التي لا يغطّيها نظام بلدي في الحدود الإدارية للولايات الـ24. وكلّما تضخّمت المراكز تمّ تقسيمها. فقد أسفر التقسيم الأخير عن إحداث 9 بلديات جديدة في ولاية القصرين منها بلدية النور وبلدية الزهور وبلدية بوزقام على مستوى مركز الولاية الذي يغطّي 108.794 ساكن وأسفر بالتالي عن 84 مقعد انتخابي.
ولئن اعتمدت الدولة هذا المبدأ تقنيا فلم يقلّل التقسيم الأخير المسافة بين عدد من المناطق “الأطراف” ومقرّات البلديات، مثل بلدية تطاوين حيث يصل بعد مناطق مثل الزهراء من جهة الذهيبة حوالي 90 كلم عن مقرّ البلدية، و84 كلم المسافة الفاصلة بين مقرّ بلدية الصمار حتى أطراف البلدية.

ويكشف التقسيم الترابي للبلديات تفاوتا على مستوى تمثيلية السكان. فلم يتمكّن من إحكام توزيع عدد المقاعد على الدوائر الانتخابية، حيث 63% من البلديات (184 بلدية) لا يتجاوز عدد سكانها 20.000 ساكن، في حين أنّ المعدّل الوطني هو 31.469 ساكن، مقابل بلديات أخرى ذات تضخّم سكّاني (أكثر من 100.000 ساكن)، وشمل التقسيم الأخير تقسيم عدد من البلديات ذات تضخّم سكّاني مثل محمدية فوشانة والتضامن منيهلة، لكن لم يتمّ تقسيم بلدية سيدي حسين مثلا رغم أنّ البلدية تضمّ أكثر من 100.000 ساكن.