بعد تمرير قانون المصالحة الإداريّة، وماراطون انتخاب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتزامنا مع تصاعد النقاشات حول مشروع قانون الماليّة 2018، أعلن 43 نائبا من الأحزاب الممضية على إتفاق قرطاج ومن المستقلّين، تشكيل كتلة برلمانية جديدة تحت اسم “الجبهة البرلمانيّة الوسطيّة التقدميّة” في 09 نوفمبر الجاري. هذا التكتّل البرلماني الجديد الذّي وُلد من رحم “فقدان التوازن السياسي” حسب بيانه التأسيسي، أعاد خلط الأوراق مع تتالي ردود الأفعال السلبيّة تجاه هذا الجسم النيابي الجديد، خصوصا من حزب نداء تونس الذّي أعلن رفضه القاطع لانضمام نواّب له إلى هذه الجبهة ونيّته الحسم فيمن التحق منهم.

تكتّل اللاعبين الثانويّين والساخطين على “التوافق”

بعد أقلّ من شهر على بدأ النقاشات حول تشكيلها، أُعلن رسميا في 09 نوفمبر الجاري عن تأسيس “الجبهة البرلمانيّة الوسطيّة التقدميّة” لتعيد تشكيل ملامح التوازنات السياسيّة تحت قبّة باردو. مبادرة أثارت عاصفة من الانتقادات  من مختلف الكتل النيابيّة. رغم التزامها بمربّع اتفاق قرطاج، وتوقيع مكوّناتها لتلك الوثيقة التي كانت بمثابة إعلان نشأة حكومة يوسف الشاهد، إلاّ انّ هذه الجبهة تعكس خطّا ثانيا لحزام السلطة البرلماني الذّي لم يعد يكتفي بدور اللاعب الثانويّ أو الانضباط لقرارات وخيارات المكتب المركزي في البحيرة. تمايز وهويّة تتجلّى من خلال تركيبة هذا الجسم النيابيّ الجديد الذّي ضمّ بالأساس نوّابا من كتلة الحرّة لحركة مشروع تونس وكتلة آفاق تونس والكتلة الوطنية إلى جانب نوّاب من حركة نداء تونس وعدد من المستقلّين.

بنية الجبهة البرلمانية الوسطية التقدميّة التي أعلنت عن نفسها في مقرّ مجلس نوّاب الشعب عكست خطّها السياسيّ الموجّه بالأساس ضدّ ما عُرف بسياسة التوافق والتحالف مع حزب النهضة في الإئتلاف الحكومي. فحزبا مشروع تونس وآفاق تونس، إضافة إلى الكتلة الوطنيّة المنشقة سابقا والذّين تحوّلوا إلى لاعبين ثانويين في المشهد السياسيّ بعد هيمنة حزبي التحالف الحاكم، يسعون لتموقع جديد ضمن الحزام الموسّع للسلطة التنفيذيّة التي يترأسها يوسف الشاهد، يقصي أو يحجّم على الأقلّ من تأثير حزب حركة النهضة على القرار السياسيّ وتوازنات مراكز الثقل في عمليات الاقتراع داخل مجلس النوّاب ويعزّز في المقابل من قدرة مكوّنات الجبهة الجديدة على التأثير والمحاصصة.

مقاصد عبّر عنها البيان التأسيسي للجبهة الوسطيّة التقدميّة بشكل واضح بإعلانها “العمل على إعادة التوازن البرلماني بتوحيد المواقف والرؤى داخل البرلمان من أجل إضفاء النجاعة على العمل التشريعي والرقابي وكل ما يتعلق بالهيئات الدستورية ومسار استكمال بناء مؤسسات الجمهورية الثانية” رسالة واضحة في إشارة إلى مسار عمليّة انتخاب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ولعبة ليّ الأذرع التي مارستها كتلتا حزبي النهضة والنداء قبيل التوافق على الرئيس الجديد. لكنّ أهمّ ما جاء في الإعلان التأسيسي كان الإشارة إلى تكوين حزام سياسي جديد لرئيس الحكومة يوسف الشاهد وفق صياغة البيان الذي جاء فيه أنّ “العمل على تحقيق الاستقرار السياسي بما يسمح بالإسراع بإصلاحات اقتصادية واجتماعية عاجلة” و”ضمان استمرارية حرب الدولة على الفساد ودعم مجهودات مؤسساتها”. حاضنة جديدة لرئيس الحكومة الذّي واجه في العديد من المناسبات تبرّما واضحا من حركة النهضة وحزب نداء تونس خلال حملة الإيقافات التي طالت بعض المتهمّين بقضايا فساد والذّي تنتظره معارك جديدة تحت قبّة قصر باردو مع تقدّم النقاشات حول مشروع قانون الماليّة 2018.

معارك جبهات الضدّ

بدأت فكرة تأسيس “الجبهة الوسطيّة التقدميّة” تتناهى إلى الأسماع منذ أكثر من سنة حين أعلنت رئيسة كتلة آفاق تونس ريم محجوب في 13 أفريل 2016، عن إمكانية ميلاد جبهة برلمانية جديدة تضم نواب كتل آفاق والنداء والحرة والاتحاد الوطني الحر والمبادرة ومستقلّين، تهدف إلى إعادة التوازن داخل مجلس نواب الشعب. سنة ونصف أسقطت من الكتلة الجديدة المُعلنة حزبي المبادرة والاتحاد الوطني الحرّ. هذا الأخير الذّي حاصرت رئيسه قضايا الفساد والتهرّب الضريبيّ قبل أن يعود ليختار الإصطفاف مع حزبي نداء تونس وحركة النهضة في مواجهة الجبهة البرلمانيّة الجديدة.

بموازاة ردود الأفعال الحادّة الصادرة عن حزب نداء تونس والتي لوّح من خلالها رئيس الكتلة النيابية للحزب سفيان طوبال ورئيسه حافظ قائد السبسي بطرد النوّاب المنضمّين إلى الجبهة الجديدة، أعلنت حركة النهضة قلقها من هذه الخطوة معتبرة إيّاها “استمرارا لمنطق الإقصاء والاستئصال الذي يستهدف الحركة” كما جاء على لسان رئيسها راشد الغنّوشي. تصريح يعكس وعي حركة النهضة بخطورة تشكيل كتلة نيابيّة تهدّد التوازنات القائمة داخل مجلس النوّاب وتمتلك القدرة على التأثير على مسار التصويت وتمرير القوانين الأساسيّة والعاديّة الخاضعة لتفاهمات لجنة التوافق. هذا بالإضافة إلى التصريحات والمساعي المتكرّرة للأحزاب المكوّنة للجبهة البرلمانيّة الوسطية التقدميّة لإنهاء سياسة التوافق وعزل حركة النهضة خارج الإئتلاف الحكوميّ، خصوصا مع تتالي هجومات رئيسي حزبي آفاق تونس ياسين إبراهيم ومشروع تونس محسن مرزوق على هذه المنظومة التي همّشت حضورهما السياسيّ صلب الحزام السياسيّ للسلطة التنفيذيّة وشكّلت أحد أبرز مرتكزات الخلاف بين رئيس حزب مشروع تونس وحزبه القديم نداء تونس الذّي فقد الأغلبيّة النيابيّة وما يزال مُهدّدا بانحسار ثقله داخل مجلس النواب.

في المقابل، ورغم إعلان عدد من النوّاب المنتمين إلى الكتلة البرلمانيّة الجديدة على غرار رئيس كتلة الحرة عبد الرؤوف الشريف على “أنّ هذه الجبهة ليست مع شخص وليست ضد اي شخص”، إلاّ أنّ ميلاد هذا الجسم النيابي الجديد فتح الباب على مصراعيه أمام حرب جبهات الضدّ تحت قبّة مجلس نوّاب الشعب. خطوة بدأت بإعلان ميلاد الترويكا الجديدة في 13 نوفمبر الجاري عقب اجتماع تشاوري بمقرّ حزب نداء تونس بين رؤساء أحزاب حركة النهضة ونداء تونس والإتحاد الوطني الحرّ وإصدار بلاغ مشترك عن تنسيق المواقف حول مشروع قانون الماليّة وانتخاب رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وأخيرا تجديد التمسّك بمضامين اتفاق قرطاج ومخرجاته السياسيّة.

الترويكا الجديدة التّي ضمّت الثلاثي الأثقل على مستوى التمثيل النيابيّ، لم تكتف بإعلان العودة إلى سياسة المحاور، بل تجاوزت الرسائل المبطّنة إلى الهجوم الصريح على باقي مكوّنات إتفاق قرطاج على لسان رئيس حزب نداء تونس والذّي استهدف بالأساس خصمه الشرس في الجبهة البرلمانيّة الجديدة ياسين إبراهيم رئيس حزب آفاق تونس بالإشارة على عدم رضا الحزب عن تمثيل آفاق تونس صلب الحكومة الذّي لا يتماشى ووزنه السياسيّ في مجلس النوّاب والشارع، وليطال هجومه حزب المسار الشريك في حكومة الوحدة الوطنيّة.

ضلال صراع الخليج تخيّم على باردو

الحراك السياسيّ الأخير لا يبدو بمعزل عن صراع ممالك الخليج العربيّ، والذّي يتجاوز في تشعّباته المجال الإقليميّ الضيّق ليشمل تقليم أظافر محوري الصراع القطري والسعودي-الإمارتي في دول ما يُعرف بالربيع العربيّ. الحركات الاسلاميّة التي انخرطت في المسار السياسيّ الانتقالي على غرار حركة النهضة في تونس تجد نفسها اليوم في قلب رحى هذا الصراع. فحكومة الترويكا التي اختارت التدثّر بالعباءة القطريّة طوال سنتين من حكمها، أصبحت تتحسّس حجم الخطر الذّي يستهدف وجودها مع انحسار نفوذ الدوحة عقب الحصار السعودي والإماراتي. الإصرار الإماراتي على المضيّ حتى النهاية في الحرب ضدّ التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لم يقتصر على التنظيمات الحزبيّة، بل شمل تفرّعاتها الجمعياتيّة والأكاديميّة على غرار اتحاد علماء المسلمين الذّي يترأسه يوسف القرضاوي ذو العلاقة المتميّزة بحركة النهضة ورئيسها راشد الغنّوشي. موقف الإمارات العربيّة المتحّدة المتصّلب تجاه الحركة تجلّى منذ سنة 2013 عندما لعبت دورا محوريا في الدفع نحو إقصاء حركة النهضة وشركائها عن الحكم خلال صائفة 2013 ودعمها الصريح لحزب نداء تونس خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014.

سياسة التحالف مع خصمه السياسي السابق، وإن مكنّت رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي من تدعيم حضوره في القصبة وتوفير حزام سياسي متين للحكومات المتعاقبة منذ سنة 2014، إلاّ أنّها أدّت إلى فتور العلاقة مع حليفه الخليجيّ منذ سنة 2015 والتّي انجرّ عنها ما عُرف حينها بأزمة “التأشيرات”. وقد دفع تمسّك حزب نداء تونس بالتحالف مع حركة النهضة بالإمارات العربيّة المتحّدة إلى بناء شبكة تحالفات جديدة ودعم منافسين جددا لنداء تونس. خطّة تتطابق مع ما جاء في دراسة صادرة عن مركز الإمارات للسياسات في بداية السنة الجاريّة، تحت عنوان “الاستراتيجيّة الإماراتية تجاه تونس”. ورقة سطّرت بوضوح ملامح المشهد السياسي الذّي تبتغيه دولة الإمارات في تونس والذّي يرتكز بالأساس على إقصاء حركة النهضة من الحكم ونسف منظومة التوافق التي ينتهجها حليفها السابق وذلك ببناء ودعم كتلة سياسيّة منافسة وموالية تتماهى والموقف الإماراتي من التنظيمات الإسلاميّة.

أجمعت بيانات كلّ من أحزاب الترويكا الجديدة، والجبهة البرلمانية الوسطيّة التقدميّة على التمسّك باتفاق قرطاج كأرضيّة للعمل السياسيّ المشترك، إلاّ أنّ المواقف والتصريحات تكشف عن نوايا متباينة للتكتّلات السياسيّة الجديدة. فبين باحثٍ عن موطئ قدم أقرب إلى القصبة، وبين ساعٍ لإيقاف نزيف التفكّك الحزبيّ وبين مستجيرٍ بتحالفات داخليّة تقِيه ارتدادات الصراعات الإقليميّة، يبدو أنّ اتفاق قرطاج الذّي رسم ملامح المشهد السياسي خلال المرحلة الفائتة قد تصدّع بشكل قد يصعب رأبه أو إخفاؤه.