مظاهرة لكشف الحقيقة عن الاغتيالات السياسية. شارع بورقيبة، 2 سبتمبر 2021. صورة لطارق العبيدي.

رغم أن مسار التقاضي في ملف الشهيدين لم يتقدم كثيرا من جانب كشف الحقيقة الكاملة بخصوص الاغتيالات وتحديد المسؤوليات، إلا أن العام المنقضي شهد تطورات مهمة في هذا الملف خاصة فيما يتعلق بالجانب القضائي. لا من ناحية تقدم الملف وإنما من جانب تعاطي القضاء مع الملف الذي ظل يتنقل بين أروقة المحاكم ومكاتب قضاة التحقيق والنيابة العامة ودوائر الاتهام، وأيضا في وسائل الإعلام وفي الندوات التي قدمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وتناول تقرير التفقدية العامة لوزارة العدل معطيات دقيقة تفيد أن القضاء كان له دور سلبي في تعطيل تقدم الملف وكشف الحقيقة.

تقرير تفقدية وزارة العدل وتلاعب القضاء بالملفات

أصدرت التفقدية العام لوزارة العدل تقريرا في مطلع سنة 2021 تضمن معطيات خطيرة حول تعاطي عدد من القضاة مع ملفات قضائية خاصة منها القضايا ذات الصبغة الإرهابية. وقد بدأت قصة التقرير عندما طالب مجلس القضاء العدلي في 24 نوفمبر 2020 بإجراء أبحاث التفقد بخصوص الشكاوى المرفوعة ضد القاضيين الطيب راشد والبشير العكرمي، وصدر تقرير التفقدية دون أن يطلع عليه الرأي العام وتم بناءً عليه إحالة مجموعة من القضاة على مجلس التأديب وعلى رأسهم البشير العكرمي.

التقرير تضمّن معطيات خطيرة جدا، ما دفع رئيس الحكومة آنذاك هشام المشيشي ووزيرة العدل بالنيابة السابقة حسناء بن سليمان لسحب تقرير التفقدية من المجلس الأعلى للقضاء. وفي أول سنة 2021، أقال المشيشي وزير العدل في إطار تحوير وزاري حتى يمنعه من إحالة التقرير على المجلس الأعلى للقضاء. كما رفض المجلس تسليم التقرير لأعضاء المجلس العدلي واكتفى بتلاوته شفاهيا لمجرد الإعلام.

يعتبر اسم البشير العكرمي من أكثر الأسماء تداولا في قضية الاغتيالات، ويواجه اتهامات بالتلاعب بالقضاء وبالملفات القضائية المتعلقة بالاغتيالات أو الملفات ذات الصبغة الإرهابية. وكان العكرمي يشغل خطة قاضي تحقيق قبل أن تتم ترقيته لخطة وكيل للجمهورية في 2016. المفارقة أن هذا الرجل هو الوحيد الذي رافق هذه القضايا من مواقع مختلفة، كقاضي تحقيق مكلّف بالملف في 2013 ثمّ بصفته وكيلا للجمهورية مشرفا بصفته تلك على مسار القضية والتحقيق، ثم بعد ذلك كمتّهم بالتلاعب بالقضية.

وحسب المحامي رضا الرداوي، عضو هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، فإنّ:

 التعتيم الذي قام به بشير العكرمي على القضايا التي وردت عليه وإهمال الأدلة والشهادات التي تدين متّهمين في قضايا إرهابية شمل أكثر من 118 قضية باشرها القضاء العسكري مثل انفجارات الشعانبي وجبال المغيلة وسمامة وأحالها على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لصبغتها الإرهابية، لم يتمّ تضمينها بدفاتر المحكمة أو الفصل فيها.

واعتبر عضو هيئة الدفاع أن بشير العكرمي تعمّد “تجزئة القضايا المتعلقة بالاغتيال وشتتها على مختلف المحاكم بدل تجميعها في القطب القضائي لمكافحة الإرهاب. وظهر ذلك من خلال عدة أمثلة منها عدم توجيه اتهامات للمدعو عامر البلعزي الذي قام بإخفاء المسدسين المستعملين في عملية اغتيال الشهيدين، والتلاعب بالاختبارات المنجزة على السيارة المستعملة في العملية الارهابية ولم يقم بعرض النتائج على المتهمين”.

مصطفى خذر، الغرفة السوداء والتستر على معلومات الاغتيال

من بين تطورات الملف في المدة الأخيرة التي أثارت حيرة المتابعين لقضية الاغتيال خبر الإفراج عن مصطفى خذر الذي تتهمه هيئة الدفاع بقيادة تنظيم سري يعمل لفائدة حزب حركة النهضة.

مصطفى خذر أنهى فترة عقوبة بالسجن لمدة ثماني سنوات من أجل تهم تعلّقت بالاستيلاء على وثائق مودعة بالخزينة وحيازة وثائق تحتاج إلى إثبات المصدر. وللتذكير فإن الوثائق التي يُتهم مصطفى خذر بالاستيلاء عليها هي “وثائق أمنية خطيرة” تمّ حجزها في 2013 قبل أن يتم التلاعب بمحضر الحجز وإخفاء الجزء الأكبر منها فيما يُعرف بالغرفة السوداء بوزارة الداخلية دون علم القضاء. وقد كشف قاضي التحقيق في قضية اغتيال الشهيد محمد البراهمي هذه الغرفة إثر ندوة صحفية عقدتها هيئة الدفاع كشفت فيها عن الغرفة السوداء وأيضا عن “تنظيم سري” يعمل لفائدة حركة النهضة.

ويُحاكم مصطفى خذر في قضية تحقيقية لدى المحكمة الابتدائية بأريانة في قضية “الجهاز السري” وتتهمه هيئة الدفاع عن الشهيدين بالتورط في التستر على معلومات تتعلق بجرائم الاغتيال وإخفاء معطيات عن القضية، وتم الإبقاء على خذر في حالة سراح، وهو ما أدى إلى الإفراج عنه بعد إنهاء فترة عقوبته في القضية الأولى المتعلقة بإخفاء الوثائق.

كل ما سبق ذكره تداولته أوساط قضائية ورسمية وأثبتت تقارير هيئة الدفاع عن الشهيدين وتقرير التفقدية العامة لوزارة العدل وجود تلاعب بالملفات القضائية خاصة في قضايا الإرهاب والاغتيالات. تسع سنوات من التقاضي والمعارك الإجرائية أبقت قضية الشهيدين في أروقة المحاكم ووسط تجاذبات السياسيين والقضاة دون أن تُكشف الحقيقة، حقيقة الأطراف التي خططت ومولت وساعدت ونفذت اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي وحاولت جهات من داخل الدولة بكل الطرق تعويم القضية وتشتيت الملفات من أجل طمس الحقيقة وضمان الإفلات من العقاب لبعض المتهمين المباشرين وغير المباشرين في الاغتيال.