سبعة و خمسون قاضيا أعلن قيس سعيّد عن إعفائهم بمقتضى أمر رئاسي صدر يوم 1 جوان 2022، مباشرة بعد صدور مرسوم منقّح للمرسوم المنظّم للمجلس الأعلى المؤقّت للقضاء، يُمكّنه من إعفاء القضاة الّذين تحوم حولهم شبهات تمسّ من سمعة القضاء أو استقلاليّته أو حسن سيره. هذا القرار لم يكن مفاجئا، لأنّ قيس سعيّد لم يُخف يومًا تحفّظاته إزاء القضاة، ولكنّ ردّ فعل القضاة كان رافضًا تماما لهذه الإجراءات، إذ قرّروا تعليق العمل بالمحاكم لمدّة أسبوع قابل للتّجديد، بداية من يوم الاثنين 06 جوان، وهو ما يطرح إشكالا بالنسبة إلى المتقاضين، الّذين سيدفعون ثمن معركة ليّ ذراع بين الرئيس والقضاة.
الإعفاءات تستهدف “السبعة الكبار”
ضربت الإعفاءات وفق أنس الحمايدي رئيس جمعيّة القضاة التونسيّين “الجانب الرّمزي للقضاء”، حيث استهدفت “السبعة الكبار” في سلك القضاة، من بينهم المتفقّد العامّ ووكيل جمهورية تونس وعميد قضاة التحقيق ورئيسة مجلس القضاء العدلي في مجلس القضاء المنحلّ، ورئيس دائرة بمحكمة التعقيب والرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بتونس.
وأضاف خلال ندوة صحفيّة أنّ 29 قاضيًا من بين الّذين تمّ إعفاؤهم، أي ما يُمثّل 50% منهم، هم قضاة تحقيق وقضاة نيابة عموميّة.
ليس الهدف من الإعفاءات تطهير القضاء، وإنّما وضع اليد على النّيابة العموميّة. لا لمنح مفاتيح السّجن لرئيس الجمهورية !
يقول أنس الحمايدي في النّدوة الصحفيّة.
من بين الملفات الّتي تمّ على إثرها اعداد قائمة القضاة المعفيين، يذكر الحمايدي إعفاء عميد قضاة التحقيق وقاضي التحقيق في قضيّة النوّاب المشاركين في الجلسة العامّة الافتراضيّة أواخر شهر أفريل 2022. نفس المصير كان ينتظر رئيسة محكمة الاستئناف بتونس الّتي يقول الحمايدي إنّها تعرّضت لضغوطات من طرف وزيرة العدل في قضيّة متعلّقة بالنزاع النقابي حول مؤتمر الاتحاد العامّ التونسي للشغل.
ويرجح الحمايدي أن: “أغلب هذه القائمات أعدّتها وزارة الداخليّة عن طريق التنصّت والتقارير السريّة”، وهي “الجهات المخوّلة” الّتي نصّ عليها المرسوم وفق رئيس جمعيّة القضاة التونسيّين، الّذي استطرد بالقول:
لماذا لا يتحدّث الرئيس عن الفساد في وزارة الداخليّة؟ على من تسلّطت عصا البوليس الغليظة؟ أين توجد أجهزة القتل والرّدع؟
إضراب القضاة: ليّ ذراع السّلطة
تزامنا مع أوّل أيّام الإضراب الّذي اعتزم القضاة تنفيذه، اجتمع قيس سعيّد بوزيرة العدل ليلى جفّال يوم 6 جوان، ليؤكّد “أن المرفق العمومي للدولة لا يمكن أن يتوقّف”، داعيًا إلى “ضرورة اقتطاع أيام العمل واتخاذ جملة الإجراءات الأخرى المنصوص عليها بالقانون حتى لا يتكرّر المساس بمصالح المتقاضين”، وفق ما ورد ببلاغ رئاسة الجمهورية.
يقول أحمد صواب، الرئيس الشرفي لاتحاد القضاة الإداريين، لنواة في هذا الصّدد: “نحن نمرّ بظرف استثنائي وبفترة فاشيّة لا يمكن مواجهتها بالحلول العاديّة”، في إشارة إلى اللّجوء إلى الإضراب كآخر الحلول المُتاحة للضغط على الرئاسة ومحاولة تعديل الكفّة لصالح القضاة، مضيفا “هناك على الأقلّ عشرون قاضيًا عُزلوا لأسباب سياسيّة، إمّا لأنّهم طبّقوا القانون، أو لأنّهم ضدّ مسار 25 جويلية”.
قضاء بسُرعتَين
ترقد في رفوف المحاكم عديد القضايا، وتطول مدّة الإيقاف التحفّظي ضدّ المظنون فيهم لسنوات، في الوقت الّذي تحدّد فيه مجلّة الإجراءات الجزائيّة في فصلها 85 مدّة الإيقاف ب6 أشهر في الجنايات والجُنح المتلبَّس بها، مع إمكانيّة التّمديد في مدّة الإيقاف لمدّة 3 أشهر بالنّسبة إلى الجُنح، و8 أشهر على أقصى تقدير بالنسبة إلى الجنايات، حتّى أصبح المتقاضون مُطبّعين مع طول الإجراءات، مستبطنين سير القضاء بسُرعَتين، “قضاء السّلطة والشخصيّات النّافذة”، وأنّ أحكامه “لا تسري إلاّ على الضّعفاء”.
وتبقى قضيّة الاغتيالات السياسيّة من أبرز عناوين طول الإجراءات وعدم حسم الملفّات وتوجيه التُّهم، والتي كانت سببًا في تأجيج الصّراع بين المحامين والقضاة، تماما مثل قضيّة عمر العبيدي الّتي تعود إلى سنة 2018 دون أن يتمّ إصدار حكم نهائي بشأنها، رغم أنّها أصبحت قضيّة رأي عامّ محلّي ودولي، إضافة إلى قضايا العدالة الانتقاليّة وجرحى الثورة الّتي بقيت حبيسة الأروقة منذ إحداث الدوائر القضائية المتخصصة في ماي 2018، والتي تشمل رموز القمع والأجهزة الضالعة في التعذيب والتنكيل بالخصوم السياسيّين والمتورّطين في جرائم فساد مالي.
بين القضاة والرئيس، صراع بقاء
“نجح قيس سعيّد في توحيد الهياكل القضائية ضدّه، وهي سابقة في التاريخ، لأنّ القضاة لم يخوضوا أبدا إضرابا حول مسائل مبدئيّة كما هو الحال الآن”، يقول أحمد صواب، الرئيس الشّرفي لاتحاد القضاة الإداريين لنواة، الّذي أكّد أنّ المحكمة الإداريّة شاركت في الإضراب لأوّل مرّة منذ تأسيسها.
لم تبدأ معركة قيس سعيّد ضدّ القضاء بقائمة الاعفاءات، حيث أصدر في 19 جانفي 2022 مرسوما منقّحا لقانون المجلس الأعلى للقضاء قبل أن يقرّر حلّه. مرسوم يضع حدّا للامتيازات التي يتمتّع بها أعضاء هذا المجلس. كما صرّح في 27 جانفي خلال انعقاد مجلس الوزراء أن لا وجود لحكومة قضاة أو دولة قضاة، في إشارة إلى الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية لصالح بشير العكرمي وكيل الجمهورية السابق بمحكمة تونس الّذي يسمح له بمباشرة عمله من جديد كقاضٍ، في الوقت الّذي تمّت إحالته على مجلس التأديب إثر نشر تفاصيل تقرير تفقّدية وزارة العدل المتعلّق بالشكايات الواردة من رئيس محكمة التعقيب ووكيل الجمهورية السابق بشير العكرمي حول شبهات جرائم فساد مالي وتستّر على الإرهاب.
كما أعلن سعيد يوم 6 فيفري نيّته حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وأصدر مرسوما في الغرض يوم 12 فيفري تمّ بمقتضاه إحداث مجلس أعلى مؤقّت للقضاء. بعد ان بادر بحلّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بمقتضى الأمر 117.
قبل صدور قرار إعفاء القضاة، اجتمع قيس سعيّد بوزرائه تمهيدا لقراره قائلا:
لقد أُعطيت الفرصة تلو الفرصة، وتمّ التحذير إثر التحذير حتى يُطهّر القضاء نفسه. ولا يمكن أن نُطهّر البلاد من الفساد ومن تجاوز القانون إلاّ بتطهير كامل للقضاء. هناك تأخّر وتلكّؤ وتأخير متعمّد في فتح الملفّات، بالرّغم من أنّها جاهزة. ولا يمكن أن يستمرّ الوضع دون نهاية(…) الواجب المقدّس يقتضي منّا اتّخاذ هذا القرار حفاظا على السّلم الاجتماعيّة وحفاظا على الدّولة، ولن نقبل بأيّ تطاول على القضاة الشرفاء، كما لن نقبل بأيّ تجاوز للقانون.
خلال استعراضه أسباب الإعفاء، ذكر قيس سعيّد “الفساد المالي والارتشاء والثراء الفاحش ومخالفة واجب النزاهة والتورّط في الفساد”، اضافة إلى “تعطيل التتبّع في ملفّات إرهابيّة يبلغ عددها 6268 ملفًّا، وعدم الحياد وتجاوز الصلاحيّات وتوجيه الأبحاث وخرق الإجراءات وتهديد القضاة وإخلالات في أداء الوظيفة”، وهي قضايا تخصّ تباعًا الطيّب راشد وبشير العكرمي الّلذَين تصدّرَا قائمة القضاة المعفيّين من مهامّهم.
تبدو معركة القضاة ضدّ الرّئيس معركة إجرائيّة تقنيّة، في حين أنّ المعركة سياسيّة تتطلّب إصلاحا جذريّا للمنظومة القضائيّة، خاصّة وأنّ برامج دعم إصلاح القضاء المُموَّلة من هياكل الاتّحاد الأوروبي تضخّ مبالغ هامة لدعم هذه المنظومة وتطويرها، حيث منح الاتحاد الأوروبي هبة بقيمة 60 مليون يورو، أي ما يُناهز 170 مليون دينار في 2018 لفائدة “برنامج دعم إصلاح القضاء، فيما تمّ رصد 5 ملايين يورو من الاتّحاد الأوروبي و مجلس أوروبّا للفترة الممتدّة بين 01 جانفي 2019 إلى غاية 31 ديسمبر 2021.
*جمعية القضاة التونسيين، نقابة القضاة التونسيّين، جمعيّة القاضيات التونسيات، الجمعيّة التونسية للقضاة الشبّان، اتّحاد القضاة الإداريّين واتحاد قضاة محكمة المحاسبات.
iThere are no comments
Add yours