تحقيق: باسم الحرب على الإرهاب، القصرين تتجرّع مرارة التهميش والإهانة

kasserine-terrorisme-victime

أيام قليلة ما زالت تفصل البلاد عن الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسيّة، وفي خضّم أجواء الحرب الإعلامية والسياسيّة، تحاول مدينة القصرين، القابعة في سفح سلسلة جبال الشعانبي، تبديد غيوم الشتاء الداكنة التي حجبت سماء المنطقة.
هناك، في المنطقة الأكثر رعبا في أذهان التونسيّين، تحوّلت أخبار العمليات الإرهابيّة والعمليات العسكريّة المضادة محور حديث النّاس اليوميّ، فالصورة النمطيّة التي كوّنها الإعلام حول القصرين كمعقل للإرهاب، طغت على المشاكل الحقيقيّة لسكاّنها كالفقر والتهميش وغياب التنمية، لتزداد عزلتها يوما بعد يوم، وهي تودّع في صمت وتجاهل ضحايا جدد للحرب على الإرهاب وكاّن عطش ارض تلك المنطقة لم يرتو بعد من دماء الشهداء والجرحى الذّين سقطوا خلال ثورة أهلها ضدّ ظلم نظام بن عليّ.

حيّ الزهور: قلب مدينة القصرين

Aymen-Aloudepute-front-populaire-kasserine
حمزة السايحي ضحيّة العنف البوليسي رفقة زوجته وابنته ذات الخمس سنوات أمام مسكنهم في حيّ الزهور في مدينة القصرين

صور مؤلمة علقت في أذهاننا ونحن نجول مختلف شوارع حيّ الزهور، أحد أكبر أحياء مدينة القصرين حيث يتجسّد الفقر والتهميش وامتهان الكرامة الإنسانية في أبشع صوره. على امتداد الشارع المزدحم بالنفايات والأوساخ، وبعد سلسلة طويلة من المساكن المتهالكة والمتلاصقة، حيث تنعدم الخدمات الأساسية كقنوات الصرف الصحيّ وحاويات النفايات، وجدنا أخيرا ذلك المسكن المتواضع الذّي يأوي حمزة السايحي وزوجته وابنته التي لم تتجاوز الخمس سنوات.

مأساة حمزة، الذّي يبلغ من العمر 32 عاما، بدأت منذ سنتين في مثل هذا الشهر، حين تلقّى رصاصة من دوريّة مشتركة للأمن والجيش. ويتذكّر حمزة الواقعة قائلا؛ «كنت كعادتي ممتطيا درّاجتي الناريّة على الساعة الثامنة صباحا باتجاه المصنع الذّي أعمل فيه، وقد وضعت سمّاعات في أذني، ولم ألحظ حتّى لحظة إطلاق النار عليّ أيّ شيء غريب.»

hamza-saihi-police-kasserine-bavure

ومنذ تلك اللحظة، يلازم حمزة كرسيّه المتحرّك بعد أن أصابت تلك الرصاصة عموده الفقريّ لتجعله عاجزا، إلى الأبد، عن المشي من جديد، خاصّة بعد أن رفضت السلطات المعنيّة تحمّل مصاريف عمليّة جراحيّة عاجلة، ستكلّف مئات الملايين. تتدخّل زوجته إبتسام قائلة:

لقد كان بإمكان قوّات الأمن تفادي هذه المأساة، فقد كانوا يمتطون سيّارتهم في حين كان زوجي على درّاجة ناريّة صغيرة، كما أنّ الحادثة وقعت في الساعات الأولى للصباح في وسط المدينة، لهذا فلن أصدّق أبدا أنّ ما حدث كان مجرّد خطأ.

هذان الزوجان الشابّان يعيشان منذ تلك الواقعة مأساة إنسانية وماديّة بأتمّ معنى الكلمة، فإعاقة الزوج أقعدته عن العمل وتفاقمت حالة الفقر والحاجة التي تعاني منها هذه العائلة الصغيرة، كما أنّ الجانب الإنساني من المعاناة لم يغب عن ذهن محّدثتنا التي علّقت قائلة: « لقد أصبح من المستحيل أن نحظى بطفل آخر يملأ علينا حياتنا، منذ أن أصيب حمزة تحوّلت حياتنا إلى جحيم. ورغم ذلك لم تستسلم ابتسام للواقع وطرقت جميع الأبواب بحثا عن حقّ زوجها في التعويض والاهتمام ولكنّ الجميع كان يصمّ آذانه عن معاناتها.

hamza-saihi-police-kasserine-bavure-portrait

إصابة حمزة لم تقتصر على عموده الفقريّ، حيث اخترقت الرصاصة الجانب الأيسر من جهازه التنفسيّ ممّا تطلّب نقله في البداية إلى مستشفى الأمراض الصدريّة في أريانة. أمّا رواية وزارة الداخليّة، كما جاءت على لسان الناطق الرسميّ للوزارة، كانت أنّ « حمزة لم يمتثل لأوامر التوقّف الصادرة عن الدوريّة، ممّا أثار شكوكها ».

[youtube https://www.youtube.com/watch?v=FQOJnBdFCr8&w=853&h=480]

أثناء مغادرتنا محلّ إقامة تلك العائلة المنكوبة، اعترض طريقنا احد رجال الأمن الذّين كانوا ضمن الدوريّة التي أطلقت النار متسبّبة في مقتل الفتاتين أنس وأحلام الدلهومي في حادثة مشابهة لحادثة حمزة. ابتسم هذا الأخير لمرافقنا ربيع ومضى إلى مقهى قريب للقاء بعض الأصدقاء.

يعلّق ربيع قائلا:” بعد أسبوعين من مقتل الفتاتين تمّت تبرئته وإطلاق سراحه، إنّها الحياة…” ليستطرد بنبرة جديّة هذه المرّة:

هذا الشعور بالظلم هو ما يجعل من الأمور معقّدة في هذه المدينة، فالنّاس لا يتوانون عن مناداة رجال الأمن “بالطاغوت” نظرا لكونهم حتّى هذه الساعة ضحايا العنف البوليسيّ، فالقناعة السائدة هنا أنّ شيئا لم يتغيّر في ما يتعلّق بسياسة القمع الأمنيّ والإفلات من العقاب.

club-martyrs-kasserine

حيّ النور: من أمام نادي شهداء وجرحى الثورة

داخل المقرّ السابق لشعبة حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحلّ الذّي حوّله شباب المدينة إلى نادي لتخليد ذكرى شهداء وجرحى ثورة 14 جانفي، انشغل كهلان وفتاة شابّة بتنظيف الغرف التي تعكس حالتها واقع الشباب “الثائر”. ويعود ذلك بحسب مدير النادي الذّي استشهد ابنه خلال الثورة:

شباب القصرين ينهشه اليأس والفقر والحرمان والتهميش، وهذا ما يدفعه إلى التخلّي عن كلّ ما ضحّى من أجله شباب المدينة حتّى أنّ ذكرى ملحمة 9 جانفي صارت باهتة في أذهان النّاس.

تصريحات السبسي بخصوص اختيارات الناخبين من أهل الجنوب لم تمرّ مرور الكرام في القصرين، حيث نظّم مئات الشباب مسيرة « ضدّ عودة النظام القديم وضدّ تهميش ونسيان المدن التي قامت بالثورة ». ويتدخّل عليّ وهو أحد الشباب المستقيلين من الجبهة الشعبيّة قائلا:

لقد استقلت من الجبهة الشعبيّة نظرا لدعمها الرسميّ للباجي ولحزب نداء تونس.

أمّا في الشارع، فإنّ الرأي العام ينسب تلك المظاهرة المناهضة لتصريحات زعيم نداء تونس لرابطات حماية الثورة. وهو ما يؤكّده أيمن العلوي المنتمي للجبهة الشعبيّة والنائب المنتخب عنها حديثا في مجلس النوّاب والذّي أدان محاولات “ميليشيات المرزوقي” حسب تعبيره تعكير جو المدينة المسالمة.

Aymen-Aloudepute-front-populaire-kasserine
أيمن العلوي، النائب عن الجبهة الشعبيّة في مجلس النوّاب الجديد.

ضمنيّا لا يخفي هذا النائب اليساريّ الشاب دعمه لحزب نداء تونس ومرشّحه للرئاسة الباجي قائد السبسي، حيث اعتبر أنّ « الوقت حان لإعادة النظام وهيبة الدولة، فالنهضة وحلفاؤها حاولوا تفكيك الدولة وإضعافها عبر دعمهم للمتشدّدين الإسلاميّين وعجزهم الواضح عن التصدّي للإرهاب. »

في المقهى الثقافي

centre-international-art-moderne-kasserine-musique-jeunes

أجواء وديّة كانت تسود المقهى الثقافيّ في المدينة، حيث يستعرض الشباب مهاراته في الغناء والعزف و”الراب” أمام جموع حضرت بمناسبة إحياء الجبهة الشعبيّة لذكرى الشهيد شكرى بلعيد. أمّا الضيف الرئيسيّ أيمن العلوي فكان منشغلا في الحديث تارة مع رفاقه في الحزب حول الانتخابات والبرلمان الجديد، أو يتلقّى التهاني والمطالب من آخرين، دون أن تفارق الابتسامة وجهه أو أن يضيق صدره.

ولكنّ هل ستستمّر حالة الودّ بين النائب الجديد و أهالي المدينة ؟ سؤال أجابنا عنه مازحا شقيقه اليساريّ المستقلّ إسلام العلوي الذّي لم يخفي توجّسه من التحالفات المشبوهة للجبهة، قائلا: « لا أظن ذلك، فسرعان ما سينعزل في باردو كمن سبقه من النوّاب، وسيكترون له منزلا في قرطاج ليصح السيّد أيمن.»

[youtube https://www.youtube.com/watch?v=oBicx_7Lfk8&w=853&h=480]

في ختام جولتنا، بدا لنا أنّ الحياة في القصرين قد توقّفت، عدى الحملات الدعائيّة الانتخابيّة وعمليّات التهريب المعتادة التي تهدأ من جوع بطون الأهالي. ففي انتظار الاستقرار السياسيّ “المرتقب” الذّي يأمل الأهالي أنّ قد يعالج بعض مشاكل المنطقة، تمتنع الأفواه عن المطالبة بحقوق ضاعت وكرامة امتهنت في خضمّ الحرب على الإرهاب.

Inscrivez-vous

à notre newsletter

pour ne rien rater de nawaat

1Comment

Add yours
  1. 1
    REFLET-LOULOU

    La sécurité de notre Tunisie est le devoir du citoyen.

    La Tunisie est historiquement connue en tant que terre d’accueil et de refuge. Elle avait toujours ouvert ses frontières volontairement à nos voisins et à tous les militants Algériens pendant les moments difficiles de leurs batailles et de leurs guerres pour l’indépendance. Le sang des martyrs Algériens et Tunisiens avait coulé sur notre terre quand les criminels colons Français avaient bombardé Sakyet Sidi Youssef…

    Nos frères Palestiniens demeurent reconnaissants et gardent une admiration particulière à notre peuple qui les avait reçus chaleureusement pendant leurs luttes et leurs combats d’enfer contre les colons sionistes. Le sang des martyrs Palestiniens et Tunisiens s’était mélangé honorablement pour mouiller le sol Tunisien lors du bombardement du quartier général de Feu Yasser Arafat à Hammam Echatt par les sanguinaires sionistes.

    Quant à nos frères Libyens qui vivent actuellement paisiblement parmi nous et qui ont tendance à se plaindre, il est de leur devoir de prendre en considération nos conditions dures et fragiles pour respecter nos lois et les appliquer sans réserve avant de nous critiquer ou de prendre notre Tunisie pour le Far Ouest. Ils doivent se mettre dans la tête que notre précieuse patrie passe par des conjonctures extrêmement délicates et difficiles que seul le Tunisien peut valoriser, gérer et défendre.

    En Tunisie, le citoyen qui n’a rien à se reprocher doit contribuer et se soumettre en toute confiance à tous les contrôles de sécurité exigés par nos précieux anges gardiens qui font leur tâche consciencieusement et qui sont prêts à se sacrifier pour le bien être la patrie.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *