contre-bande-tunisie
(Photo CFJ / A.M.)

 

بقلم محمد سميح الباجي عكاز

“التصدّي للعنف ليس قمعا”، بهذه العبارة برّر عضو المجلس الوطني لحزب نداء تونس، فهد تريمش حملة القمع التي تعرّض لها أهالي معتمديّة الذهيبة عقب اندلاع الاحتجاجات منذ يوم الأحد الفارط. تصريح لم يخرج عن المعهود منذ عقود. فالاحتجاجات المطلبيّة والحراك الاجتماعي لطالما جوبه بالقمع والعنف الأمنيّ حتّى بعد 14 جانفي 2011 الذّي ظنّه الكثيرين نهاية السياسة التقليديّة للسلطة في مواجهة التحرّكات الاحتجاجيّة.

ربّما تتشابه الوقائع والعناوين الكبرى للاحتجاجات بين ما حدث في سليانة في نوفمبر 2012، وبين ما شهدته بلدة الذهيبة في فيفري 2015، ولكنّ الجديد هذه المرّة تمثّل في معطى التهريب الذّي تصدّر عناوين الأخبار وتحليلات الخبراء واستأثر باهتمام الجميع بعد أن تحوّل إلى أحد المبرّرات التي استندت إليها الحكومة لتشديد الرقابة على الحدود والترفيع في الأداء الجمركيّ، بالإضافة إلى إلصاق إحداث العنف والتحرّكات الشعبيّة التي شهدتها تلك المنطقة مؤخّرا بالمهرّبين.

فإلى أيّ حد يمثّل التهريب خطرا على الاقتصاد التونسيّ وهل يرتبط كما جاء في الرواية الرسميّة بالإرهاب؟ وهل تمثّل منطقة الذهيبة بؤرة خطيرة لأعمال التهريب ونزيفا قاتلا للاقتصاد الوطنيّ؟ أخيرا، هل كان الخيار الأمنيّ هو الحلّ الأمثل في مواجهة أهالي الذهيبة التّي تتذيّل قائمة المناطق الأشدّ فقرا وتهميشا في البلاد؟

ارتدادات التهريب على الاقتصاد التونسي

عكس ما قد يتصوّره البعض، فإنّ ظاهرة التهريب والتجارة الموازية لم تكن وليدة الثورة ونتيجة لحالة التراخي الأمني عقب 14 جانفي 2011، إذ أنّ تهريب مختلف البضائع الاستهلاكيّة كالمواد الغذائيّة والأجهزة الالكترونيّة والبنزين كان يجري على مرأى ومسمع من السلطات التونسية التي كانت في الماضي تغضّ الطرف عن هذا النوع من التجارة الموازية لسببين، الأوّل يتمثّل في تورّط أصهار الرئيس السابق وبعض أفراد حاشيته عبر توفير التسهيلات اللوجيستية وتمويل اقتناء البضائع، بل وتأمين الحماية من التتبعات الأمنيّة للمهربين مستغلّين نفوذهم وفساد الجهاز الجمركيّ في مقابل اقتسام الأرباح. أمّا السبب الثاني فهو ما توفره هذه الأنشطة من مواطن رزق لعدد ضخم من متساكني المناطق الحدوديّة في ظلّ غياب سياسة تنموية حقيقيّة في تلك المناطق تكون بديلا للأنشطة الغير قانونيّة.

لكنّ هذا النشاط تفاقم بعد الثورة لعدّة عوامل أمنيّة وسياسيّة ليشمل التهريب السلاح والأفراد ولتتحوّل المسألة من مجرّد متنفّس لتخفيف وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة لأهالي المناطق الحدوديّة إلى اقتصاد موازي يهدّد بشكل حقيقيّ الاقتصاد الوطني بما يسبّبه من نزيف جبائيّ وخطر أمنيّ يهدّد استقرار البلاد بأسرها.
وقد كشف تقرير صادر عن البنك الدولي بداية سنة 2014 حجم التجارة الموازية والتهريب على الحدود التونسية الليبية والحدود التونسية الجزائرية، وبيّن التقرير أنّ التجارة الموازية تلعب دورا هاما في التجارة الثنائية مع ليبيا والجزائر وخصوصا في قطاعات معينة.

وبيّنت الدراسة أن التهريب يمثل أكثر من نصف المعاملات التجارية للبلاد مع ليبيا، وأنّه من الصعب تقدير مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر لأنها أكثر انتشارا وأكثر سرية. وأنّه مع ذلك يمكن التقدير أن ما يقارب ٪25 من البنزين المستهلك في تونس هو في شكل واردات غير رسمية من الجزائر وليبيا وكشف التقرير أنّ تجارة الوقود وزيت الوقود هي الأكثر رواجا وتعتمدها أكثر من ٪60 من الشاحنات المشاركة في هذا النشاط وأن التهريب ينشط كثيرا في ميدان السجائر بين تونس والجزائر. وقد بلغ إجماليّ حجم التهريب بين تونس ومختلف جيرانها ما قيمته 1,8 مليار دينار تونسي سنويّا وهو رقم هائل بالنظر إلى محدوديّة السوق التونسيّة والوضعيّة الاقتصاديّة الحاليّة ويعكس مدى تطوّر السوق الموازية في النسيج التجاريّ العامّ للبلاد.

هذا النشاط الغير قانوني، كان ذا اتجاهين، فالمواد المهرّبة لم تقتصر على تلك الواردة من الجزائر أو ليبيا من محروقات وسجائر وبضائع متنوّعة، ولكنّ قوافل التهريب التي تدخل البلاد كانت تغادرها محمّلة بمختلف السلع التونسيّة وخصوصا المواد الغذائيّة، وهي عمليّة أدّت إلى الضغط على الأسواق التونسيّة خصوصا بعد أن أصبح التهريب يشمل بعض المنتجات المدعمة مثل السكر والمعجنات الغذائية والزيوت النباتية والحليب، والتّي ارتفعت نفقات دعمها خلال الأربع سنوات الأخيرة بنسبة 270 %، ممّا فاقم من عجز الموازنات الماليّة للدولة والتي بلغت 12 مليار دينار خلال هذه سنة 2014.

كما أدّى استنزاف الموّاد الغذائيّة في تونس وتسريبها إلى الخارج عبر مسالك غير خاضعة لرقابة الدولة إلى شحّ بعض هذه المواد في السوق المحليّة وارتفاع نسبة التضخّم بشكل محسوس وهو ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائيّة للمواطن التونسيّ.

هذا النزيف الخطير الذي يعاني منه الاقتصاد التونسيّ نتيجة عمليّات التهريب، بالإضافة إلى العجز المالي، دفع الدولة إلى محاولة الضغط أكثر على هذه الأنشطة ومحاولة التخفيف من وطأة العجز الماليّ عبر الترفيع من الآداءات الجمركيّة وتنظيم حركة التجارة في المعابر الحدوديّة.

المناطق الحدوديّة في غياب التنمية: التهريب أو الموت جوعا

لجوء الأهالي إلى ممارسة التهريب أو حماية المهرّبين لم ينبع من مجرّد العلاقات الأسريّة أو ضعف الرقابة الأمنية، بل يعود بالأساس إلى الواقع الاقتصادي لتلك المناطق وغياب حلول بديلة تغنيهم عن الأنشطة الغير قانونيّة.

نواة التي تنقّلت خلال الاحتجاجات الدامية التي عرفتها معتمديّة الذهيبة أوائل شهر فيفري الجاري، كشفت العديد من أوجه المعاناة الاقتصاديّة التي يرزح في ظلّها الأهالي.

جولة صغيرة في تلك البلدة كافية لمعاينة التهميش الاقتصادي الذي فتك بأهالي المنطقة واضطرّهم للبحث عن موارد أخرى لضمان الحدّ الأدنى من العيش الكريم، ففي غياب المشاريع العموميّة والخاصّة على حدّ سواء، وتهالك البنى التحتيّة وغياب المرافق العموميّة، فإنّ مؤشّرات الأوضاع الاقتصادية لن تكون سوى كارثيّة.
هذا ما أكّدته مختلف الدراسات الحكوميّة التي اعترفت بالهوّة التنمويّة بين المناطق الحدوديّة وخصوصا ولاية الجنوب الشرقي، ومدن الساحل أو الشمال الشرقي التونسي.

وفق ما جاء في بيانات المعهد الوطني للإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية، فقد بلغت نسبة الفقر على المستوى الوطني 15,7% سنة 2014، في حين تراجعت نسبة الأميّة إلى 18,9% ونسبة البطالة إلى 16,5%. لكن ما أغفلته البيانات والإحصائيّات المقدّمة من قبل الحكومة، هو البون الشاسع بين الأرقام العامّة وحقيقية تلك الإحصائيّات على الصعيد الجهويّ. فولاية تتطاوين التي شهدت اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في منطقة الذهيبة تعتبر واحدة من أكثر الجهات التونسيّة فقرا وتهميشا على الصعيدين الاقتصاديّ والاجتماعي. حيث تبلغ البطالة في تلك الولاية ضعف المؤشّر الوطني بنسبة 37% في حين يرتفع هذا الرقم إلى 56% لدى أصحاب الشهائد العليا. وهو ما أدّى إلى تنامي نسبة الفقر في الولاية لتتجاوز 38% حيث لا يتجاوز معدّل الإنفاق الأسري الشهريّ 300 دينارا في حين يتضاعف هذا الرقم في ولايات الوسط والشمال الشرقيّ.

وقد برهنت الأحداث الأخيرة في الذهيبة عن ضعف البنى التحتيّة في المنطقة عموما وغياب المرافق العموميّة خصوصا منها المستشفيات، حيث اضطّرت المصلح الصحيّة في المنطقة إلى نقل بعض المصابين إلى مستشفى ولاية صفاقس نظرا لغياب التجهيزات الطبيّة والإطارات اللازمة للتعامل مع الحالات التي واجهوها، في حادثة مشابهة للمأساة التي عرفتها ولاية الكاف أواخر السنة الماضية حين عجزت الأطقم الطبيّة في مستشفى الجهة عن معالجة جنود كانوا ضحايا لعمليّة إرهابيّة في تلك المنطقة الحدوديّة التي لا تختلف كثيرا على مستوى الخصائص الاقتصاديّة ومشكلة التهريب عن الذهيبة وولايات الجنوب الشرقيّ.

إذن فإنّ الوضعيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لسكّان الشريط الحدوديّ هي الدافع الرئيسيّ وراء انخراط عدد كبير من سكّان تلك المناطق في تلك الأنشطة التي تلقى دعما وتستّرا من قبل السكان المحلّيين الذين يشعرون بالنقمة تجاه النظام المركزيّ الذي رسّخ التفاوت الجهويّ في البلاد حرم مناطقهم من نصيبهم في التنمية والثروة.
فقد استقطب الشريط الساحلي منذ ستينات القرن الماضي ما يقارب 75% من الاستثمارات العمومية وما يزيد عن 80% من الاستثمارات الخاصة، فمن خلال الدراسة التي أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار أواخر سنة 2012، يبرز الفارق جليّا بين حجم الاستثمارات في المناطق الكلاسيكيّة الجاذبة للاستثمارات على الشريط الشرقي للبلاد وبين الداخل التونسيّ. إذ يتركّز أكثر من 93% من الشركات الأجنبيّة في العاصمة والشريط الشرقي للبلاد.

طبعا وفي ظلّ هذا التهميش والحرمان من سياسة تنمويّة عادلة لم يكن لسكّان مناطق الحدوديّة من خيار سوى محاولة البحث عن مصادر أخرى لتأمين الحدّ من احتياجاتهم المعيشيّة.

المعالجة الأمنيّة في ظلّ غياب البدائل

رصدت نواة خلال تغطيتها للأحداث الدامية التي شهدتها بلدة الذهيبة من ولاية تطاوين الأسبوع الماضي حجم العنف الأمنيّ والقمع الذّي تعرّض له الأهالي إبّان خروجهم للتظاهر والتعبير عن سخطهم على ما اعتبروه خنقا للمنطقة بعد قرارات الدولة الأخيرة القاضية بالترفيع في الآداء الجمركيّ وتشديد الرقابة على المعابر الحدوديّة، وفي ذات الوقت كانت رسالة المواطنين واضحة بخصوص ضرورة إيجاد البدائل التي تغنيهم عن التهريب وتنهض بالجهة اقتصاديّا. لكنّ الردّ الحكوميّ لم يختلف عن العادة من حيث الردّ بالرصاص والغاز على التحرّكات المطلبيّة وهو ما خلّف شهيدا لم يتجاوز الواحد والعشرين ربيعا وأربعة جرحى.

هذا التحرّك الأخير لأهالي الذهيبة وولاية تطاوين وبنقردان وغيرها من المدن والبلدات الحدوديّة في مختلف أنحاء البلاد مثّل صرخة مدويّة أثارت انتباه الخبراء والمسؤوليّين الحكوميّين حول ضرورة المعالجة الجذريّة لمشاكل المناطق الحدوديّة وهو ما حاولت السلطات ترجمته عبر جلسة مع أهالي الجهة بُثّت على المباشر لتناقش المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للسكّان ولتنتبه أخيرا لضرورة التقليص من الهوّة التنمويّة التي يعاني منها أهالي الجنوب والمناطق الحدوديّة بصفة عامّة بعد أن دفع الأهالي ضريبة الدمّ.

خلال جولة نواة وحديثها مع أهالي الذهيبة، ظلّ سؤال في غاية الأهميّة دون إجابة من السلطات الرسميّة، وهو هل تمثّل الذهيبة أو بنقردان أو فريانة في القصرين وغيرها من النقاط الحدوديّة الجبليّة ذلك الخطر الاقتصاديّ الكبير الذّي تحدّث عنه المسؤولون والخبراء على حدّ سواء؟

معضلة التهريب وارتداداتها السلبيّة على الاقتصاد الوطنيّ لم ولن يكون حلّها أمنيّا مادام أهالي تلك المناطق الذّين يمثّلون بالفعل حرّاس الحدود التونسيّة مغيّبين عن المخطّطات التنمويّة، ففي ظلّ غياب أنشطة اقتصاديّة بديلة تخفّف من وطأة الفقر والبطالة وتوفّر الحدّ الأدنى من الخدمات الصحيّة والاجتماعية الضروريّة، فسيكون التهريب دائما حلاّ بديلا لهؤلاء ما دامت الدولة مقصّرة في أداء واجباتها التنمويّة في تلك الجهات، وستتحوّل السلطة والولاءات بالتدريج إلى من يقدر على تعويض الدولة هناك وإطعام الأفواه الجائعة.

أما المعالجة الأمنية التي أبدعت الحكومات المتعاقبة في تطبيقها تجاه الحراك المطلبيّ في أكثر من جهة، فقد اثبت أنّ عقيدة هؤلاء الأساسية تقوم على أساس أنّ التونسيّ الجيّد هو التونسيّ الأخرس وأحيانا الميّت.