لم تتوقّف الحرب في ليبيا يوما منذ اندلاعها في فيفري من سنة 2011، ولم تخلو الساحة الليبيّة من التدخّل الأجنبيّ منذ أن قرّر الناتو في ذلك التاريخ ارسال أساطيله لإسقاط نظام معمّر القذّافي. سقط معمّر بدعم دوليّ، ولكن هؤلاء تركوا الليبيّين وحدهم وسط غابة من السلاح والفوضى العارمة بعد أن انهارت الدولة وانقسمت البلاد إلى مربّعات نفوذ تسيطر عليها القبائل والمهرّبون والتنظيمات الجهاديّة وفصائل مسلّحة مختلفة الولاءات.

دقت طبول الحرب والتدخّل الأجنبيّ هذه المرّة، وستستهدف بحسب التصريحات خطر تنظيم الدولة داعش بعد أن تغيّرت قواعد الصراع في سوريا والعراق. وقد اتُّخِذ القرار بضبط الساحة الليبيّة التي كانت مركزا للتدريب ومعبرا رئيسيّا لآلاف المقاتلين باتجاه الشامّ وهاجسا لدول الجوار، على رأسهم تونس التي كانت قبل سنوات معبرا ”لثوّار الحريّة“ باتجاه ليبيا.

أصحاب المصالح في الساحة الليبيّة المفتوحة

قبل سنة، طُرح خيار التدخّل العسكري المباشر في ليبيا بقوّة عقب حادثة ذبح العمال الأقباط في سرت، بدعوة مصريّة صريحة وتشجيع إماراتيّ، لكن المخاوف من خوض مثل هذه المغامرة إضافة إلى الرفض الجزائريّ وموقف تونس السلبيّ تجاه هذا التدخّل ساهم في تعطيل هذا الطرح.

ويؤكّد أحد المطّلعين على الشأن الليبيّ أنّ المال لعب دورا في تحييد عدد من الأطراف الدوليّة الأوروبيّة، إضافة إلى ترسيخ التردّد الأمريكيّ إزاء التدخّل العسكريّ في ليبيا سواء ضدّ حكومة طبرق او نظيرتها في طرابلس عبر سلسلة من ”شراء“ المواقف داخل لوبيات النفوذ والقرار في أكثر من دولة.

أمّا السعوديّون فقد انغمسوا أكثر فأكثر في الحرب ضدّ اليمن، إضافة إلى الحرب بالوكالة في الساحة السوريّة ممّا ساهم بدوره في تراجع الإصرار الإماراتي والمصريّ حينها.

اليوم وفي سياق دوليّ يدفع نحو الحلّ العسكريّ مع تنظيم داعش الإرهابي أينما تواجد، وبعد تدويل الحرب في سوريا، جاء الدور على ليبيا التّي استطاع هذا التنظيم أن يُرسّخ فيها وجوده.

الدعوات للتدخّل العسكريّ المباشر في الصراع الليبيّ المحتدم منذ أكثر من خمس سنوات، جاءت من نفس اللاعبين الأساسيّين. على المستوى العربي تبدو الإمارات مصرّة على الدفع نحو الحلّ العسكريّ ضدّ التنظيمات الاسلاميّة المنتشرة على طول الساحل الليبيّ انطلاقا من داعش وصولا إلى الإخوان المسلمين في سياق سياسة ثابتة معاديّة لحركات الإسلام السياسيّ والتي تجلّت في مواقف الإمارات من حكومات الإخوان في مصر وتونس. وتسير في ركب الإرادة الإماراتية مصر الباحثة عن تصدير أزماتها الداخليّة وتأمين حدودها الغربيّة، حيث تشير بعض المصادر أن آفاق التدخّل المصريّ سينحصر على تأمين حكومة قويّة ومستقرّة في بنغازي أو طبرق، تخضع للنفوذ السياسيّ المصريّ.

شمالا، ورغم حرص الناتو على تجنّب التورّط في حرب بريّة داخل ليبيا، إلاّ أنّ الدول الأوروبيّة تصرّ على الدفع قدما نحو تدخّل عسكريّ دولي للقضاء على الخطر الداعشيّ وضبط الساحة الليبيّة. إلاّ انّ حسابات الأوروبيّين تختلف من دولة إلى أخرى، إذ يكمن الهمّ الفرنسيّ بالأساس في التحضير للانتخابات الرئاسيّة في 2017 وأهميّة توجيه ضربات موجعة لتنظيم الدولة الإسلامية داعش يمكن استغلالها فيما بعد كورقات انتخابيّة خصوصا بعد هجمات باريس التي جعلت من معطى الأمن حاسما في تقرير نتائج الانتخابات القادمة. كما انّ الحريف الإماراتيّ السخيّ يلعب دورا مهمّا في توظيف عقود السلاح والطائرات لصالح الرغبة الإماراتيّة في تشكيل ملامح الموقف الفرنسيّ.

من جانب آخر، فإنّ إيطاليا، الدولة الأوروبيّة الأقرب جغرافيا إلى ليبيا ترغب في تصحيح مسار الأحداث الذّي أقصاها من تقسيم غنائم ليبيا سنة 2011. حيث تسعى هذه الأخيرة إلى لعب دور رئيسيّ في مستقبل ليبيا التي تعتبرها منطقة نفوذ تقليديّة، إضافة إلى المعطى الجغرافيّ الذّي يجعلها المتلقي الأول لارتدادات الأزمة الليبيّة.

أمّا الموقف الأمريكيّ فيبقى غير متحمّس لمغامرة عسكريّة كبيرة في الداخل الليبيّ، ما لم تتطوّر الأحداث وتتغيّر التوازنات بشكل جذريّ يهدّد مصالحها المباشرة.

وفي هذا السياق، وبعيدا عن الراديكاليّة الإماراتيّة، فإنّ الموقفين الأوروبيّ والأمريكيّ الرافضين للتورطّ في دوّامة الرمال الليبيّة مباشرة، تدفع باتجاه عمليات جويّة مكثّفة تكمّل دور قوّات بريّة. وستتشكّل بالأساس من تحالفات آنية بين عدد من الفصائل الليبيّة على رأسها الجيش الوطني وكتائب مصراتة، التي ستقاتل في فسيفساء معقّدة على طول الخارطة الليبيّة.

فسيفساء الفوضى

الحرب المقبلة في ليبيا لن تكون بالسهولة التي قد يتصوّرها البعض، فغياب الدولة والفوضى العارمة في الساحة الليبيّة ستجعل الحرب معقّدة بحجم تعقيد خارطة انتشار الفصائل الليبيّة المتناحرة.

سقوط نظام معمّر القذّافي وانفلات الوضع الأمني إضافة إلى فوضى السلاح، أدّى بليبيا لأن تنقسم لمربّعات نفوذ قبليّة وسياسيّة متناحرة، لم تجد حتّى هذه اللحظة صيغة توحّد سياسيّ وعسكريّ واضح.

اللاعبان الأساسيّان على الأرض في العملية العسكريّة المقبلة، سيكونان بلا شكّ الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر وكتائب مصراتة. ولكن توحيد العمل العسكري بين هذين الفصلين ما يزال يشوبه الكثير من التعقيد نظرا لعلاقة العداء بينهما واعتراض كتائب مصراتة على شخص حفتر نفسه بحسب ما علمته نواة من مصادر مطلّعة.

الجيش الوطني الليبي الذّي يعتبر الطرف الأكثر تسليحا والمستفيد من غطاء جويّ ودعم إماراتي ومصريّ، ما يزال غير قادر على بسط نفوذه على الغرب الليبيّ ومن ضمنها العاصمة طرابلس الخاضعة لنفوذ كتائب مصراتة وعدد من الفصائل المحليّة عدا مدينتي جميل والزنتان. ليقتصر نفوذها على الشرق الليبيّ وطبرق بالأساس. أما مدينتا درنة والبيضاء فتخضع لسلطة فصائل جهاديّة قريبة من القاعدة على غرار كتائب شهداء أبو سليم المتمركزة في درنة بالخصوص والتي استطاعت طرد مقاتلي تنظيم الدولة داعش من داخل المدينة إثر معارك دامية السنة الماضية، في حين تظلّ عاصمة الشرق الليبيّ بنغازي مسرحا لصراع دمويّ بين الجيش الوطني وتنظيم الدولة ومجلس شورى ثوار بنغازي الذين اقتسموا المدينة فيما بينهم مع استمرار معارك التوسّع داخل أحيائها.

جبل نفوسة كما يسميه الأمازيغ، أو الجبل الغربي حسب التسمية العربيّة، يمثّل كامل الجزء المتاخم للحدود الجنوبيّة الشرقية لتونس. ويمثّل الأمازيغ، الذّين يعتنقون المذهب الإباضي الأغلبية الساحقة لسكّانه. هذه الخاصيّة المذهبيّة لأهالي تلك المدن على غرار صبراتة وزوارة والزاوية تدحض جميع المزاعم القائلة بالحضور القويّ لـ داعش في تلك المناطق، حيث يقتصر وجودها على بعض الأفراد والخلايا غير المؤثّرة عسكريا.

أما داعش، التي ستكون الهدف الأساسيّ للحرب المقبلة فتتمركز بالأساس في مدينة سرت الساحليّة وسط ليبيا منذ شهر ماي الفارط، متخّذة منها قاعدتها الكبرى للتوسّع شرق المدينة وغربها. ويُقدّر عدد مقاتلي التنظيم في الوقت الراهن بين 3500 و5000 مسلّح أغلبهم من الليبيّين. هذا العدد المحدود من المقاتلين المُحاصَرين غربا من كتائب مصراته وشرقا من الجيش الوطني الليبي، حدّ من قدرة داعش على المضي قدما في قضم الأراضي المحيطة، رغم سعي هذا الأخير على التمدّد نحو مصراتة وتوجيه التحذيرات لأهاليها. ولكن الهدف الأبرز لمقاتلي داعش في الوقت الراهن ينصب على تدعيم قدراتهم الماليّة المحدودة حاليا، وهو ما يفسّر التوجه غربا للسيطرة على الهلال النفطي الممتدّ بين سرت وأجدابيا والذّي يحتوي على 60% من الاحتياطي النفطيّ للبلاد. وقد نجحت داعش فعلا في السيطرة على النوفليّة والتقدّم بإصرار نحو البريقة وأجدابيا لإحكام السيطرة على خليج سرت بأسره.

تونس على شافّة الثقب الأسود

سنة 2011، كانت تونس مجبرة على الانخراط في الحرب ضدّ نظام معمّر القذّافي، في ظلّ حكومة مؤقّتة بقيادة الباجي قايد السبسي الذّي فتح الحدود أمام مئات الآلاف من اللاجئين ومئات ”الثوّار“ الجرحى والقادمين من أوروبا للالتحاق بالمقاتلين داخل ليبيا، بل وتؤكّد بعض المصادر أنّ غرفة العمليات الأساسيّة كانت في جزيرة جربة.

الحرب الجديدة المرتقبة في ليبيا، تثير مخاوف التونسيّين والحكومة التونسيّة أكثر من أي وقت مضى. هذه المخاوف ترجمتها تصريحات رئيس الجمهوريّة الذّي طالب بضرورة مشاورة تونس قبل بدء الحرب والتنسيق معها، ليذهب وزير الدفاع فرحات الحرشاني إلى تأكيد معارضة تونس للحرب ورفضها المشاركة بأي شكل من الأشكال. الموقف التونسيّ ينبع بالأساس من يقين السلطات التونسيّة بحجم المبالغة حول تواجد عناصر من داعش على الحدود التونسيّة، فالطبيعة المذهبيّة للمنطقة الغربيّة الليبيّة وسيطرة كتائب مصراتة والزنتان على أغلب الجبل الغربي، قلّص من قدرة داعش على التواجد بشكل مؤثّر في المنطقة. لتنحصر الأنشطة على طول الحدود الجنوبيّة الشرقية للبلاد على عمليات تهريب السلع والوقود. أما العناصر الجهاديّة فاتخذّت منها منطقة عبور لا استقرار نحو الشرق الليبيّ أو محطّات للتدريب والتوجّه نحو الشام.

هذه المواقف، لن تصمد إذا ما تحرّكت آلة الحرب، وستجد تونس نفسها مجبرة على أن تكون طرفا فيها، هذا إن لم تتحوّل إلى مرتكز لها وأكبر المتضرّرين منها. الاستعدادات التونسيّة تبدو حتّى هذه اللحظة مقتصرة على تحصين الحدود والاستعداد للسيناريوهات الأسوأ على غرار تدفق آلاف اللاجئين واختبار جهوزية القوات الأمنية والصحية لعمليات انتقاميّة جسّدتها العمليات البيضاء الأخيرة في مدنين.

أمّا عن الثمن المحتمل للحرب، فتبدو النتائج كارثيّة على عدّة مستويات. فالوضع الاقتصاديّ الحاليّ يفقد البلاد القدرة على التعامل مع مئات الآلاف من اللاجئين المحتملين الذين سيتوجّهون نحو الحدود الجنوبيّة هربا من القصف والقتال. يحدث هذا والبلاد لم تتخلّص بعد من الارتدادات الأولى لموجات اللجوء سنة 2011 على صعيد الطفرة الاستهلاكيّة وتضخّم أسعار العقّارات والضغط على صندوق الدعم. كما تطرح مسألة التهريب معضلة أخرى نظرا لدور هذا النشاط في تسكين الاحتقان الاجتماعيّ في المدن الجنوبيّة رغم آثارها الاقتصاديّة السلبيّة، وسيعني اندلاع الحرب -حتما- تشديد الرقابة على الحدود وتراجع عمليات التهريب ممّا سيؤثّر سلبا على الأوضاع الاقتصاديّة في الشريط الحدوديّ الجنوبيّ.

على المستوى الأمنيّ، فإنّ احتمال تسلّل عناصر ارهابيّة ضمن موجات اللاجئين أو تحريك بعض الخلايا النائمة داخل البلاد يبقى الهاجس الأكبر للأجهزة الأمنية في تونس. أما عن مسار الحرب وملامح الحلّ السياسيّ، فطبيعة التدخّل العسكريّ وضبابيّة التحالفات، إضافة إلى تقارب قدرات مختلف الفصائل، كلّها معطيات تنذر بأنّ الحرب القادمة ستكون أطول من جميع التوقّعات. كما أنّ التركيز على الشرق الليبيّ الغنيّ بالنفط، قد يدفع بالتضحية بغرب ليبيا لتظلّ غارقة في الفوضى دون حسم أو تدخّل ناجع لوقف القتال خصوصا وأنّ التدخّل الغربي سيجذب آلاف المقاتلين إلى ليبيا ممّا يجعل تونس على شافة ثقب أسود قد يبتلع المنطقة ككلّ.