على امتداد ستّين سنة، لعب الجيش التونسي دورا في الشأن السياسيّ، تراوح بين المساهمة كفاعل في التجاذبات السياسيّة على غرار أحداث جانفي1978 وانتفاضة الخبز سنة 1984، أو كضحيّة لتوازنات القوى داخل السلطة كما حدث فيما يعرف بقضيّة برّاكة الساحل أوائل تسعينات القرن الماضي.

في هذا السياق، أصدر مركز كارنيغي للشرق الأوسط في 24 فيفري الفارط دراسة تحت عنوان ”ثورة هادئة: الجيش التونسي بعد بن علي“، تناولت  تاريخ العلاقة بين المؤسّسة العسكريّة والسلطة منذ الاستقلال مرورا ببن علي وانتهاء بالحكومات التي أعقبت 14 جانفي 2011.

الخطوط الكبرى في تقرير مركز كارنيغي

يمثّل التقرير مرجعا على صعيد التأريخ لدور الجيش التونسيّ في مختلف المحطّات الكبرى التي عترفها تونس منذ منتصف القرن الماضى، إضافة إلى مسار إعادة هيكلة نظام الحكم وترتيب العلاقة بين مختلف أجهزة السلطة، المدنية منها والعسكريّة.

فإضافة إلى سرد المعطيات التاريخيّة المتعلّقة بعلاقة الجيش التونسيّ بالسلطة الحاكمة منذ الاستقلال إلى السنوات الخمس الأولى التي تلت 14 جانفي 2011، والاحصائيات الخاصّة بتطوّر ميزانية وزارة الدفاع خلال العقود الستّ المنصرمة، فإنّ أبرز ما يمكن استخلاصه يتمثّل في أربع نقاط أساسيّة :

  • الجيش التونسي: من التهميش إلى السيطرة على الميدان عند الأزمات
  • هاجس السلطة المدنيّة من امكانيّة الإنقلاب العسكريّ
  • لعبة الجهويات داخل الجيش
  • 14 جانفي 2011: من الثكنات إلى المجتمع المدني

الجيش التونسي قبل 14 جانفي: منقذ الضرورة

هاجس الانقلاب العسكريّ، خصوصا في فترة الخمسينات وستينات القرن الماضي، كان من أهمّ الأسباب التي جعلت الرئيس السابق الحبيب بورقيبة يعمل على عزل الجيش والحد من قدراته على صعيد التسليح والتعداد. فتلك المرحلة التاريخيّة التي شهدت صعود عدد من الضباط إلى سدّة الحكم في مصر والجزائر والعراق وسوريا وليبيا، والمحاولة الانقلابية سنة 1962، رسّخت قناعة السلطة المدنية في تونس بأنّ تعاظم قدرات القوات المسلّحة قد يشكّل الخطر الأكبر على وجودها. ويرصد التقرير أنّه طيلة العقدين الذين تليا الاستقلال أنّ الانفاق العسكريّ لم يتجاوز في أحسن حالاته 0,7% من اجمالي الناتج المحليّ.

تقادم سلطة بورقيبة، وتعاظم المعارضة لحكمه، أفقد هذا الأخير القدرة على ضبط الساحة الداخليّة التونسيّة بالاعتماد على أعوان وزارة الداخليّة والحزب. وقد أدّت الأحداث المتتالية منذ نهاية السبعينات حتّى تنحية هذا الأخير على غرار الاضراب العام سنة 1978، أحداث قفصة في سنة 1980 وانتفاضة الخبز سنة 1984، إلى الاعتماد على الجيش للإبقاء على سلطته ووضعه في الخطّ الأمامي للمواجهة مع المحتجّين ممّا أسفر عن إراقة الدماء وترهيب الشارع واستعمال الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين.

إخراج الجيش من ثكناته والزجّ به في الصراع السياسيّ، انعكس على السياسة المتّبعة للرئيس السابق الحبيب بورقيبة، إذ تضاعفت قيمة الانفاق العسكريّ بأربع مرّات خلال العقد الأخير من حكمه لتصل واردات الأسلحة إلى 320 مليون دولار سنة 1986 مقابل 20 مليون دولار سنة 1970.

ارتدادات اقحام الجيش في صراع الحفاظ على السلطة لم ينحصر على الصعيد الماليّ فحسب، بل ازداد اعتماد بورقيبة على العسكريّين في الشأن الامني. فبعد سنوات قليلة، تولّى الكولونيل بن عليّ الذّي تمّ نقله إلى وزارة الداخليّة سنة 1977 كمدير للأمن الوطنيّ، إزاحة الحبيب بورقيبة بعد عقد من ذلك التاريخ في 7 نوفمبر 1987.

وصول بن عليّ، ذي الخلفيّة العسكريّة للحكم، أتاح للعديد من الضباط تولّي مسؤوليات كبرى في بداية عهده، فتمّ تعيين الحبيب عمّار وزيراً للداخلية في العام 1987، وعبد الحميد الشيخ وزيراً للخارجية في العام 1988 ومن ثم للداخلية في العام 1990، ومصطفى بوعزيز وزيراً للعدل في العام 1989 ثم وزيراً لأملاك الدولة في العام 1990، وعلي السرياطي مديراً عاماً للأمن الوطني في العام 1991، وعدداً من ضباط الجيش الآخرين في أعلى الوظائف الأمنية.

تعاظم حضور الجيش على الساحة السياسيّة، لم يستمرّ طويلا، خصوصا مع تهديده القوى التقليديّة في السلطة، الحزب الحاكم، ووزارة الداخليّة. يشير تقرير مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أنّ خشية وزارة الداخليّة من الجيش التونسيّ، وبحثها عن ذريعة لأقصائه مجدّدا عن الشأن السياسيّ، كانت وراء زجّ القوات المسلّحة فيما يُعرف بقضيّة برّاكة الساحل، حيث أعلنت وزارة الداخليّة عن اكتشاف مؤامرة انقلابية بين الجيش والنهضة، لتشرع في اعتقال وتعذيب وطرد حوالي 244 من الضباط وضباط الصف والجنود من الجيش، من بينهم ثلاثة من المساعدين الستة لرئيس أركان الجيش.

هذه الحادثة، وإن مكّنت بن عليّ من ضرب خصمه السياسيّ الأقوى حينها ممثّلا في حركة النهضة، إلاّ أنّها هزّت ثقته في الجيش، ودفعته إلى ابعاده مجدّدا عن الشأن السياسيّ والمناصب القياديّة حتّى نهاية حكمه. ليس هذا فحسب، بل أخضع الرئيس السابق الجيش لإشرافه الشخصيّ، ليضطلع حسب التقرير بمنصب رئيس أركان القوّات المسلّحة ووزير الدفاع الفعلي طيلة فترة حكمه. كما تأثّرت مخصّصات القوّات المسلّحة التي لم تتجاوز 800 مليون دينار حتّى سنة 2011، مقابل تخصيص أكثر من مليار و400 مليون دينار لوزارة الداخليّة التّي أصبحت عماد النظام الحاكم واستحوذت على الثقة الكاملة لزين العابدين بن عليّ.

لكنّ الجيش الذّي أعيد تهميشه طيلة عقدين من الزمن، لم يستطع هذه المرّة إنقاذ بن عليّ بداية سنة 2011، إثر انتفاضة شعبيّة أجبرت هذا الأخير على الانسحاب من المشهد السياسيّ، لتتحوّل القوات المسلّحة إلى اللاعب الأبرز في الساحة السياسيّة طيلة الأشهر الأولى للثورة.

الجيش من الثكنات إلى الشارع: عهد جديد من الامتيازات

عدم تورّط الجيش في قمع المحتجّين خلال المظاهرات التي امتدت بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 حسب التقرير، إضافة إلى الإشاعة التي تداولها الشارع خلال تلك الفترة وما تلاها حول رفض الجنرال رشيد عمّار إطلاق النار على المتظاهرين، كانت مفتاح إعادة تموقع المؤسسة العسكرية في الساحة السياسيّة ولدى الرأي العام.

فأمام الفراغ السياسيّ الذّي نشأ عقب خروج بن عليّ، تولّى الجيش بشكل كامل إدارة الأوضاع الأمنية، كما تحوّل رشيد عمّار إلى مركز قوّة بالنسبة لجميع الأطياف السياسيّة كما جاء في التقرير المذكور. وقد عاد العسكريّون لتولي المناصب القياديّة، حيث تمّ تعيين اللواء أحمد شابير في منصب المدير العام للأمن الوطني في وزارة الداخلية في حين تولّى العقيد منصف الهلالي قيادة الحرس الوطني. وفي وقت لاحق، تم تعيين العميد محمد عبد الناصر بلحاج مديراً عاماً للديوانة، ”والتي كانت تحت القيادة المدنية طيلة العقد الأخير“. كما تم تعيين سبعة ضباط من الجيش كولاة سنة 2011 ليصل عددهم إلى 11 واليا قبيل اغتيال النائب محمد البراهمي وتخوف الترويكا من انقلاب الجيش عقب اعتصام الرحيل.

امتداد نفوذ القوات المسلّحة لم يتوقّف عند التعيينات، بل تمّ تفعيل مجلس الأمن القوميّ الذّي أسسه بن عليّ، كما تمّ إحداث مجلس الأمن، أو ما صار يعرف لاحقا بخليّة الأزمة والتي ضمت هي الأخرى ممثلين عن المؤسسة العسكريّة.

أمّا على الصعيد الماليّ، فقد نمت ميزانية وزارة الدفاع بشكل سريع من سنة 2011 إلى سنة 2016، وزادت بمعدل 21 في المئة سنوياً، حيث ارتفعت من 807 مليون دينار إلى مليارين و95 مليون دينار خلال تلك الفترة. ويذكر التقرير الصادر عن مركز كارنيغي أنّ عدد العقود الخاصّة بتسليح الجيش قد ارتفع بشكل بشكل مطّرد. حيث وقّعت تونس سنة 2014 عقدين عسكريين مع شركات أميركية لشراء سيارات جيب وشاحنات ثقيلة. ومنذ تولّي حكومة حبيب الصيد تلتها عشرة عقود إضافية مع الولايات المتحدة سنة 2015، بما في ذلك عقود لشراء طائرات هليكوبتر من طراز (بلاك هوك) وناقلات جند مدرعة وصواريخ مضادة للمدرّعات.

كما شهدت الفترة الانتقالية بعد العام 2011 زيادة التعاون العسكري مع الدول الأجنبية. فقد صادقت تونس على اتفاقيات للتعاون الأمني ​​مع دولة الإمارات العربية المتحدة في أكتوبر 2011، ومع تركيا في أكتوبر 2013، ومع قطر في جوان 2014. ونمت العلاقات مع الولايات المتحدة بعد 2011، التي استضافت أول حوار استراتيجي سنوي بين الولايات المتحدة وتونس، وبعدها ضاعفت مساعداتها العسكرية ثلاث مرات في العام التالي. أما في شهر جويلية 2015، فقد منحت الولايات المتحدة تونس وضع الحليف الرئيس السادس عشر من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بما تعنيه هذه الخطوة من امتيازات مادية كالحصول على التدريبات والمناورات المشتركة، والقروض لشراء معدات خاصة بالبحوث التعاونية والتنمية، والتمويل العسكري الخارجي.

هاجس الانقلاب واللعب على الجهويات

كان لاعتصام الرحيل الذّي أسقط في نهاية المطاف حكومة الترويكا، الدور الأكبر في تغذية هاجس الخوف من انقلاب عسكريّ، خصوصا وأنّ التجربة المصريّة كانت تلقي بضلالها على الساحة التونسيّة. وهو ما أكّده العميد المتقاعد مختار بن نصر، رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن العالمي، حيث جاء في شهادته:

كان الشارع والظروف يستدعيان حدوث انقلاب. وقد خشي الشعب من أن حركة النهضة تحاول تثبيت نوع جديد من الدكتاتورية. أرادوا حدوث انقلاب، كما أن الأحداث في مصر بعثت برسالة مفادها أن من المحتمل أن يفعل جيشنا الشيء نفسه

ردّ فعل الرئيس محمد منصف المرزوقي كان إعادة ترتيب الأوضاع داخل الجيش، حيث تم إدخال ضباط تعود أصولهم إلى خارج تونس العاصمة ومنطقة الساحل، ومن خارج شبكات بن علي ورشيد عمّار الشخصية. إذ أصبح بشير بدوي من بنزرت رئيس أركان سلاح الجو؛ كما تمّ تعيين نوري بن طاووس من صفاقس، وهو ملحق عسكري سابق في ليبيا، مديرا عاما للأمن العسكري؛ وتمّ تسمية محمد نفطي المنحدر من قفصة، الملحق العسكري في مصر سابقاً، بخطّة المفتش العام للقوات المسلحة، إضافة إلى تعيين العميد إبراهيم الوشتاتي أصيل ولاية جندوبة كمستشار عسكري لدى الرئاسة. أمّا الخطوة الأهمّ، فكانت الضغط على رشيد عمّار للاستقالة وتعيين محمد صالح الحامدي أصيل سيدي بوزيد رئيسا لأركان القوات البريّة.

هذه الخطوة التّي سماها عماد الدايمي ”العدالة الانتقاليّة في الجيش، لوضع نهاية لتفضيل الساحل على الداخل في الترقيات والرتب العسكريّة.“ لكن هذا الأخير تجاهل السياق السياسي عندما تعاظم هاجس الانقلاب العسكري تزامنا مع انطلاق اعتصام الرحيل واشتداد الصراع بين مؤسسة الرئاسة من جهة ورئاسة الحكومة منذ عهد حمادي الجبالي كما جاء في التقرير سابقا. لتتحوّل هذه التسميات والترقيات داخل القوات المسلّحة إلى اجراء وقائيّ وليس مجرّد اصلاح للتوازنات الجهوية.

الجيش والمجتمع المدني

مشاركة الجيش عبر ضبّاطه المتقاعدين كطرف في المجتمع المدنيّ، مثّل أبرز أوجه القطيعة مع الماضي. فهامش الحريات الكبير الذّي أعقب 14 جانفي 2011، فتح الباب أمام مشاركة العسكريّين لتكوين منظمات المجتمع المدني على غرار جمعية العدالة لقدامى محاربي الجيش ورابطة الضباط السابقين في الجيش الوطني والمركز التونسي لدراسات الأمن العالمي وأخيرا رابطة المحاربين القدامى في معهد الدفاع الوطني.

لم تكتف هذه المنظّمات بإعادة الاعتبار لرجال المؤسسة العسكريّة، عبر الضغط في مسألة تعويضات ضحايا قضية براكة الساحل، أو القيام بدراسات واستشارات أمنية ودفاعيّة، بل ساهمت بشكل فعّال في النقاشات أثناء اعداد الدستور الجديد ووضع الاستراتيجيات الدفاعية والأمنية وتشكيل الرأي العام من خلال الحضور المكثّف في الوسائل الاعلاميّة.

ولكنّ تقرير مركز كارنيغي، لم يغفل الإشارة في النهاية إلى أنّ حضور العسكريّين في المجتمع المدنيّ قد يشكّل ”جماعة ضغط جديدة تسعى لتعزيز مصالحه في حقبة ديمقراطية.“