fmi-bct-slim-chaker-chedli-ayari-dark

بعد أربعة أيّام من المصادقة على مشروع القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، أصدر صندوق النقد الدولي في 15 أفريل الجاري بيانا يعلن فيه توصّله إلى اتفاق مع تونس حول إبرام اتفاق مدته أربعة أعوام بقيمة 2.8 مليار دولار في إطار “تسهيل الصندوق الممدد”. ويوضّح البيان المذكور أنّ هذا القرض الجديد يأتي كدعم لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذّي وضعته الحكومة التونسيّة القائم على “تسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية في تونس لتخفيض مواطن الضعف، ودفع عجلة النمو، ودعم توفير فرص العمل على نحو قابل للاستمرار”.

⬇︎ PDF

عرض صندوق النقد الدولي: إعادة هيكلة الاقتصاد مقابل المال

موافقة صندوق النقد الدولي على هذه الدفعة الجديدة تأتي متزامنة مع تقدّم الحكومة التونسيّة في إنجاز ما تسميه “إصلاحات اقتصاديّة” تسارعت وتيرتها منذ سنة 2013 إثر كشف نواة عن وثائق مسرّبة تحتوي عددا من الشروط التي فُرضت على الحكومة التونسية لمواصلة تمكينها من القروض مقابل اجراء تغييرات هيكلية في الاقتصاد التونسي وتصفية القطاع العام.

التسريب الذّي نشرته نواة في 30 مارس 2013، أماط اللثام عن رسالة نوايا موجهة لـرئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد وقّعها محافظ البنك المركزي، الشاذلي العياري ووزير المالية حينها إلياس فخفاخ. أما الوثيقة الثانية فكانت عبارة عن جدول زمني لبرنامج الإصلاحات الهيكلية لسنة 2013.

استعرضت الوثيقة المذكورة أهم الشروط الواجب تنفيذها من قبل الحكومات التونسيّة للحصول على القرض المنتظر. تتلخّص هذه “الإصلاحات” كما قدّمها كلّ من محافظ البنك المركزي ووزير الماليّة في:

  • رسملة البنوك العمومية
  • تدعيم استقلالية البنك المركزي
  • الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص
  • مراجعة منظومة الدعم
  • التحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة
  • المصادقة على مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة
  • إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية
  • المصادقة على مشروع الإصلاح الجبائي

طاعة عمياء

رغم أنّ المراسلة تعود لحقبة الترويكا، إلاّ انّ حكومتي مهدي جمعة والحكومة الحالية برئاسة الحبيب الصيد، مضتا قدما في تنفيذ الشروط المطلوبة و”الإصلاحات” المتّفق عليها. وقد شهدت السنتان الأخيرتان خطوات متسارعة لتنفيذ عدد من النقاط التي تناولتها الوثيقة المُشار إليها.

حتّى يوم 11 أفريل الفارط، تاريخ المصادقة على مشروع قانون النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، كانت الحكومة قد تمكّنت من تمرير خمس من الشروط الأولى. حيث تمّ المصادقة تباعا على رسملة البنوك العمومية في 06 أوت 2015، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ في 13 نوفمبر 2015، والمضي قدما في تقليص الدعم خصوصا على المحروقات وتجميد الانتدابات في القطاع العمومي للضغط على حجم الأجور في ديسمبر 2015.

سلسة الإجراءات المتخّذة والمُصادق عليها لم تلق بالا لانتقادات الخبراء ومنظّمات المجتمع المدني. حيث انصبّ اهتمام الحكومة على تنفيذ املاءات صندوق النقد الدولي للحصول على القرض المنشود، وإعداد مشاريع قوانين تمهّد لاستكمال باقي “الإصلاحات” المطلوبة، على غرار مشروع مجلّة الاستثمار الجديدة، مشروع إصلاح القطاع البنكي والمؤسسات المالية ومشروع الإصلاح الجبائي.

القرارات الملغومة والقلّة المستفيدة

على نقيض مزاعم هيئة النقد الدوليّة حول قدرة الاصلاحات على دفع عجلة النمو، تعتبر الشروط المفروضة على الدولة التونسيّة نوعا من الألغام التي ستزيد من تفجير الوضع الاجتماعي وإقالة الدولة من دورها الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر هشاشة إضافة إلى تسخير الموارد الاقتصاديّة لفائدة القطاع الخاص.

فقانون رسملة البنوك العمومية أثار في حينها ردود فعل رافضة تواصلت حتّى بعد المصادقة على القانون، كما تحرّك بعض النوّاب ومنظّمات المجتمع المدنيّ للمطالبة بوقف الرسملة وإعادة النظر فيها. ويعود السبب إلى انّ هذا الخيار ينطوي على مخاطر جمّة خصوصا في قطاع استراتيجيّ يمثّل 40% من حجم تداولات الاقتصاد التونسي. حيث اعتبر الخبير المالي مراد الحطّاب في حوار سابق مع نواة أنّ عمليّة الرسملة ستتّم على حساب الاستثمار العمومي، خصوصا مع اتجاه الدولة لضخّ 870 مليون دينار في هذه العمليّة. هذه الخطوة الارتجاليّة بحسب تعبيره تعتبر هروبا من ضرورة البحث عن موارد حقيقيّة للدولة أو العمل على خلق قطب ماليّ موحّد. كما أضاف هذا الأخير أنّ انحسار الاستثمار العمومي في هذا الظرف الاقتصادي والسياسي الصعب سيساهم في تكريس حالة الركود الاقتصادي الشامل مع غياب استراتيجيّة اقتصادية وتنموية واضحة إضافة إلى تضخّم المديونية بشكل مستمرّ وتوجيهها نحو نفقات التصرف والاستهلاك.

أمّا المصادقة على قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاصّ، فمازالت تثير الجدل والانتقادات رغم تمرير القانون المذكور في نوفمبر الفارط. وتكمن المشكلة في إمكانية تقاطع المصالح خصوصا وأنّ 25 نائبا من مجلس النواب هم من رجال الاعمال المعنيّين بهذا القانون بشكل او بآخر. فأساس هذا القانون يقوم على تفويض الدولة للخواص بتنفيذ مشاريع بنية تحتية ومشاريع كبرى لضمان التمويلات الضرورية لها. بمعنى آخر سيتكفّل القطاع الخاص ورجال الاعمال التونسيّين والأجانب بمهام الدولة على صعيد الاستثمار العمومي، وستوكل المشاريع التابعة للمؤسّسات العمومية لشركات القطاع الخاص. هذه الصيغة تثير الكثير من الشبهات حول المستفيد الحقيقيّ من هذا القانون ومدى خدمته لمصالح رجال الأعمال الذّين تحوّلوا إلى شريك اساسيّ في السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة.

من جهة أخرى، مضت الدولة قدما في سياسة تخفيض الدعم عن المحروقات وتجميد كتلة الأجور، إذ تشير ميزانيّة سنة 2016 إلى التوجّه نحو تقليص نفقاتها خصوصا على مستوى الانتدابات في القطاع العموميّ، حيث ستعمل الحكومة على “حصر الانتدابات أساسا في حدود خريجي مدارس التكوين (وزارات الداخلية والدفاع والعدل) وبعض القطاعات ذات الأولوية”. بمعنى آخر فإنّ الدولة ستلجأ لتجميد مخطّطات التشغيل في القطاع العموميّ في محاولة منها للتقليص من حجم الأجور ونفقات التصرّف المقدّرة ب13000 مليون دينار.

أمّا الإجراء الثاني فيخصّ تخفيض الدعم العموميّ للمحروقات إلى حدود 579 مليون دينار مقارنة بـ 1286 مليون دينار الواردة في قانون المالية التكميلي لسنة 2015.  هذا وقد تمّ تقليص مخصصات الدعم تدريجيّا منذ سنة 2011 والتي كانت تقدّر ب 1536 مليون دينار.

أخيرا، تعتبر المصادقة على مشروع القانون المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي خطوة جديدة لضرب السيادة الوطنيّة، وهو موقف عبّر عنه العديد من النواب خلال جلسات التصويت الصاخبة، حيث أثارت العديد من الفصول التي تناولها مقال سابق في نواة جدلا واسعا لما عكسته من رضوخ تام لإملاءات صندوق النقد الدوليّ عبر تجريد الدولة من أدواتها الماليّة وتضييق خياراتها للتمويل الذاتيّ.

إصرار على استكمال قائمة الشروط

على الرغم من تحذيرات بعض النوّاب والخبراء الاقتصاديّين من الارتدادات الكارثيّة لهذه “الإصلاحات” على صعيد السيادة الوطنية وتسليم الاقتصاد المحليّ للقطاع الخاص وإلغاء الدور الاجتماعي الذّي تضمنه الدولة لصالح الفئات الضعيفة والمتوسّطة، إلا أنّ الحكومة ماضية قدما في تنفيذ باقي الشروط التي وضعها صندوق النقدي الدوليّ تحت عنوان “إعادة تأهيل الاقتصاد التونسي”.

إذ من المنتظر خلال الأسابيع القادمة ان يشرع مجلس النواب في النظر في مشاريع القوانين المتبقيّة تجاوبا مع طلب الحكومة التسريع في تمرير هذه القوانين في أقرب الآجال تماشيا مع إرادة صندوق النقد الدولي. وقد بدات لجنة المالية في 25 افريل الجاري مناقشة مشروع قانون عدد 2016/09 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية، فيما ينتظر ان يتم النظر تباعا في مشروع قانون عدد 2015/68 الخاصّ باصدار مجلة الاستثمار ومشروع إصلاح المنظومة الجبائيّة. ورغم أنّ الحكومات المتعاقبة بدأت النقاش مبكّرا حول هذه المشاريع، إلاّ انّها أجلّت أكثر من مرّة قبل أطراف عديدة أهمها الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة لمآخذ تتعلّق بالخصوص بنقص الامتيازات الممنوحة والمطالبة بمرونة أكبر وتخفيض الأعباء الجبائيّة على القطاع الخاصّ إضافة غلى ضغط الأجانب لتدعيم امتيازاتهم على حساب الحقوق الاجتماعيّة للعاملين والالتزامات الجبائيّة على الرغم من محدودية موارد الدولة وتفاقم التهرّب الضريبيّ

الحلقة المفرغة وسياسة الهروب إلى الأمام

هذه الدفعة الجديدة من القروض تتزامن مع تصريحات حكومية اعترفت بثقل المديونية التي بلغت بحسب وزير الماليّة 46 ألف مليون دينار تونسي سنة 2015 لتستنزف 56% من الناتج المحلي الخام سنويا.

ويعكس هذا القرض الجديد توجه الساسة التونسيّين المتعاقبين، حيث كانت إستراتيجيتهم واحدة رغم تغيّر الحكومات. الإقبال على الاقتراض لتغطية تراجع أداء الاقتصاد المحليّ وتقديم التعهدّات بتطبيق البرامج والإملاءات الخارجيّة دون الرجوع إلى الأسباب الهيكليّة والخيارات الكبرى أدّى إلى الوقوع في دوّامة المديونية وتوظيف جزء هام من المدخرات الوطنية والمحاصيل الجبائية لتسديد خدمة الدين، وهو ما يتم على حساب تمويل المشاريع التنموية والاستثمارية، وتحسين ظروف عيش الطبقات الضعيفة. كما يؤدّي خيار التداين لتغطية نفقات الاستهلاك والتصرّف – وإن حقّقت انفراجا “وهميّا” على المدى القريب- إلى العودة إلى المربّع الأوّل من العجز والاختلال في الموازنات المالية وإدخال الاقتصاد في دائرة مفرغة يتزايد فيها طلب الدولة على القروض وذلك للإيفاء باستحقاقات المديونية القديمة من جهة ولضخ مزيد من السيولة في الدورة الاقتصادية المنهكة من جهة أخرى.