يعقد مجلس النوّاب يومي الجمعة والسبت، 16 و17 سبتمبر جلسة عامة للنظر أخيرا في مشروع القانون عدد 2015/68 أو ما يعرف بمشروع قانون الاستثمار الجديد. هذه المجلّة التشريعيّة المنظّمة لقطاع الاستثمار كانت واحدة من أهم المشاريع الملحّة بعد 14 جانفي 2011، وقد خضعت منذ اعداد نسختها الأولى في سنة 2012 إلى تعديلات كثيرة نظرا لتداخل الأطراف المعنية بها في الداخل والخارج.
النسخة الأخيرة المعدّلة بدورها عن آخر ورقة تم اعدادها في نوفمبر 2015، ستكون محور نقاش النواب في الساعات المقبلة في جلسة قد تحمل الكثير من الخلافات لاستمرار هنّات مشروع قانون صيغ على قاعدة ترضية أصحاب النفوذ والتزاما بأجندات دولية قد لا تخدم الحاجات الحقيقية والعاجلة لواقع الاستثمار في البلاد.
مجلة الاستثمارات: ثمرة الضغوطات الدولية
مشروع مجلة الاستثمار لم ينبع في منشئه الأصلي من حاجة محلية، فرضتها سياسة تونسية صرفة. وإنما حِيكت فصوله تحت ضغوط هيئات النقد الدولية، التي سرعان ما تحوّلت إلى تعهدات والتزامات أمضى عليها الطرف التونسي أو عبّر عنها في مراسلات سرية مكتوبة.
أدّى الوضع السياسي والاقتصادي الذي أفرزته الثورة سنة 2011 إلى إعادة التفكير في ملف الاستثمار، الذي ظل عدة سنوات مُسخّرا لخدمة مصالح النظام السابق والعائلة الحاكمة. وفي خضم التحوّل الجديد كانت هيئات النقد الدولية ومراكز النفوذ العالمية تُراقب مسار الحراك السياسي في تونس، محاولة جذبه لنقطة التقاطع مع أهدافها. وإثر صعود حركة النهضة وحلفاءها للحكم بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، برزت ملامح مفاوضات أوّلية بين حكومة حمادي الجبالي وصندوق النقد الدولي، كان ملف الاستثمار من أبرز نقاطها. إذ كشفت وثائق مُسرّبة نشرها موقع نواة في 17 أفريل 2013 عن مداولات جلسة عمل وزارية التأمت في 31 جانفي 2013 تحت إشراف الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، رضا السعيدي، موضوعها “التعاون مع صندوق النقد الدّولي”. وقد تناولت الجلسة المذكورة مضمون مشروع الاتفاق الائتماني مع صندوق النقد الذي تبلغ قيمته 1,14 مليار دولار، وكان من بين الإجراءات والمعايير الهيكلية التي اقترحها الصندوق “اعتماد مجلة الاستثمارات دون أي إجراء جبائي”.
تلت هذه الجلسة رسالة نوايا سرية بعث بها كل من محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ووزير المالية السابق إلياس الفخفاخ إلى كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، في فيفري 2013. وقد تضمّنت في محور الإصلاحات الهيكلية إشارة إلى مجلّة الاستثمار التي تعهّد الطرف التونسي بأن تسمح “بالمنافسة العادلة” بين الشركات المحلية والأجنبية، وأن تتضمن نظام حوافز مُبسّط وشفاف وخال من الإجراءات الجبائية، وقد ورد بذات الرسالة تعهّد بضمان حرية الاستثمار ورفع القيود الإدارية، ومكافحة الاحتكارات من أجل توفير “فرص متكافئة” أمام المستثمرين الأجانب.
تعاقب الحكومات، لم يعدّل من التصورات الاقتصادية للهيئات النقدية ومراكز النفوذ العالمية، التي تقوم أساسا على التحرير الكلي للاستثمار ورفع القيود الجبائية والإدارية عن المستثمرين الأجانب. وعادة ما يتم اللجوء لفرض هذه التصورات مقابل تسهيل الاقتراض، إذ كان التسريع بالمصادقة على مجلة التشجيع على الاستثمار ضمن لائحة الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي مقابل قرض قيمته 2,8 مليار دولار تحصلت عليه تونس في فترة حكومة الحبيب الصيد، في إطار ما يُعرف بـ”دعم برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل”. وفي هذا السياق كشفت رسالة النوايا الثانية التي بعث بها محافظ البنك المركزي الشادلي العياري ووزير المالية السابق سليم شاكر للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، في 2 ماي 2016، عن تعهّد الطرف التونسي بالتسريع بالمصادقة على مجلة التشجيع على الاستثمار، وفق مقاربة قانونية تضمن حماية المستثمرين.
لم يكن الضغط الدولي من أجل المصادقة على مجلة التشجيع على الاستثمار مُقتصرا على الهيئات النقدية، فقد اشترطت الولايات المتحدة الأمريكية على الحكومة التونسية الالتزام بالمصادقة على مجلة الاستثمار ونشرها بالرائد الرسمي في أجل لا يتجاوز 30 سبتمبر 2016، مقابل الضمان في القرض الرقاعي الذي أصدرته تونس بالسوق المالية العالمية في 3 جوان 2016 بقيمة 500 مليون دولار.
الاستثمار الأجنبي: وَهْم المردوديّة
تشير السّلطات التونسية إلى الاستثمار الأجنبي بوصفه ضرورة ملحّة للنهوض بالاقتصاد الوطني و”دفع عجلة التنمية”، وهو ما يطرح تساؤلا مُهمّا حول مردودية السياسة الاستثمارية؟
تبلغ مساهمة الاستثمار الأجنبي حوالي 3,5 بالمائة من إجمالي الناتج المحليّ حسب إحصائيات رسمية نشرها البنك المركزي في سنة 2012، وترتكز الاستثمارات الأجنبية بالأساس على قطاع الطاقة الذي يستأثر بالقسط الأكبر بقيمة بلغت 886 مليون دينار سنة 2012، وقطاع الصناعات التحويلية 553 مليون دينار حسب نفس المصدر. ويكشف التركيز على هذه القطاعات الريعية عن توجه الاستثمار الخارجي نحو تحقيق الربح السريع من خلال توظيف اليد العاملة الرخيصة والتمتع بالحوافز الجبائية المبالغ فيها. وبالمقابل فشلت تونس في استقطاب الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية الموجهة للتصدير، الذي ظل أملا معلقا منذ مطلع الثمانينات.
تكشف أيضا خارطة الاستثمارات الأجنبية عن تهافت خطاب تطويع الاستثمار لتقليص الفوارق بين الجهات ودفع عجلة التنمية، إذ يتركّز أكثر من 93 بالمائة من الشركات الأجنبيّة في العاصمة والشريط الشرقي للبلاد–حسب دراسة أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار أواخر سنة 2012- وهو ما يعزز انسجام الاستثمار الاجنبي مع السياسات التنموية المهيمنة التي لم تفلح في تقليص الهوة بين المركز والأطراف.
قانون استثمار جديد لتعويض افلاس سابقه
سعت الدولة منذ تسعينات القرن الماضي لتشريع نصوص تشجّع على الاستثمار في مختلف مناطق البلاد، فصدرت مجلّة الاستثمار في 27/12/1993، وقد تضمّنت فصولا تقدّم تسهيلات جبائيّة واداريّة للمؤسّسات التصديريّة المحلية والأجنبية، إضافة إلى حوافز لتشجيع الاستثمار في المناطق الداخليّة قصد محاولة التقليص من الاختلال على مستوى التنمية الجهويّة.
ولكن هذه المجلّة أثبتت عجزها عن الاستجابة لحاجات المناطق الداخليّة للاستثمار وكشفت العديد من نقاط القصور في نصوصها خصوصا وأن المستثمرين ظلّوا متردّدين ازاء انجاز مشاريعهم في تلك المناطق، وهو ما بان جليّا بعد 14 جانفي 2011. إذ اقتصرت الطفرة “الاستثمارية ” إن صحّ التعبير على المدن الكبرى والمناطق الصناعية في العاصمة والساحل. حيث كشفت دراسة صادرة عن وزارة التكوين المهني والتشغيل سنة 2013 أنّ الشريط الشرقي استأثر ب81 بالمائة من الاستثمارات الخاصّة خلال الفترة الممتدة بين سنوات 1992 و2011.
وعلى مستوى الكيف، توجّهت أغلب الاستثمارات الخاصّة خلال تلك الفترة نحو إلى قطاعات ذات قيمة مضافة منخفضة، تنشط بالأساس في مجال المناولة التي ترتكز على اليد العاملة ذات المهارات المتوسّطة والكلفة المنخفضة كالنسيج والاكساء والجلود وصناعة المكوّنات الكهربائية والالكترونية. وقد انعكس هذا التوجّه على سوق التشغيل، حيث تتعارض هذه الهيكلة الاقتصادية للإنتاج الصناعي -والتي تتسّم بضعف المحتوى المعرفي- مع معدّل خرّجي الجامعات البالغ 70 الفا سنويا.
هذا العجز في استقطاب الاستثمارات الى داخل البلاد، وانعكاساته على حالة السلم الاجتماعي والتوازن الديمغرافي، جعل من الضروريّ اصلاح التشريعات المتعلّقة بالاستثمار وبحث مواطن الخلل في المجلّة القديمة، فكانت مهمّة اعداد مجلّة استثمار جديدة أحد أهم أولويات الحكومة الجديدة إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011.
المسودّة الأولى التي قدّمت للنقاش في السنة الموالية، ظلّت تخضع للتعديل والتأخير إلى حدود النسخة شبه النهائية في نوفمبر 2015. لكنّها ظلّت متذيّلة قائمة المشاريع المقدّمة للجلسات العامة، تزامنا مع تقديم مشاريع أخرى على غرار مشروع قانون استقلالية البنك المركزي، أو قانون المؤسسات المالية والبنكية وغيرها من التشريعات المرتبطة بالتزامات أو إملاءات أجنبيّة.
اجترار الإخلالات ومزيد من الترضيات لرأس المال
النسخة الجديدة والمعدّلة من مشروع قانون الاستثمار في تونس، والتي تمّ نشرها للعموم في الموقع الرسمي لمجلس نواب الشعب، أثارت حفيظة العديد من المختصين في الشأن الاقتصادي. حيث تمّ تسجيل العديد من الهنّات او الاخلالات إن صحّ التعبير على مستوى الامتيازات الممنوحة للمستثمرين الأجانب بالأخصّ، او على صعيد دور الدولة في دعم الاستثمار، إضافة إلى معضلة التفاوت الجهوي.
الفصل الخامس الذّي اثار جدلا بخصوص تملّك الأجانب للأراضي الفلاحية في النسخة القديمة من المجلّة، وإن تمّ تعديله ومنع تملك الأجانب بشكل صريح للأراضي الفلاحية، فإنه لم يستثن الفضاءات اللوجسيتية كالموانئ والمطارات على الرغم من أهميتها الاستراتيجية. أمّا الصيغة التي تمّ من خلالها السماح للشركات التونسية بامتلاك الأراضي الفلاحية على معنى القانون عدد 56 لسنة 1969 المؤرخ في 22 سبتمبر 1969، فظلّت فضفاضة، على اعتبار عدم تحديد نسبة معيّنة لمساهمة رأس المال الأجنبي في الشركات أو الاستثمارات التونسيّة. وهو ما يضمن في حال إقراره حصر القرارات الهامة على غرار الترفيع في رأس المال او تعديل القانون الأساسي أو ضبط سياسات المؤسسّة لدى المساهمين من ذوي الشخصية المادية التونسية.
من جانب آخر، يعتبر الفصل السادس من مشروع قانون الاستثمار الجديد القاضي “بانتداب إطارات من ذوي الجنسية الأجنبية في حدود 30 بالمائة من العدد الجملي للإطارات بالمؤسسة” انتهاكا خطيرا لأولوية التونسيين في الانتفاع بفرص التشغيل. خصوصا مع العدد المتزايد للمعطّلين عن العمل والذي تجاوز 750 ألف سنة 2016. كما يمثّل هذا الفصل وجها آخر من أوجه تكريس التبعية التكنولوجية، وتطبيقا لسياسة احتكار المعرفة، حيث يكمن الهدف الأساسي من هذا الإجراء إلى منع الإطارات التونسية من الاستفادة من نقل التكنولوجيا المتطورة والتدرّب على ما قد يجلبه المستثمر الأجنبي من معدّات حديثة.
هذا وقد اشارت الدراسة الصادرة عن جمعية سوليدار بخصوص مشروع مجلة الاستثمار الجديدة إلى خطورة تحويل الأرباح والأجور إلى الخارج بالعملة الصعبة، والواردة في الفصل العاشر من هذا المشروع، حيث ستساهم عمليات التحويل العشوائية والضخمة إلى المسّ من احتياطي البلاد من العملات الأجنبيّة، في ظلّ وضع اقتصاديّ متدهور وتراجع كبير لسعر صرف الدينار التونسي.
من جهة أخرى، يؤكّد هذا الفصل طبيعة الاستثمارات المستهدفة، والتي تتركّز في تونس للاستفادة من التسهيلات الجبائية والتشريعات المتساهلة وانخفاض كلفة اليد العاملة، لتحوّل انتاجها وأرباحها خارج البلاد، دون أن تساهم بشكل فعلي في دعم الاقتصاد المحليّ، وهو ما يحول البلاد إلى مجرّد ورشة، إضافة على ضرب مقوّمات الصناعة الوطنية التي لا تمتلك قدرة تنافسية.
في المقابل، يقدّم العنوان الخامس لمشروع القانون والخاص بالحوافز والمنح في الفصلين 19 و20، امتيازات كبيرة للمستثمر على حساب الدولة. إذ تتكفل هذه الأخيرة بمنح التكوين، وإعداد البنية الأساسية، والتغطية الاجتماعية إضافة إلى طرح الأرباح من قاعدة الضريبة على الشركات. وهو ما يعني مصاريف إضافية لميزانية تجاوز عجزها 6500 مليون دينار لسنة 2016، وتتقلّص مواردها باعتراف مسؤوليها وعلى رأسهم رئيس الحكومة سنة بعد سنة وتسير باتجاه انتهاج سياسة التقشّف.
العنوان الرابع من مشروع القانون الخاص بالاستثمار، يمثّل أحد الأبواب الكبرى نظرا لاستحداثه ثلاث هيئات عمومية جديدة تعنى بالاستثمار الخاصّ. وهي المجلس الأعلى للاستثمار، الهيئة التونسية للاستثمار والصندوق التونسي للاستثمار. هذه المؤسسات العمومية الجديدة التي ستُسخّر بحسب مشروع القانون لخدمة المستثمر المحلي والأجنبي ستقتطع مواردها من ميزانية الدولة المثقلة أصلا بعجز متزايد. إذ أن احداث هيئات بمثل ذلك الحجم المنصوص عليه سيكلّف الدولة موارد إضافية وأعباء مادية وبشرية جديدة هي في غنى عنها. كما أنّ الفصول التي تضمّنت تركيبة ووظيفة تلك الهيئات لم توضّح علاقتها مع المؤسسات والهياكل المعنية بالاستثمار قائمة الذات، وهو ما قد يسبّب ارتباكا واختلاطا في الوظائف والقرارات ويعمّق مشكلة البيروقراطية التي تعاني منها الإدارة التونسية.
أما النقطة الأخيرة، فتشمل صغار المستثمرين، حيث لم يتضمّن مشروع القانون الجديد، إشارة واضحة ومستضيفة لصغار المستثمرين والباعثين الشبّان، خصوصا وأنّ هذه الفئة تمثّل 80 بالمائة من نسيج الصناعيين التونسيين، مما يُحيل إلى أنّ هذا القانون قد فُصّل قياسا على مصالح فئات او جهات دون غيرها.
iThere are no comments
Add yours