تصوير فتحي بلعيد

الهَوَس بالمستقبل السياسي -الذي يبدو غامضا ومُعقدا في ظل إكراهات الواقع وتجدّد الفاعلين في السلطة- كَشف عن تقاطع مصالح بين الحزبين الحاكمين ولوبيات الفساد، تغلّف برداء العقل والحكمة والدستور ولكنه ينطوي على مؤشرات جبهة أحزاب-لوبيات تعمل على إعادة الرصيد الرمزي والسياسي لمنظومة التوافق الحزبي الذي تَناقص لصالح رئيس الحكومة وتحالفاته الحزبية والاقتصادية.

يوسف الشاهد أمام اختبار الترويض

الخطاب السياسي لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي لم يَخرج كعادته عن أسلوبي التعميم والإضمار، ولكنه كان مُثقلا بالرسائل السياسية. وأثناء استعراضه للموقف من “الحملة على الفساد” ذهب إلى إبراز جوانبها السلبية، مشيرا إلى أنها تشبه الحرب وهو ما جعلها تخرج عن السيطرة وتذهب في اتجاه الانفلات من خلال اللجوء إلى القوانين الاستثنائية التي لم تمانع حركة النهضة في استخدامها آنذاك. الخروج عن السيطرة يعني في تصور راشد الغنوشي توظيف تلك الحملة من أجل تعزيز الرصيد السياسي لرئيس الحكومة وبعض وزرائه. وهذا ما يزعج حركة النهضة التي التمست بروز نزعة حكم جديدة، تريد الاستقلال بقراراتها عن ضوابط التوافق الحزبي، خاصة وأن قرارات الإيقاف جرى الإعداد لها في دائرة حكومية ضيقة وفاجأت بعض قادة الأحزاب الحاكمة، مثلما ظهر في ردود فعل عدد من قيادات نداء تونس.

محور الفساد، هذا المنبع الجديد الذي ينهل منه الشاهد رأسماله السياسي، بات من الواجب اتخاذ قرار بتجفيفه. من هذا المنطلق جاءت الدعوة المُضمرة إلى إيقاف “الحملة على الفساد” من خلال حث الحكومة على الانشغال بإدارة الشأن العام والتنظيم اللوجستي للانتخابات القادمة والانكباب على حل المشاكل الاقتصادية. وبالتزامن مع ذلك يجب الاشتغال على إضعاف الرصيد الشخصي الذي غنمه يوسف الشاهد من خلال التلويح بتحجيم مستقبله السياسي وإلزامه بالعودة إلى منظومة التوافق الحزبي، من هنا انبثقت الدعوة إلى عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية 2019، وقد ذكّره راشد الغنوشي بأن مشاريع القوانين الحكومية لم تكن لتمر لولا موافقة كتلتي نداء تونس والنهضة.

حركة النهضة لا ترى في يوسف الشاهد ضمانة سياسية وبديل مُحتمل للرئيس السبسي لأنه يريد توسيع تحالفاته الحزبية وينزع نحو الاستقلال ببعض قراراته، وبالتالي تسعى إلى ترويضه وكبح جماحه في الوقت الراهن ولما لا الإعداد لإزاحته مستقبلا. وتتقاطع هذه الرغبة مع حسابات شبكة المصالح المؤثرة في نداء تونس، التي لا ترى في الحكومة -بتركيبتها الحالية- تعبيرا عن طموحاتها السلطوية، وبالتالي تدعو إلى التحوير الوزاري وتفكيك الحزام الحزبي المحيط بيوسف الشاهد، وهو ما عبّر عنه خالد شوكات، القيادي في حركة نداء تونس، عندما قال “نحن نريد أن نحمي يوسف الشاهد من محيطه الذي يود استثماره”.

التوافق، إيديولوجيا النهضة لتثبيت الهيمنة

أشاد راشد الغنوشي في حواره الأخير بما أطلق عليه “الديمقراطية التوافقية”، هذا المصطلح الجديد في الممارسة السياسية التونسية صنعه الغنوشي على مقاس حركته، ليصبح وعاءا لتصوراتها السياسية. يستمد هذا المصطلح شرعيته التاريخية -في نظر الغنوشي- من اللقاء الذي جمعه بالرئيس الباجي قائد السبسي صيف 2013 إثر الأزمة التي خلفها اغتيال الشهيد محمد البراهمي. هذا التوافق تعتبره حركة النهضة تنازلا سياسيا للأقليات الحزبية، في حين أنه ساهم في إخراجها من عزلتها السياسية في الداخل والخارج التي أدى إليها مشروعها السلطوي في الفترة الممتدة بين أكتوبر 2011 وجويلية 2013.

بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية أواخر 2014، استمرت حركة النهضة في الاستظلال بمفهوم التوافق من أجل ضمان التأثير في منظومة الحكم دون حصاد استتباعات التموقع في السلطة، مثلما حصل في الفترة السابقة. وقد كثفت استفادتها من منظومة التوافق أثناء الحالة الانقسامية التي شهدها نداء تونس، إذ سعت إلى الظهور في صورة المترفّع عن الخلافات الحزبية والحامي لمنظومة التوافق من الانقسامات الداخلية لحليفها. وعلى مستوى الحكم استفادت من تأثيرها في مراكز القرار الحكومي، زمن حكومة الصيد، في ظل انغماس نداء تونس في صراعاته المتعددة. هذا التأثير تواصل حتى مع قدوم حكومة الشاهد التي تعزز فيها الرصيد الوزاري لحركة النهضة، ولكن اتجاه رئيسها نحو توسيع القاعدة الحزبية لحكومته وتقريب أحزاب صغيرة أزعج حركة النهضة، وهو ما عبر عنه صراحة حسين الجزيري، القيادي في حركة النهضة في حوار صادر بجريدة المغرب اليوم الثلاثاء، أشار فيه إلى أن “هناك حزبان كبيران، لكن هناك شعور ما بأن الأحزاب الصغيرة هي النافذة وهو ما لاحظناه من بروز وزرائها في الحكومة، على حساب وزراء حركتي النهضة ونداء تونس. وهو ما خلّف شعورا بالغبن”.

خروج يوسف الشاهد عن ضوابط التوافق الحزبي المعهود والبحث عن قاعدة سياسية جديدة للحكم، من شأنه أن يضعف التأثير السلطوي لحركة النهضة، وهو ما جعلها تضعه أمام خيارين: إما العودة إلى حظيرة التوافق أو التضحية بالمستقبل السياسي. وتستعين حركة النهضة في هذا الاتجاه بالنسخة الأخيرة من نداء تونس وبلوبيات المال والإعلام التي تستشعر تهديدا حكوميا في إطار الحرب على الفساد، على غرار نبيل القروي، مالك قناة نسمة.