أسقط قيس سعيّد في مسودّة دستوره باب الهيئات الدستورية، وهو موقف مُنتظَر من شخص لم يُخف رفضه لفكرة الأجسام الوسيطة الّتي تحدّ من احتكار الجهاز التنفيذي لممارسة السّلطة. فكرة الهيئات المستقلّة انبثقت عن إرادة المُشرّع، خلال سنوات تأسيس الجمهورية الثانية، وضع أحزمة تحيط بالسلطة التنفيذيّة وتطوّقها لتجنّب تغوّل الجهاز التنفيذي للدّولة الّذي أحكم قبضته على السلطات التشريعية والتنفيذيّة والقضائيّة والإعلام. ولكنّ فشل الطّبقة الحاكمة طيلة العشريّة الماضية في تفعيل الدّستور وانتخاب أعضاء الهيئات المستقلّة فسح المجال أمام قيس سعيّد لإلغائها تمامًا من الدستور والإبقاء فقط على هيئة الانتخابات.

 

الهياكل المهنية في مواجهة السلطة المطلقة للرئيس

 

يعتبر محمّد ياسين الجلاصي، رئيس النقابة الوطنية للصحفيّين التونسيّين، أنّ عدم التنصيص على هيئة دستورية تنظم قطاع الإعلام في مسودّة الدستور يعتبر “تراجعا خطيرا”، تصبح معه الحكومة هي الجهة التي تمنح إجازات البثّ والتي تعاقب وسائل الإعلام، “وهو ما يتعارض مع ما حققته تونس في مجال حرية الإعلام ومع المعايير الدولية التي تتحدث عن سلطة تعديل مستقلّة.

هذا الموقف دعّمه بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الصادر يوم 05 جويلية، الذي عبّرت فيه النقابة عن رفضها لمشروع الدستور المعروض على الاستفتاء لعدم استجابته لمبادئ حرية الصحافة والتعبير، معتبرةَ أنّ إلغاء باب الهيئات الدستورية وتحديدا هيئة الاتصال السمعي البصري “يفتح المجال أمام السلطة التنفيذية بالتدخل المباشر في قطاع الاعلام عبر منح إجازات البث وسحبها وتسليط العقوبات، وهو ما يتعارض مع مكاسب الثورة والمعايير الدولية وتعديل الإعلام بطريقة تشاركية وعبر هيئات دستورية مستقلة وفاعلة ويرجعه إلى مربع هيمنة السلطة ومحاولة توظيفه وضرب استقلاليته”.

مخاوف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيّين تتقاطع مع ما صرّح به هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري، لنواة:

مع الأسف، كُنّا ننتظر أن تبقى الهيئات الدستورية موجودة في مشروع الدستور الجديد (…) هل سنعود إلى المربّع الأوّل حيث يكون الإعلام تحت تصرّف السلطة التنفيذيّة وجزءًا منها؟

وقد سعت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري إلى فرض مشهد تعدّدي خلال تغطية حملة الاستفتاء، من خلال القرار المشترك المتعلّق بضبط القواعد الخاصّة بتغطية حملة الاستفتاء بوسائل الإعلام والاتصال السمعي والبصري وإجراءاتها، الّذي صدر يوم الجمعة 01 جويلية. حيث ينصّ هذا القرار في فصله الرابع عشر على “اختيار الضيوف على أساس التنوّع والمساواة وعدم إقصاء أيّ طرف” .فيما ينصّ الفصل التاسع عشر على “ضمان حقّ النفاذ إلى وسائل الإعلام لمختلف الحساسيات الفكرية والسياسية”، في حين أرادت هيئة الانتخابات أن تقتصر المشاركة في حملة الاستفتاء على الأطراف التي أُدرجَت أسماؤها ضمن “قائمة المقبولين للمشاركة في حملة الاستفتاء” والبالغ عددهم 161 طرفًا، بين جمعيات وأحزاب وأشخاص ماديّين. “الهيئة قرّرت عدم الإمضاء على قرار مشترك يمسّ الحق في النفاذ إلى وسائل الإعلام وفي توفير فضاء ديمقراطي لمختلف المكوّنات”، يؤكّد عضو هيئة الاتصال السمعي البصري لنواة.

 

محاولات وضع اليد على الإعلام

 

يخضع تنظيم الإعلام السمعي البصري إلى المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلّق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث الهيئة العلياالمستقلة للاتصال السمعي والبصري، في انتظار سنّ نصّ تشريعيّ تتمّ المصادقة عليه في البرلمان. وقد نصّ دستور 2014 في بابه السادس على الهيئات الدستورية المستقلّة التي تتمتّع بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية، ومن بينها هيئة الاتّصال السمعي البصري الّتي لم تتكوّن إلى حدود 25 جويلية 2021. وعلى عكس بقيّة الهيئات الدستورية، لم يُصادق البرلمان على الإطار التشريعي المُنظّم لهذه الهيئة، واكتفى بمناقشة نسخة أولى من مشروع القانون المنظّم لهذه الهيئة الدستورية داخل لجنة الحقوق والحريّات في البرلمان في عهد حكومة يوسف الشاهد في فيفري 2018.

وفي ماي 2020، طرح “ائتلاف الكرامة” مبادرة تشريعية على البرلمان المُنحلّ تنصّ على تغيير طريقة تعيين أعضاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي تمّ تأسيسها بمقتضى المرسوم عدد 116، ليتمّ انتخابهم من البرلمان بالأغلبيّة المطلقة، وإلغاء نظام الإجازة لبعث وسيلة إعلامية سمعية أو بصريّة وتعويضها بنظام التصريح. وهي مبادرة رفضها عدد من الكتل البرلمانيّة والهياكل المهنيّة في قطاع الإعلام، ولكنّها مرّت إلى الجلسة العامّة بعد المصادقة عليها داخل اللّجنة البرلمانيّة المختصّة.

أمّا بعد  25جويلية 2021، فقد تراجعت حريّة الإعلام بإحدى وعشرين مرتبة حسب المؤشر السنوي لمراسلون بلا حدود، وهو ما يؤكّده تواتر التضييقات على الصحفيين أثناء أدائهم لعملهم والسياسة الاتصاليّة الأحاديّة التي تنتهجها “مؤسسة” رئاسة الجمهورية. بالإضافة إلى ذلك، سعى عدد من المكوّنات المدنيّة والجمعيّات إلى تنظيم ندوات واستشارات حول تنقيح المرسوم 115 المتعّلق بحريّة التعبير والمرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، وهو ما استنكرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وعدد من الهياكل المهنيّة الناشطة في قطاع الإعلام من خلال بيان صدر في 27 أفريل 2022، رفضت فيه “أن يكون أي نقاش في الإطار التشريعي والهيكلي لممارسة المهنة وتعديلها دون مشاركة الهياكل المتداخلة في المشهد الإعلامي”.

وفي هذا السياق، يقول رئيس النقابة الوطنية للصحفيّين التونسيين إنّه من الوارد أن يتمّ إيقاف العمل بالمرسومَين 115 و116:

من بوادر النيّة السيّئة في إيقاف العمل بالتشريعات الحاليّة أنّ مسودّة دستور الصادق بلعيد نصّت على مواصلة العمل بهيئة الاتصال السمعي البصري الحاليّة إلى حين إحداث الهيئة الدستورية الجديدة، وهو ما تمّ إلغاؤه في مرسوم قيس سعيّد، ممّا يعكس نيّته في وضع يده على مختلف المرافق، بما في ذلك الإعلام، وإلغاء العمل بالمرسومين المذكورَين حتّى يتسنّى له التصرّف كما يريد،

يُصرّح محمّد ياسين الجلاصي لنواة.

كما صادقت الحكومة في المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 27 جوان على مشروع مرسوم يتعلّق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وهو ما يعزّز المخاوف حول مزيد التضييق على حريّة التعبير في الفضاءات الرقمية، في انتظار صدور النصّ وتبيّن ملامحه العامّة.

مؤشرات عدة تؤكد على دقة المرحلة في قطاع الاعلام وأن المواجهة قادمة لامحالة، بين هياكل المهنة الصحفية وبين دولة الرئيس ومريديه. مواجهة تذكرنا بأخرى، حاولت فيها النهضة بسط نفوذها على الاعلام وهياكله وانتهت بفشل نهضوي ذريع، دفعها لتغيير سياستها أو التظاهر علنيا بذلك. فهل يتعظ الساسة الجدد بتجارب من سبقهم؟ وهل تكفي التطمينات والوعود الشفاهية للرئيس سعيد بعدم المس من حرية الاعلام؟ في الوقت الذي يعد فيه قوانين بديلة دون أدنى تنسيق مع هياكل المهنة الصحفية.