خلال خطاب أدائه اليمين الدستورية  في أكتوبر الماضي بعد فوزه بولاية رئاسية ثانية، ذكر الرئيس قيس سعيد 3 نقاط هي التي حددت ملامح مجلس النواب واعتبرها نقاطا مضيئة، وقال في خطابه الذي قارب الساعة إنه ”لا مكان لمن يرتمي في أحضان دول الاستعمار كمن يسرق من بيت أبيه فلا أبوه سيصفح عنه ولا الذي اشترى منه بضاعته المسروقة“. وردّد بغضب أنه ”لا وجود عندنا لمصطلح التطبيع مع الكيان المغتصب مع الكيان المجرم“ وأثنى على النواب الذين صادقوا على تنقيح القانون الانتخابي قبل أيام من الاقتراع قائلا ”آخر توافق إجرامي هو محاولة إدخال البلاد في صراع شرعيات وإدخال تونس في أتون اقتتال داخلي والحمد لله تعالى أن تداعى النواب فأسقطوا المخططات التي كان عملاء الصهيونية العالمية وأعضاء المحافل الماسونية رسموها وحددوا حتى الموعد بهدف تحقيقها“.

من المفارقات أن تلك النقاط التي تباهى بها سعيّد هي من ضمن أكبر الدلائل على امتداد يد السلطة التنفيذية داخل البرلمان، فالرئيس الذي ندد بالارتماء في أحضان دول الاستعمار قدم قوانين للاقتراض من إيطاليا وفرنسا، وهو حسب إبراهيم بودربالة رئيس البرلمان، من وقف أمام المصادقة على قانون تجريم التطبيع، كما أن مبادرة النواب الذين صادقوا على تنقيح قانون الانتخابات قبل فترة وجيزة من يوم الاقتراع، تعتبر مخالفة قانونية ترقى إلى الفضيحة.

27 سبتمبر 2024 باردو – صورة من الجلسة الاستثنائية التي أقرها البرلمان لتنقيح قانون الانتخابات والاستفتاء لتجريد المحكمة الإدارية من صلاحيات النظر في الطعون الانتخابية – مجلس نواب الشعب

قبة التداين

خلال لقائه بفتحي النوري محافظ البنك المركزي، قال الرئيس قيس سعيد إن ”التجربة أثبتت أنّ هذا المسار في التعويل على الذات أثبت نجاحه، ويجب المضيّ قدما إلى الأمام في هذا الاتجاه“، وهي ليست المرة الأولى التي يردد فيها سعيد هذا الخطاب، في المقابل علت أصوات من داخل مجلس النواب ضد الدور الذي اقتصر عليه البرلمان منذ تشكيله وهو المصادقة على مبادرات القوانين الصادرة عن رئاسة الجمهورية وأغلبها قوانين اتفاقات قروض خارجية ومحلية، وهو ما حدا بالنائب عن جهة قفصة محمد علي، بوصف المجلس بأنه برلمان القروض.  يقول محمد علي في تصريح لنواة:

هناك نواب غير راضين عن أداء مجلس النواب. لم يستطع المجلس أن يحقق استقلاليته عن السلطة التنفيذية، حيث تُفرض السلطة التنفيذية توجهاتها على البرلمان حتى تضمن تحسين حالها لا من أجل القيام بإصلاحات. منذ صعود نواب المجلس الجديد، يتلقى مكتب المجلس قوانين يُستعجل فيها النظر صادرة عن الحكومة أو الرئاسة، بما في ذلك اتفاقات القروض، فقد صادق المجلس خلال عام واحد على قرابة 25 قرضا أغلبها غير موجهة للاستثمار أو الإصلاح.

ووصف النائب ضغوط السلطة التنفيذية ومحاباة مكتب المجلس لمبادرات القوانين الرئاسية بما في ذلك التي تخص القروض على حساب مبادرات النواب بأنها استهانة بمجهود النواب، مضيفا ”نحن نتعرض لضغوط كبيرة من السلطة التنفيذية تجبرنا على الانسجام مع ما تريده وذلك باستعمال كل وسائل الضغط. فخلال مناقشة قانون المالية أسقطت وزيرة المالية الفصول التي تنصف المتقاعدين وذوي الإعاقة مثلا من القانون، وهنا لا تُلام الوزيرة وحدها لأن الجميع يعلم أننا في منظومة رئاسية وأن الرئيس هو من يمسك بمقود السلطة وبالتالي فهو المسؤول عن غياب الإصلاحات بسبب غياب إرادة لذلك“.

على عكس الخطاب الرسمي، تُثبت الأرقام أن الدولة التونسية تعوّل بشكل أساسي على الاقتراض، حتى باتت المهمة الأساسية للبرلمان هو استعجال النظر للمصادقة على القروض. فقد تحصلت تونس على قروض صادق عليها مجلس النواب الحالي، بقيمة 810 مليون أورو أي ما يعادل 2683,85 مليون دينار بين العامين 2023 و2024، ممولة من إيطاليا والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية والبنك الأوروبي للاستثمار والوكالة الفرنسية للتنمية والمؤسسة الألمانية للقروض، إضافة إلى جهات إفريقية وآسيوية وعربية بقيمة 1.581,195 مليار دولار أي ما يعادل 5,02 مليار دينار في الفترة ذاتها.

حسب قانون المالية لسنة 2025، تطورت قيمة الاقتراض الخارجي بين العام 2021 و2024 من 7456 مليون دينار إلى 16445 مليون دينار، وهو ما يدعم التصريح الذي وصف فيه النائب محمد علي دور المجلس بأنه تحول إلى آلية للمصادقة على القروض.

30 جانفي 2025 تونس – النائب محمد علي ضيف نقابة الصحفيين للحديث عن تعطيل البرلمان لمشروع تنقيح المرسوم 54 – نقابة الصحفيين

يقول النائب محمد علي لنواة إن ”الحديث عن السيادة الوطنية يظل حبرا على ورق في غياب إرادة حقيقية لإصلاح التشريعات المنظمة للاستثمار والمياه والفلاحة والجباية. نحن ندافع عن السيادة الوطنية لكن للأسف لم نجد المجال المناسب في البرلمان، وفرص نجاح المجموعة التي تحاول المقاومة داخل البرلمان، ضعيفة لأن رئيس البرلمان خيّر أن يكون مطيعا للسلطة التنفيذية ولا يمكنه أن يعارض ما تفرضه على مجلس النواب. كنا نعتقد أن مكتب المجلس السابق هو أساس المشكل ويبدو أن المكتب الجديد يسير على خطاه، فقد وصلنا إلى مرحلة تُجمّد فيها أي مبادرة تشريعية لا تُعجب السلطة التنفيذية، وتحول المجلس من مؤسسة تشريعية تتناغم مع طموحات الشعب الاجتماعية والاقتصادية إلى مؤسسة تشريعية ترضي السلطة التنفيذية. هناك معادلة غير منطقية، فرئيس الدولة يرفع شعار تحقيق مطالب الشعب، لكن ألم يبلغ إلى مسامعه الاحتجاجات على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية حتى بات أغلب التونسيين يلعنون الثورة؟ أليس من أولوياته وأولويات الحكومة التفكير جديا في وضع خطط حقيقية لا شعارات، من أجل انتشال التونسيين من مستنقع الفقر؟“

الأولوية للرئيس داخل البرلمان

ظلّ القانون عدد 014/ 2023 المتعلّق بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني معلّقا منذ 2 نوفمبر 2023، رغم مروره للجلسة العامة والتصويت على فصلين منه، قبل أن يعلن رئيس البرلمان التونسي إبراهيم بودربالة خلال الجلسة عن تأجيل التصويت على مقترح القانون المذكور بسبب تحفظ  الرئيس قيس سعيد حول نص مشروع القانون الذي اقترحه النواب، وأنه طلب تأجيل جلسة التصويت لأن مقترح القانون ستكون له آثار سلبية على مصالح تونس وأمنها الخارجي.

جاء رفض قانون تجريم التطبيع في أوج حماس التونسيين لمساندة القضية الفلسطينية بعد شهر من اندلاع عملية طوفان الأقصى، وكان تعليق جلسة مناقشة قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني أولى نكسات البرلمان الذي لم تمض أشهر على بداية أشغاله، حتى تبيّن التدخل الكبير للرئيس سعيد داخله. يقول النائب محمد علي لنواة ”من الواضح أن مكتب المجلس يتجنب تمرير المبادرات التي لا تتوافق مع رؤية النظام السياسي الحالي، إذا صح القول إن لديه رؤية سياسية. هناك ضبابية داخل مكتب المجلس إضافة إلى أن موقف رئيس البرلمان غير واضح، فهو السبب في عرقلة المبادرات التي قد لا تعجب السلطة التنفيذية، والجميع يعلم ما قام به السيد إبراهيم بودربالة خلال طرح مشروع قانون تجريم التطبيع الذي بدأ النواب في التصويت على فصلين منه خلال جلسة عامة، قبل أن يتم تعليق النقاش بعد خطاب بودربالة الشهير في خرق واضح للقانون“.

لم يكن تعليق التصويت على قانون تجريم التطبيع السقطة الوحيدة للبرلمان، فبعد عام من ذلك، صادق مجلس النواب على تعديل القانون الانتخابي الذي سحب النظر في النزاعات الانتخابية من المحكمة الإدارية إلى القضاء العدلي، وذلك بعد أن اشتد الصراع بين هيئة الانتخابات التي مهدت لسعيد الطريق لخوض سباق مريح، وبين المحكمة الإدارية، ويصف النائب محمد علي المصادقة على تنقيح قانون الانتخابات قبل أيام من الاقتراع بالفضيحة، خاصة أنه وقع تمرير المبادرة التي تقدم بها مجموعة من النواب بسرعة قياسية على غير العادة مقابل بقاء 60 مبادرة سابقة تقدم بها نواب تهدف لإصلاحات في مجالات عديدة حسب قوله، ويضيف النائب ”بقيت مبادرة لإصلاح المرسوم عدد 54 الذي أمضى على طلب الاستعجال للنظر فيه ستون نائبا، قرابة عام في مكتب المجلس دون تمريرها للنقاش داخل اللجان ثم للجلسة العامة،  وعلمت أن هذه المبادرة ستُطرح للنقاش في الأكاديمية البرلمانية التي تحولت إلى آلية لتصفية المبادرات التشريعية التي قد تقلق السلطة، حيث تُطرح مشاريع القوانين التي لا يرضى عنها المجلس للنقاش في الأكاديمية بحضور جهة واحدة وهي السلطة التنفيذية من أجل تحويل آراء النواب ضد المبادرة وبالتالي أصبحت الأكاديمية بمثابة ”لوبينغ““.

أكد بيان مكتب مجلس النواب أن البرلمان يسير وفق ما تسطّره السلطة التنفيذية حيث جاء في البيان الصادر عنه بتاريخ 13 فيفري أنه توجد ”قناعة راسخة لدى نواب الشعب بالخيار الذي انتهجته الدولة في الدفاع عن سيادتها الوطنية والوقوف إلى جانب الوظيفة التنفيذية ومعاضدتها في كلّ ما من شأنه أن يسهم في الإصلاح، مع الحفاظ على التناغم الإيجابي معها“، واتهم البيان أطرافا مجهولة بالقيام ب”هجمات متكرّرة وشرسة للتشكيك في سلامة مسار  بناء تونس الجديدة  وصواب الخيارات المنتهجة“.

13 فيفري 2025 باردو – اجتماع مكتب البرلمان الذي صدر عنه بيان اتهام أطراف مجهولة بمهاجمة “مسار تونس الجديدة” – مجلس النواب

لا تختلف ملامح مجلس النواب الحالي عن المجالس التي سبقته، فالنائبة فاطمة المسدي، التي حافظت على وجودها في البرلمان وكانت جزءا من المشهد التشريعي منذ 2014،  أثارت السخرية أكثر من مرة آخرها مقترح تقدمت به للحد من هجرة الكفاءات وذلك بفرض دفع 50 بالمائة من تكاليف تعليمهم لصالح الدولة التونسية، إذا اختاروا الهجرة، ومبادرتها لترحيل المهاجرين غير النظاميين قسرا وطوعيا دون إلمامها الكامل بالمواثيق الدولية ، ولم تكن مبادرات المسدي الوحيدة التي أثارت السخرية، فقد تندر التونسيون بقانون المالية لهذا العام بسبب ما أطلق عليه فصل الطرشي بعد تمرير فصل يقر بتخفيض الأداءات الديوانية على  موردي المخللات، وهو فصل اقترحه نائب يملك شركة لاستيراد تلك المنتجات.

قد يذكر التاريخ أن عددا صغيرا من نواب برلمان قيس سعيد حاولوا جاهدين التصدي إلى تحويل مجلس نواب الشعب إلى مكتب ضبط لرئاسة الجمهورية وتعرضهم لضغوطات شديدة من رئاسة المجلس وباقي النواب المغالين في تملقهم للرئيس، إلا ان التاريخ لن يغفل الظرفية السياسية التي جاءت بهم إلى باردو بعد انتخابات ضربت رقما قياسيا في نسبة العزوف عن المشاركة وضياع مبادراتهم القليلة وسط ضوضاء التطبيل  والولاء المطلق لكل خيارات السلطة.